محسن البلاسي
هنا شارع يسير فيه الموتى على رموشهم المقصفة
كل الأجوبة هنا تفر في جحور الإغتراب كفئران مبللة ببول السماء
كل الشوارع مكفنة بالحاجات
كل هؤلاء أولاد عاهرات تعساء مثل جثث
ورمال الصحراء تسقط من أعلى فتشطرهم إلى أنصاف تماثيل، يسير كل نصف في اتجاه
كلهم يرتدون زياً موحداً
ورجل عجوز يحمل تسعين عاماً فوق جبهته أو تسعين قرناً،
أعرج، متجعد، داكن، لا يمكن طمأنته تجاه شيء
بساق واحدة يتقافز ولا يهجع، من قفص إلى قفص
ورأسه تتدحرج أمامه
تطاردها مسيرة من الكلاب
يبيع جرائد ملطخة بمخاط الفجيعة
ذاهباً وغادياً
ثمة شوارع سائلة تتدلى من أنفه الخشبي
قصة قصيرة وطويلة
حين يجمع السكاكين ليبني بها قصائده
ويشرب من عرق الأقدام الحافية
ليرسم جحافل من ياقات بيضاء تشيد أهرام التلاشي
كان يكفيه أن يموت طفلاً، قبل أن تباغته خرائب الحاجات.
حين ولد كهلاً،
عرف أن الرحلة كسرة من الجوع
و أنه جاء باهتاً لتتقاذفه الظلال
وأن جميع العيون جاءت لتنطفئ حين تباع،
و أنه ذو يد طويلة لتلتقط أشلاؤه المتناثرة في الهواء.
كان له بعض العادات المثيرة للخدر
مثلاً
ينفخ وهو منغلق الفم فيخرج من أذنه دخان أحمر يروض الارتعاشة المنغرسة في الهواء
يعيد تشكيلها
وينطلق مسرعاً ليجمع أعقاب السجائر الهاربة من حارقينها. أو يلملم وجوهه التي تتساقط إلى أعلى كعرق للنار.
إذ ثمة حياة عملاقة في الحضيض
حياة لا ظل لها.
في الحضيض أنت دب متخم بالعراء العاري من كل تواطؤ، حينها ستكون بلا جلد و لن توصم بكونك إنسان، ستكون شيئاً آخر، جثة حرة مثل سمكة ترقص على الجمر. يخرجك الحضيض من النظام القائم، من الهيكل السائد
ليكون دستورك هو احتضارك، فقط ستكون سجيناً لدرجات ألوان العمى _ الشاسعة
ستكون ثعباناً في جحرٍ قاتم،
ستحدق بشبق في احتمالية ألا يحدث شيء،
حيث كانت حرب ما أو حياة ما، تعبث أو تزحف هنا.
إلا أن الغبار يعيد تدويرك،
ستموت أيها العجوز ويولد عجوزا آخر، تجبره الثقاب أن ينحاز إلى إيقاع اشتعالها. مرة أخرى
ويجمع أعقاب الهزائم من باحات الصلب.
وكثيراً تخرج من رأس العجوز صفعات أشد رنيناً من أسواط فولاذية، تتعلق على صدر ماضيه ثم تنساب الصفعات نهراً نحو جوف النعاس.
لكنه ما زال في مقدورك أن تطعن نفسك وتنزف قصائد منفية،
لا، نعم، لا
ما زال في مقدورك أن تحرق بفرشاتك خيام سوق النخاسة وتغرقها في الدم الأسود للأحلام
ليتبخر ويضحى سحابة تمطر أطفالاً لا يشيخون.
التعليقات مغلقة.