ترجمة: لحسن الكيري
لقد سبق أن كتب غوستاف سبيلر بأن الأحلام تندرج في المستوى السفلي من نشاطنا الذهني. لا أُشاطِر هذا التصور الذي يبدو لي أنه يميل إلى الحطّ من الفن. لعل كل الفنون شكل من أشكال الحلم. هل حلمت بحياتي أم كانت حقيقة؟ بروعة يتساءل الشاعر النمساوي ولتر فون دير فيجيلو ايد. وتجمع بين الأدب الإنجليزي والأحلام علاقة عريقة. يشير الراهب بيدا المبجل إلى أن كايدمون شاعر إنجلترا الأول قد نظم أول قصيدة له وهو يحلم. ويعترف ستيفنسون بأنه حلم بتحول جيكييل إلى هايد وبالمشهد المركزي في قصته “أُولَالَا”. كما أن حلماً ثلاثياً مبنياً على الكلمات والهندسة والموسيقى قد أملى على كولريدج المقطوعة الرائعة “كوبلا خان”.
إن حالات الحلم كموضوع في الأدب أكثر من أن تُعد أو تُحصى. لكن ومما لا شك فيه أن أشهرها متضمن في الكتب التي خلف لنا لويس كارول. أليسيا تحلم بالملك الأحمر، والذي يحلم بها بينما يحذرها أحدهم بأنه إن حدث واستيقظ الملك فإنها ستنطفئ مثلما تنطفئ الشمعة، لأن الأمر لا يعدو كونه حلماً لدى الملك والذي تحلم به هي الأخرى. إنَّ حلمي أليسيا يكادان يندرجان في دائرة الكابوس. إن تفسيرات تينييل التي باتت الآن مفتاحاً لهذا العمل والتي لم تكن تروق لكارول، ما فتئت تشدد على التهديد الموحى به.
منذ الوهلة الأولى، تبدو مغامرات أليسيا غير مسؤولة بل واعتباطية تقريباً؛ غير أنه فيما بعد نتبين أنها تنطوي على مكر دقة لعبة الشطرنج ولعبة الورق، ولهذا فهي مغامرات من وحي الخيال. إن كارول، كما هو معلوم، كان أستاذاً للرياضيات في جامعة أوكسفورد، والمفارقات ذات الطبيعة المنطقية الرياضية التي يقترحها علينا هذا العمل الإبداعي لا تمنع من أن يكون هذا الأخير سحراً بالنسبة للأطفال.
في خلفية أحلام لويس كارول نستشف كآبة قابعة وبادية للعيان؛ إن وحدة أليسيا بين أشباحها ربما تعكس وحدة الأعزب الذي حاك هذه الخرافة الخالدة. عزلة رجل لم يجرؤ يوماً على الحب أبداً والذي لم يكن ذا أصدقاء آخرين غير بعض طفلات أمسى الزمن ينتزعهم منه انتزاعاً ولا حتى متعة أخرى غير فن التصوير المستهجن آنذاك. تبقَّت منطقة أخرى لم أقدر على تبينها والتي يحتقرها بعض العارفين، وهي تلك المتعلقة بمؤلف “مشاكل وسادة” الذي نسجه الكاتب كي يملأ ليالي السهاد كما يعترف هو نفسه بذلك ولكي يبعد عنه الأفكار السلبية التي كانت تقضُّ مضجعه. إن شخصية الفارس الأبيض الحزين، والقائم بأفعال عديمة الفائدة، هو صورةٌ طبق الأصل مقصودةٌ وإسقاطٌ ربما غير مقصود، على ذلك الريفي الذي أراد أن يكون دون كيخوتي. دون كيخوتي أو كيخانو الذي لا يعرف المرء إذا ما كان إنساناً فقيراً يحلم بأن يصبح ناصر مستضعفين قريباً من السحرة أم ناصر مستضعفين يحلم بأن يصبح إنساناً فقيراً. أتذكَّر الآن أن مارتن غاردنر يتكلم لنا، فيما يتصل بهذه الأحلام المتبادلة، عن إحدى البدينات التي تحاول أن ترسم رسَّامةً رشيقة والتي ترسم رسَّامةً بدينة والتي ترسم رسامة رشيقة وهكذا إلى ما لا نهاية.
إن القصة التي لا تنسى من كل قصص أليسيا هي تلك المتعلّقة بوداع الفارس الأبيض. ربما أن الفارس الأبيض كان متأثراً لأنه يعلم أنه كان هو الآخر حلماً من أحلام أليسيا كما كانت هي نفسها حلماً للملك الأحمر، والذي يقترب من التلاشي. إن هذا الفارس هو كارول نفسه الذي يستودع الأحلام المحبوبة التي عمرت عزلته.
إن من يكتب للأطفال يجازف بأن يتعرَّض لعدوى الصبيانية. المؤلف يذوب في المتلقين. تلك كانت حالة جون دو لا فونتين و روبيرت لويس ستيفنسون ثم روديارد كبلينغ. إننا ننسى أن ستيفنسون كتب “حديقة للطفل أو الآيات” ولكن ألَّفَ كذلك “سيد بلانتري”. وننسى أن كبلينغ ترك لنا “قصص كهذه” وقصص أخرى تعد من أعقد القصص وأكثرها مأساةً في قرننا هذا. فيما يتصل بكارول، أعتقد أن كتب أليسيا الرائعة يمكن أن تُقرأ و تُعاد قراءتُها، حسب التعبير الشائع اليوم، على أكثر من مستوى.
إن تلك الأحلام تشكل جزءاً من سعادتنا؛ ولربما أمكن أن يتقاسم هذه السعادة أولئك الذين لا زالوا مستمرين في تقليب صفحاتهم مثلي أنا و ذلك بعد مرور الزمان و طول السهر.
هوامش المترجم:
*كاتب أرجنتيني. يعتبر واحداً من أشهر الكتاب العالميين في القرن العشرين. شاعر وقاص ومسرحي وناقد في ذات الآن.كاتب وقارئ كبير جداً قبل أن يكون كاتباً. فهو الذي كان قد قال ذات يوم “كتب العالم تشكل في نهاية المطاف كتاباً واحداً”. عارف خبير بالثقافة اللاتينية واليهودية والإسلامية وإلى أعماله الأدبية تسرَّبت الكثير من صورها ورواسبها. أصيب بالعمى لكن عمى البصر لا يساوي شيئاً أمام سلامة البصيرة. اشتغل بالتدريس الجامعي وكان مكتبيَّاً بارعا ومديراً لمجلة “نقد” ورئيس “جمعية الكتاب الأرجنتينيين” وغيرها من المناصب الرسمية والشرفية التي شغلها. حصد العديد من الجوائز مفرداً وبالمناصفة نظراً لأعماله الأدبية التي استرعت اهتمام الجمهور والنقاد. ومن بين هذه الأعمال نذكر على سبيل المثال لا الحصر مجموعته القصصية الذائعة الصيت والتي تحمل عنوان “الألف”. والمقالة التي عكفنا على ترجمتها إلى اللغة العربية رغم صعوبتها منشورة بجريدة “البايس” الإسبانية وذلك بتاريخ 9 فبراير من سنة 1986 أي قبل وفاة الكاتب بقليل. توفي بجنيف في سويسرا سنة 1986 وعمره 86 سنة.
التعليقات مغلقة.