عزالدين بوركة
(كاتب وباحث مغربي)
- الإيمان والفرد:
يعدّ سورن كيرككَورد Søren Kierkegaard(1813-1855) “الأب الروحي للوجودية”، كما يصفه البعض، وإن لم يكن هذا الفيلسوف مشغولاً بتصنيف أفكاره وفلسفته تحت أي اسم ومذهب فكري. خصص كيرككَورد مجمل اشتغاله الفلسفي من أجل فهم الدين، وبالخصوص المسيحية، لهذا نجد فلسفته تتمحور أساساً حول سؤالين وجودييْن يتعلقان بفهم “ما الإنسان؟” و”كيف يكون ذاته؟”. سؤالا صاحب “الفتات الفلسفي” عن الإنسان وذاتيته هما سؤالان بالضرورة عن الإنسان المؤمن -المسيحي- وذلك من وجهة نظر وجودية. لهذا يتجه مجموعة من مؤرخي الفلسفة لتصنيف أفكاره في خانة “الوجودية المؤمنة” أو “الوجودية المسيحية”.
سعى هذا “الفيلسوف” الدنماركي إلى العثور على “الحقيقة الصحيحة”، التي لا يمكنها أن تتحقق إلا بوجود شرط أساسي يتعلق بمعرفة الذات ومحبة النفس، في هذا الصدد نجده يقول: “كن نفسك التي هي أنت !” ويضيف في موضع آخر “لا تنسَ أن تحب نفسك”، في تقاطع مع مقولة سقراط الشهيرة “اعرف نفسك بنفسك”؛ فقد اتبع كيرككَورد المنهج السقراطي، في طرحه لأفكاره، وذلك غاية فهم الإنسان وعالمه الجواني. إذ نجده يوضّح أن مقولة سقراط الشهيرة “اعرف نفسك !” تعني “ميّز نفسك عن شيء آخر”[1]. وقد وجّه كيرككَورد خطابه في عمومه إلى الإنسان/الفرد، الذي يحتل مكانة مهمة في فلسفته.
يؤكد كيرككورد في جل كتاباته على ما هو داخل الإنسان وليس على الظواهر والوقائع التي تقع خارجه في تحديد إرادته وأفعاله وحريته ووجوده[2]، لهذا خصص سورن كيرككَورد معظم كتاباته لـ”نقد الجموع” والدفاع عن الفردانية كشرط حداثي ومكتسب عصر الأنوار لمواجهة سطوة الكنيسة، “فروح الفلسفة الحديثة هي روح فردية”، من هذا المنطلق نبع نقد هذا الفيلسوف الحداثي للطقوس الدينية التي تفرضها الكنيسة على الجماهير، فكيرككَورد -كباقي الفلاسفة الحداثيين- كان يؤمن أن الفيلسوف ملزم بتقديم “الروح النقدية العلمية” قبل أية رؤية لاهوتية. لهذا حاول التمييز بين الإيمان الذي هو قضية فردية والتدين الذي تقدمه الكنيسة. فوجّه للكنيسة نقدا شديد اللهجة متهما الكهنة (رجال الدين) والمؤسسة الكنسية بتحويل الدين إلى مصدر الاسترزاق وأداة للحصول على المنافع والاغتناء والسلطة، ما فرّغ الدين -في نظره- من محتواه الروحي، والأساسي. ما سيذهب به حد الاعتبار أن أي تدخل للدولة في المسائل الدينية يعد إساءة للإيمان والدين نفسه، فقضية الإيمان عنده هي “قضية فردية”[3] وتخص الفرد لا غير، لهذا اعتبر أن تدخل الدولة في المسألة الدينية بمثابة إساءة وتزييف حقيقي للإيمان والدين، فقد سعى إلى تبني منهج علماني يحفظ للدين مكانته ويحفظ للسياسة استقلاليتها.
- حاجتنا اليوم إلى كركغارد:
في ظل ما نشهده اليوم من تطرف ديني واستغلال جماعات متطرفة للدين -الإسلام- لصالح خطابها العنيف والعدواني، وجعل الخطاب الديني مقتصرا على أسماء وشيوخ بعينهم (ما يجعل الإسلام اليوم يصطبغ بصباغة الكهنوت)، نجدنا في حاجة ماسة إلى إعادة طرح الأسئلة ذاتها التي أثارها سورن كيرككَورد قبل مائتي سنة، و”التي لا تزال تملك أهمية في الوضع الراهن للبلدان العربية والإسلامية، حيث تمر [بلدان] بمحنة الخلط بين الدين والتدين”[4]. فأي دعوة إلى معالجة أفكار هذا الفيلسوف الغربي -اليوم، هي دعوة إلى مساءلة التيارات والجماعات الإسلاموية في ضوء فلسفته ونقده للتدين الجماهيري، والذي اعتبره قد أفرغ الدين من طابعه الروحي والفردي، وهو الأمر الذي وأدته هذه الجماعات.
يعدّ كيرككَورد من الفلاسفة الأكثر زلزلة للمفاهيم وللأفكار السابقة لوقته، بل إن جرأته ونقده ودفاعه عن الحداثة دفع به -رغم إيمانه- إلى مواجهة الكنيسة التي حاولت -وقتئذ- بسط سطوتها بشكل مطلق على الدولة والمجتمع. فقد رفض أن تختلط السياسة (الدولة) بالدين (الكنيسة)، و”رفض أن يكون الإيمان له علاقة بالاحتفالات أو إجراء الطقوس الدينية أو عرضا للدلائل الدينية”. ملاحظا أن الجميع مجبرين -حينذاك- أن ينخرطوا في الكنيسة التابعة للدولة، إلا فإن الفرد سوف يخضع إلى الإقصاء من قبل الدولة والمجتمع معا. وإسقاطا –لما ذكرناه- على وقتنا الحالي نجد أن الأمر سيان في مناطق عربية وإسلامية معينة، حيث تفرض الطائفة الغالبة على المجتمع الانتساب إليها وإعلان ذلك أو سيتم نبذه وإقصاءه، بل يصل الأمر حد التضحية به ومحاكمته، ما يخلق نوعا من النزاعات الطائفية والمذهبية المبنية على أساس الانتماء الطائفي أو المذهبي وحتى العرقي… الأمر الذي جعل الدين يتحول إلى تعاليم كهنوتية جاهزة ومؤسساتية، تهيمن عليها المؤسسة الحاكمة (=الدولة).
- كيرككَورد في مواجهة هيغل:
يقودنا حديثنا عن كيرككَور ونقده للدولة والدين الجماهيري، إلى الحديث عن علاقته بهيغل (1770-1830) وفكر هذا الأخير، لما لهما من تقاطعات مهمة في هذا الشأن. لا يخفي “أبو الوجودية” تأثره المبدئي بفلسفة هيغل المثالية، والتي تنظر إلى أن الواقع المادي والتاريخي ما هما إلا تعبير عن الفكرة المثلى، أي الروح، روح العالم. وفكر هيغل المثالي ينعكس أيضا على رؤيته للدولة والتي “يحترمها احتراما كبيرا من حيث إنها الفكرة الشاملة عن المثل الأعلى”، وقد ذهب إلى الاعتقاد بأن الفرد[5] لا يصبح حرا تماما، ويمتلك حقوقا يمكن تحديدها على أساس عقلي والمحافظة عليها، إلا من حيث إنه مواطن في الدولة. وقد تطابق أيضا تفسير هيغل للمسيحية تماما مع رؤيته هذه الشاملة والمثالية، “فهو يؤكد أن ما أسماه يوحنا في إنجيله ب”الكلمة” أو اللوغوس هو ذاته الله، العقل أو روح العالم”. وهكذا تصير الروح هي المتحكمة بالتاريخ الإنساني وذلك من خلال تحكمها بديداكتيك حركته، وهذه الفلسفة تجد لها امتدادا من المسيحية نفسها.

لم ير كيرككَور في الدولة -عكس هيغل الذي رأى فيها “مجالاً لحفظ الأخلاق والدفاع عنها”- أي إمكانية أن تمتلك صفات أخلاقية، فدورها يكمن فقط في الحفاظ على القانون، أي أن تمارس نشاطاً سلمياً واجتماعياً، لا أن تمارس نشاطا أخلاقيا[6]. لقد انتقد صاحب “مفهوم الفزع” فلسفة هيغل بما فيها منهجها الجدلي، إذ رأى أنه بين الوجود والفكر هوة لا يمكن اجتيازها إلا بطفرة وهي الطفرة بين الماهية والوجود، المجرد والمشخص، فانشغال كيرككَورد بالمسيحية وكيف يمكن أن يكون المرء مسيحيا، سيقوده إلى استخلاص أن تقدم الذات البشرية يتم عبر الانتقال من المرحلة الحسية الجمالية إلى المرحلة الأخلاقية وصولاً إلا المرحلة الدينية. إلا أنه لم ير في أيّ تفسير علمي أو نتاج العلوم الإنسانية أنه قادر على تفسير الإيمان والتدين والدين، الذي يبقى مجرد حالة فردية. “فإن كان الديالكتيك الهيغلي يصل إلى حلول وتفسير لكل شيء بما فيه الإيمان، عبر التجريد المتأمل والمنطق الفكري، فإن وجهة النظر حول الإيمان لكيرككَورد هي مظهر أعلى من منظومات المنطق والعقلانية[7]“، فالديالكتيك عند كيرككَورد يستمد أصوله من سقراط.
يجد هيغل في المسيحية، والتي يطلق عليها اسم الديانة المطلقة، التمثل الأكثر كفاية للحقيقة الممكنة لدين ما. وعندما ينفصل المرء عن المطلق (الروح، الله، الدين) وينعزل عنه يشعر بأماكن ضعفه ويصير أكثر وعيا بالخطيئة. وقد وضع هيغل الدين في مرتبة عليا، معتبرا أنه يحتل مكانة جوهرية في الحياة البشرية. بينما كيرككَورد الذي جعل من الفرد نقطة انطلاق لفلسفته الوجودية والتي قوم على الذاتية، قد قدّم رؤية دينية -كما ينقل لنا الباحث العراقي قحطان جاسم- رأت في حياة المسيح ونشاطه تضحياته عملا فرديا خالصا وإيمانا ينطلق من فعل ذاتي خالص. ورغم أن فلسفة كيرككَورد تتعلق مباشرة بالمسيحية والإيمان المسيحي، إلا أنه يمكن القول، أن رؤيته الدينية الوجودية -كما يقول الباحث الألباني صفوت بيوفيك- “هي مناسبة أيضاً للثقافات الأخرى ومنها الإسلامية، وخصوصاً سؤاله الذي يتعلق بالفرد وعلاقته بما هو أبدي، أي الإيمان، الأعماق، الروح، ثم علاقة الفرد بالمجتمع”، بهذا نجهد يقول في مجلة “اللحظة” بأن “الاعتراض الذي أعلنته ضد النظام القائم حسام”[8]، ويقصد بالوضع القائم الوضع الديني آنذاك وتحكم الدولة في زمام الكنيسة الدين…
- نقد الدين الجماهيري:
يرسم في كتابه “سورن كرككَورد، في نقد الدين الجماهيري” ترجمة وتقديم الباحث العراقي قحطان جاسم، رؤية شاملة وملخصة لفكر الفيلسوف الدنمركي سورن كيرككَورد بخصوص رؤيته لعلاقة الإيمان بالفرد والفرد بالإيمان والدين، وكيف استطاع هذا الفيلسوف أن يواجه رغبة رجال الدين في بسط نفوذهم على الدولة والمجتمع، وتكبيل الحرية الفردية في التدين والإيمان، وفرضهم على الجماهير طقوسا دينية تفرغ الدين من محتواه الروحي وتفرض عليهم الانتساب إلى الكنيسة، بينما –كما ظل يؤكد كيرككَورد، خاصة في مجلة اللحظة التي أصدرها وأدارها- يبقى الإيمان شأناً فردياً. فكيرككَورد يعتبر نفسه كاتباً دينياً يكتب للفرد، وككاتب ديني فإن وظيفته الأساسية هي أن يحقق ذاته كمسيحي. أي أن يحقق “ذاته كإنسان وجودي في علاقته مع المسيحية”..
لا يمكننا ألا نلاحظ اليوم راهنية أفكار سور كيرككَورد تجاه اللاهوت، وأهمية ما صاغه من فلسفة ونقده لطمع رجال الدين في التسلط والتحكم في الدولة والمجتمع، ورفضه لفكرة التحام الدين بالدولة، كما لا يمكن أن نغفل عن أسئلته “المحرضة عل التفكير” بخصوص الراهن في العالم العربي والإسلامي. ما يجعلني في أمس الحاجة اليوم لمراجعة أفكاره ومراجعة الوضع الحالي في ضوء تلك الأفكار، بحثا عن إمكانية تخطي هذه السوداوية التي تغطي سماءنا. وجد كيرككَورد في دفاعه عن الفرد والفردانية الأفق الحتمي لتحرير الكائن من سلطة رجال الكنيسة، وإعادة الروح للدين. ولم يقتصر هجومه على الكهنوت فقط، بل هاجم كل الفلسفة التي سبقته والتي لا تمنح دوراً متميزاً للفرد في منظومتها الفكرية. واعتبر –كما يؤكد قحطان جاسم- تغييب دور الفرد (…) بمثابة نكبة، بحيث لا يجرأ الفرد أن يكون ذاته، ويكتفي بالانصياع إلى الحشد والجمهور. وكان يرى [بأن] لجوء الفرد إلى الجموع بمثابة محاولة منه لتجنب الفزع الذي يعتريه بسبب هذه التحولات.
يرى كيرككَورد باستحالة مشاركة الفرد لقضايا شخصية كالحب والإيمان بالله، والتي تظل أموراً ذاتية لا تتعلق بالحشود والجماهير. ف”الإيمان عند كيرككَورد ذاتي وفردي، مرتبط بالإرادة الشخصية، ولا يمكن أن يرقى إلى مرتبة الحقيقة الكلية العامة”، مخالفاً في هذا نظرة هيغل للدين والإيمان، فهذا الأخير هو “حقيقة مستقلة”؛ أي أن كل فرد يحمل حقيقته في داخله. لهذا فالإنسان لا يمكنه منح الآخرين الحقيقة لكنه يمكنه أن يساعد الآخر على العثور على الحقيقة بنفسه؛ من هذه “النسبية” نبع موقف كيرككَورد الحاد في مواجهة الكنيسة ورجال الدين الذين حاولوا تقديم الحقيقة “الواحدة” للفرد المؤمن، لبسط سطوتهم عليه، دون تركه يصل إلى الحقيقة عبر الأسئلة الخاصة به. فقد حاولت الكنيسة أن تُصهِرَ الفرد في الحشد وتسلبه الحرية، ويصير بالتالي الإنسان “ضيق الأفق”، أي ذلك الإنسان الذي يمارس حياته مع الحشد والجمهور والرأي العام ويقلد ما يقوم به الآخرون ويغيب صوته، ما يجعله ناقصاً لإمكانية “الانتباه إلى الله”.
لقد رأى سورن كيرككَورد –قبل الأبحاث السيكولوجية بقرن من الزمن- الضرر السيكولوجي الذي تقوم به الحشود والجماهير للحد من حرية الفرد وصهره وخنقه، ما يسلب منه وجوده وفرادته، وما يولد “الفزع الإنساني”، وبالتالي الشرور. الأمر الذي يقود إلى القول بأن الإيمان والدين هو شأن فردي لا يرتبط بالمذاهب والطوائف الجماهير -كما يقع للأسف في مناطق من العالم العربي والإسلامي، والتي تمر بخلط بين الدين والتدين. فالإيمان –بالنسبة لكيرككورد- يشترك مع الحب في كونه أمراً شخصياً وفردياً، يتعلق بعلاقة الفرد بالله، إذ إن الإيمان فعل وجودي فردي وليس إجراءات إنسانية تقوم بها الجماعة لإثبات وجود الله عبر الأدلة الطقوسية والإيمانية[9]. ومنه لا دخل للحشد والجماهير بإيمان الفردي واختياراته العقائدية..
[1] سورن كيرككورد، في نقد الدين الجماهيري، مقالات مترجمة… ترجمة قحطان جاسم، منشورات ضفاف والاختلاف، 2015، ص 30-31.
[2] المرجع نفسه، ص 52.
[3] المرجع نفسه، ص 11.
[4] المرجع السابق، ص 10.
[5] المرجع نفسه، ص 22.
[6] المرجع نفسه، ص 24.
[7] المرجع نفسه، ص 27.
[8] مجلة اللحظة، العدد الأول، 24 أيار 1855، عن ترجمة قحطان جاسم، المرجع السابق، ص 56.
[9] كيرككورد، في نقد الدين الجماهيري، ص 50.
التعليقات مغلقة.