أحمد ندا/ مصر
أموات أم موتى؟
أموات: ثقيلة على القلب، لابد أن أول من نطقها كان موظفاً حكومياً، كلمة باردة، تدّعي الحياد بينما هي بنت كلب، ارتضت لنفسها أن تتشبَّه بجمع المؤنث السالم.
موتى: أرقّ، ألفها اللينة تمرّر بعض الألم مع نهاية الكلمة، آهة مستترة، تحمل السمات الدرامية للفينالة، وقعها الموسيقي جيد لآخر الكلام.
أموات كلمة تنغرس في رئتيك بين ألف وألف راسخين كوتدين، لا يتزحزحان عنك ولا يتركان لك الفرصة حتى لتأمل الوجع من مسافة كافية لاحتوائه. موتى كلمة تتدحرج فوق قلبك كزورقٍ هادئ في ليلة مظلمة، تترك مكانها شرخاً؛ لكنها أيضا تترك شجناً مقيماً يزيد من عذوبة الألم وتمضي إلى وجهتها فتتمنى أن تعيد وجهتها إليك مرة أخرى.
**
LSD
بوسعي أن أنتبه الآن، لست في مأمن من نفسي، بعد أن منعت يدٌ يداً من أن تفقأ عيني، الحذر واجب وعينٌ ثالثة تراقب كل شيء. على الأقل سوف أوهم نفسي أن ما حدث حلم مزعج سرعان ما أنساه، أو لعله نتيجة لأفعال طيبة تتسوَّل محبة الآخرين ولا تحصل عليها. أمشي في الشارع بنصف يقظة، والماشون حولي رغم الزحام على مسافة كافية لتؤكد أن خطباً ما أصابني وأحاول تفاديه. وكيف بالله في شارع طويل كهذا لا محل ولا سيارة أستخدم زجاجهم كمرآة؟. لا أشعر بأي ألم. قلق فوق طاقتي يسحبني إلى ثقبه الأسود فأستعدي كل مخاوفي معاً. من لوَّن هذا الثقب بألوان زاهية؟ أريد من أصدقائي أن ينادوا عليَّ، أن يبعدوا النمل الذي يمشي على جسدي، ما كلُّ هذا النمل! أريد أصدقائي، أي شخص أعرفه لا يتمدد وجهه كهؤلاء الماشين، يا أصدقائي خذوا بيدي، خذوها “حرفياً” ابتروها أو اربطوها قبل أن تمتد ثانيةً إلى عيني. سوف أهجر نفسي هنا وأركُّز في الألوان لعل يدي تنسى عيني.
**
مقبلٌ
مبتلٌ كمقبل على الموت، أشرع في كتابة وحيدة لا تحب الدماء. ينعتني البعض بالسادية لأني أحب شكل الجثث المشوهة، لذا سأكون واعياً حتى لا أسفك المزيد وأبتعد قليلاً عن المجازات الفارغة. أفتح أبواباً لجحيم خاص، مصنوع كلية من شياطين تستمر في الدوران داخل رأسي مصرَّة على ذرّ التراب في بصيرتي، فأعمى كشارب خمر فاسدة. أن يعرف المرء نفسه يعني أن يترك الآخرين كوجود محايد. الرابعة مساءً وقت جيد للمزاج السيء، ضوء الغرفة الباهت يعكّر بقية الشمس، أو أنا غريب هنا على ما أعتقد، في داخلي أستقبل العام الجديد بيدين ترتعشان إزاء القادم (شخص أو مستقبل). حسنٌ، نظرت حولي قبل أن أواجه نفسي، لن أتمكّن أبداً من فهم البشرية ولا محبتها ربما سأكتفي بتحاشيها بدلاً من قتلها على سبيل التغيير.
**
المسخ
حين قرأ رواية “المسخ” لكافكا في مراهقته، فكّر في عشرات الصراصير التي استمتع بإمساكها من شواربها وتجميعها في برطمانٍ مثقوب. قال لنفسه “كنت سجَّاناً بمنطق اللهو”. هكذا ظلَّ يلاحقه الإحساس بالذنب لسنوات، ماشياً وعينيه إلى أسفل، خوفاً من مجازر غير مقصودة. وعندما يعود إلى غرفته التي أهملها منذ ذلك الحين، يطيل النظر في الصراصير الماشية والطائرة التي تجري بمحبةٍ خجولة فيقول لهم: “يا إخوتي، هل عثرتم على سامسا؟”
**
خائف
ربما حدث ذلك في الحلم. كنت في بيت أهلي، أحمل كتابين بلا عناوين عليهما اسمي، أحتضنهما كرضيع يبكي، وأخبئ اسمي في ملابسي، كنت مذعوراً من شيء ما، وأنادي على أحبابٍ أمامي فيختفون، أنادي على أهلي فيختفون، خشيت على نفسي فصمتّ. أنا خائف.
الكتب في يدي ترتعش كجسد يحتضر، اسمي يسيل من الكتب ليقع على رجلي فيحرقها، أصرخ فلا يخرج صوتي، أنا خائف. ربما حدث ذلك في الحلم، لكن قدمي مقروحة وصوتي منهك، ولا أحباب حولي. أنا خائف.
**
أخطاء الجلوس
الانكفاء على شاشة اللابتوب أضرَّ فقرات عنقي، ما جعل الطبيب يأمرني بالتحديق في الأرض حتى انتهاء التورم.
مشيت لعدة أيام مطأطئ الرأس، وكلما نسيت ورفعت رأسي، ذكرتني خبطة الألم في عضلات الرقبة. لا يمكنني أن أخاصم الأرض الآن وقد ألزمتني النظر إليها. تحول إطار النظر إلى عالم جديد، صرت أعرف كم بلاطة مائلة في الغرفة. عدد الشقوق في الرصيف المواجه للبيت، الحياة الخفية للفئران جانب المجاري الطافحة دائماً، الأشكال التي ترسمها الإطارات الثقيلة لعربات النقل الضخمة، وتخمين أشكال الناس من أنواع أحذيتهم. عقدتُ صداقة مؤقتة مع الأرض، تحولت الأحذية إلى قصص، والأرصفة إلى أغان، والحشرات والفئران إلى أصدقاء أطمئن على أحوالهم بالمراقبة من بعيد.
كنت أتحرَّك كالمشنوق بحبلٍ وهمي، أترك رأسي مستنداً إلى ذقني. وأفكر كيف أواجه العالم ثانية برأسٍ منتصب وخصومةٍ دائمة مع الأرض؟
**
الرسالة
حتى في أكثر اللحظات جهامة، وأنت تلطِّخين وجهي بعيوبي الكثيرة. يخطر لي أن أحتضنك عارية، أسمع أنفاسك وهي تغضب. أعذاري الواهية تذرع جسدك، وتقيم علاقة دائمة مع كل أجزائه..تلتصقين بي أكثر، حتى أشعر أنك تثقبين صدري: ”هنا رئتاي عاطلتان عن كل شيء سوى التدخين ورائحتك..لا تنخسيها من بين الأضلاع..قلبي محاط بصدفة من العظم ضعي إصبعك عليها برفق، ستشعرين باهتزاز لذيذ”.
أنخس نهديك فيما هواؤك يحدد انفعالاتي، أكون قادراً على الذوبان بقدر هبوبك..أسقط مرتين: حين تهمسين أن الوقت لا يسعنا، وقولي إنني خائف..أنا أخاف من القرب، وكل حمولتي نظرة.. أستطيع أن أحدّد كيف صرنا قابليْن للحب..نحن نتحدث عنّا في نقاشاتنا السفسطائية..وصداماتنا المتكررة، أنتِ سريعة الحديث، وتكررين عبارة “أي شيء بقى” بإصرار يدفعني لتقبيلك في كل مرة..حججي واهية طوال الوقت وصبرك رماديّ لكنه مستمر معي إلى الآن.
أحب جهامتك، إذ أكتشف ضعفي ولا أخشاه.
ميتا قصيدة
عندما رشق السكين في بطني، لم تنزل نقطة دم واحدة، بل لم أشعر بوجع أصلاً، كأنني في برنامج مقالب رخيص. ثم تحدثت بما لم أرغب في قوله، وبفصحى سليمة، أما الواقف أمامي فكنت أخاطبه كما لو أعرفه منذ زمن رغم أنها مرَّتي الأولى معه.
السكين مازال في بطني وأرتفع عن الأرض قليلاً، وأتحدث مع غريب، قبل أن تختفي قدماي كأن لم تكن.
يعطيني أحدهم كتاباً ويفتح إحدى صفحاته أمام عيني، في بداية الصفحة “عندما رشق السكين في بطني، لم تنزل…”
في خاتمة كتاب نثر الدر للآبي، حكاية عن خطيب أصابه الخرس في نهاية حياته فتعلم الكتابة وبدأ يخطُّ على الورق عبارة واحدة “احملوني ملياً” بخطٍّ يكبر ثم يصغر كأنّه يصنع هرماً مقلوباً.
عشرة أعوام يصحو من نومه يكتب نفس العبارة بنفس
الطريقة، حتى يوم موته كتب “احملوني ملياً يا أعدائي”
ثم وجدوه جالساً على منبره القديم ورأسه باتجاه القبلة ميتاً.
ربما كانت الحكاية في نثر الدر، ربما كانت في غيره، ربما توهمت أني قرأتها هنا أو هناك
لكنني بقيت لسنين أحاول فهم العبارة وأعيد كتابتها مثله..
مرت تسعة أعوام أكتبها.
يقف الذئب على قائمين حين يشعر بالخطر، هكذا انحدرت سلالتي من ذئاب شعرت بخطر دائم، وقفت على اثنين واستمرت في الوقوف، اختفى الذيل مع مرور الأعوام، ولم يبقَ من الخطر إلا معناه، محدق في دواخلنا.
غزيري الشعر كنا، بأنيابٍ حادة وشرهٍ مستمر للحوم، وشعور مقضٍّ بالوحدة حتى إن كنا جماعات. يقول جدي: ذات مرة لقيناك في عمر الخامسة تحبو تجاه الماء وتضرب صفحته بيدك، فيطير السمك منه وتضحك!
لم أصدِّق حكايته، ولم أصدِّق أسطورة العائلة، حتى انتبهت مرة إنني كلما ضربني الاكتئاب لم أبكِ، ولم أحاول الانتحار
كنت أوعي.. فقط.
التعليقات مغلقة.