خورخي لويس بورخيس – (حُدود/اللحظات)- ترجمة: يوسف حنا

  1. حُــدود

 

من بين كلِّ هذه الشوارع الضبابيَّة عند الغروب

يجب أن يكون هناك واحداً (أيٌّ منها، لست متأكداً)

قد مشيت فيه بالفعل، للمرّة الأخيرة

دون تخمين مُسبَّق، كان الرهان على ذاك

الذي يضع قوانيناً كليّة النفوذ

ومقاييساً سريَّةً جامدة،

لكلِّ الظلال والأحلام والأشكال

التي تحبُكُ نسيجَ هذه الحياة.

 

إذا كان هناكَ حدٌّ لكلِّ الأشياءِ والتدابير

وإذا كانت مرَّة أَخيرة وليس أكثر ونسيان

من يقدر أَن يخبرنا: لمن في هذا المنزل،

دون دراية، قلنا وداعاً؟

 

خلال الزجاج المُغبش ينسحب الليل

وبين كومة الكتبِ التي تُلقي

ظِلّاً مكسوراً على الطاولةِ الباهتة،

لا بدَّ وأَنَّ واحداً منها لنْ أَقرأَهُ أَبداً.

 

في الجنوب هناك أكثر من بوابةٍ واحدةٍ بالية

بجرارها المقفلة والكمثرى الواخِزة

حيث يُمنعُ دخولي

كما لو كانت مخطوطة حجريّة.

هناك بابٌ قد أغلقتَه إلى الأَبد،

ومرآةٌ تنتطرُكَ عبثاً؛

يبدو لك مفترقَ الطريق مُشَرَّعاً أَمامَك

وَ “يانوس” (*) بأربعةِ وجوهٍ يراقب.

 

من بين كلِّ ذكرياتِك هناك واحدةٌ

فُقِدتْ دون عودة؛

ولن نراك بعد اليوم ذاهباً لذاك النبع

تحت الشمسِ البيضاءَ أو القمرِ الأَصفر.

لن تستطيعَ أَن تستعيدَ ما كانَ الفارِسِيُّ

يغنيه بلسانِ العصفور والوردة، (**)

بينما عند الغروب وقبل تشتُّتِ الضوء

تتطلعُ أن تعطي الكلماتِ لأشياءٍ لا تفنى.

 

ونهر الرون المتدفق بثبات والبحيرة،

وكل ما كان بالأمس والذي أتكئ عليه اليوم

سيكون في ضياع كما ضاعت قرطاج

التي عاقبها الرومان  بالنارِ والملح.

 

عندَ الفجر بدا وكأني أسمع اضطرابَ

وهمهمة الجُموع المتطاحنة والمُنسلَّة بعيداً

أولئك كلُّ الذين أَحببتهم ونسيتهم؛

والآن الفضاء، والوقت وبورخيس

يتركونني.

 

(*) يانوس (باللاتينيّة Janus) شخصية أُسطورية رومانية قديمة، وهو إله البدايات ، والبوابات ، والانتقالات ، والوقت ، والثنائية ، والمداخل ، والنهايات. يُصوَّر عادة على أنه وجهان ، نظرًا لأنه يتطلع إلى الماضي وإلى المستقبل.

(**) الإشارة هنا لرمزيّة الثنائي البُلبُل والوردة في الشعر الصوفي – وهما المظهران الماديان لمفهومين مجردين: الحب والجمال.

———————————————————————————

 

  1. الـلـحـظـات

 

لو استطعتُ أَن أَعيشَ حياتي مرَّةً أُخرى،

في الحياة القادمة، سأحاولُ

أَن أَرتكِبَ الكثيرَ من الأَخطاء،

ولن أُحاولَ أَن أبلغَ حدَّ الكمال،

سأَكونُ مُسترخياً أكثر،

وسأَكونُ أَكثرَ امتلاءً مِمّا أَنا عليه الآن،

في الحقيقة، سآخذُ أَشياءً أَقل على محملِ الجدِّ

سأُقللُ اهتمامي بالنظافة،

سأقومُ بالكثير من المخاطر،

وبالكثير من الرحلاتِ،

سوف أُشاهدُ المزيدَ من غروب الشمس

سوف أتسلقُ الكثيرَ من الجبال،

سوف أستحمُ أَكثر في الأنهر،

سوف أَذهبُ لأماكنَ عدَّة، لم أكن فيها من قبل،

سوف آكلُ الكثيرَ من البوظة وأقل من الفاصوليا،

سيكونُ لي المزيدُ من المشاكلِ الواقعيَّةِ وأَقل خياليَّة،

كنت واحداً من أولئك الناس الذين عاشوا

حياةً حكيمةً وغزيرةَ الإنتاج –

وفي كلِّ دقيقةٍ منها

كانت لي، بالطبع، لحظاتٌ من الفرح – ولكن،

لو كان بمقدوري أَن أَعودَ إِلى الماضي

لحاولتُ أَن تكونَ لي لحظاتٌ جيّدة،

 

إن كنتَ لا تعرف – فإن الحياةَ مصنوعةٌ من كل هذا،

فلا تخسر اللحظة!

 

كنتُ واحداً من أولئك الذين لم يذهبوا إلى أَيِّ مكانٍ

بدون ميزان حرارة،

بدون زجاجة ماء ساخن،

وبدون مِظلَّة،

 

إذا تمكنتُ من العيشِ مرةً أخرى – سأسافرُ برشاقة،

إذا تمكنتُ من العيشِ مرةً أخرى – سأُحاولُ أَن أَعملَ بقدمين عاريتين

من بدايةِ الربيعِ

حتى نهايةِ الخريف،

سوف أَركبُ المزيدَ مِنَ العرباتِ،

سوف أُشاهدُ المزيدَ مِن شروقِ الشمس وأَلعبُ معَ المزيدِ مِنَ الأَطفالِ،

هذا إِذا كان لديَّ حياة لأعيشَها – لكني الآن 85 عاماً،

– وأَنا أَعلمُ أَنَّني أَموت ….

 

التعليقات مغلقة.