عزالدين بوركة
(شاعر وباحث مغربي)
- على سبيل التقديم:
يتسم الأدب المغربي بأصوات نسوية -على قلتها- تكابد نار الإبداع ولهيبها الحارق، أسماء قليلة إلا أنها تحاول أن تحفر مساراً خاصاً بها في ظل شبه الهيمنة “الذكورية” على المشهد الإبداعي في هذه الجغرافيا.
يبزغ بالتالي، فجر كاتبات ممسوسات بـ”جنµ الكتابة” الذي يسكنهن إلى النخاع، من هذه الأسماء الأدبية النسائية يشرق اسم كاتبة رصينة احترفت اللعب بكل ما أوتيته من لغة ومطالعة وشعلة الإبداع، تكتب “هند لبداك” نصوصها السردية دون الارتهان إلى ما يقع من صخب خارج محرابها/ مكتبتها، فهي تعكف إلى الكتابة كما يعكف المتعبد إلى الصلاة. وإن كان مشوارها الأدبي قد استهلته منذ سنة 2010 بأولى إصداراتها القصصية “نحيب الملائكة”[1]، إلا أنها تمكنت أن تبصم على المسار الخاص بها والذي ينبع من كونها تجتهد باحثة عن الإعلاء من صوتها ككتابة متميزة لها أثرها المتفرد، صوت لا يبتغي أي تقليد أو محاكاة أو نقل أو تأثر، بقدر ما يبتغي الإعلاء من جمالية النص لغوياً ومضموناً وشكلاً.
هند لبداك قاصة وكاتبة تجعل من السرد أسلوباً لاختراق العالم بمعول الفضول ومصباح الفضيلة، شاقة طريقها بهدوء وبروية مُعوّلةً على ما تتبعه من كتابة متعددة الأصوات والمسالك والمعارج والمدارج، وذلك بحذر شديد من الوقوع في منزلقات التأثر والتكبر والغرور. إلا أنها تتجرأ على التأليف غير خائفة من الدخول إلى أدغال اللغة والخروج سالمة غانمة، تشيّد نصوصها على أنقاض ما عبرته من طريق وحدود لم تكن أبداً سالكة وسهلة العبور.
تكاد تكون نصوص هذه الكاتبة، قادمة من عالمها الخاص والداخلي، “عالم هند”، ومن حالتها الشخصية والذاتية والمعيشية. إذ أن النص الرومانسي والصوفي الذي تتبعه مسارا لخطّ جلّ كتاباتها هو نص لا ينزاح عن ذاتية صاحبه ونفسيته وحالته الشخصية، والحالة هنا ما كتبه جبران خليل جبران أو ما أبدعه شارل بودلير أو ما أنتجه فيكتور هوغو… هؤلاء الأدباء المتأثرة بهم هند لبداك على طول مسارها الأدبي، إلى جانب النصوص الفلسفية (فلسفة كانط الأخلاقية بالتحديد) والسيكولوجية والصوفية بالخصوص…
وقد استطاعت هند لبدك المزاوجة بين الكتابة باليد اليسرى واليمنى، إن صح تعبيرنا هذا، حيث إنها تكتب باللغتين العربية والفرنسية معا، وإن كانت بداياتها الأولى عربية صرفة. ويظل مسعى الأديبة -الدائم- هو نقل حالات الضعف والفشل والحالات النفسية التي تعتري الإنسان. ما يجعل كتاباتها في جلها كتابات سيكولوجية وصوفية في الآن نفسه.
لهذا نجدها في مؤلفها الأول “نحيب الملائكة”، لم تتجه إلى أية معجمية غرائبية أو اللعب على وتر العضلات المجازية والاستعارية، التي يتم استعارها من خارج النص أو من خارج ما تروم قوله الكاتبة، فهي لا تبتغي أي بحث عن أية تراكيب لغوية مستحدثة، أو الدخول إلى عالم القوالب التجريبية، إذ تستند إلى النص الهادف ذي غاية واضحة، لا يحتاج إلى أية دعائم أو عكاكيز خارجية أو دوافع لا تنتمي إلى محركه الداخلي. إنه نص يبتدئ وينتهي هادئا ومتدفقا، عامرا بما هو روحاني ونفسي وصوفي وسيكولوجي…
سنهتم في دراستنا هذه بالمجموعة القصصية الأولى لهند لبداك، وذلك إيمانا منا بأن الكاتب يتضح ويُضاء سبيله الإبداعي منذ أولى خطواتها في مسير الألف ميل للإبداع، وثانيا لأننا نعي ما تتعرض إليه أولى الثمار التي يجنيها المبدع، حيث تتعرض في الغالب إلى النسيان أو التناسي والتجاهل، مقابل الانفتاح على باقي متونه الإبداعية الأخرى، بحكم الجدة. وإن سنعود إلى باقي المتون السردية الأخرى فمن باب مقارنتها مع باكورة هند وما آلت إليه الصيرورة الإبداعية لهذه الكاتبة المبدعة.
- إعلاء الأنا، إعلان الميلاد:
جاءت المجموعة القصصية “نحيب الملائكة” في حجم متوسط، على طول 210 صفحات منقسمة إلى أربع قصص وهي على التوالي: “عطر البحر، خمار ودموع، إشراقة أمل، نحيب الملائكة”. مكتوبة في غالبها بضمير المتكلم، حيث يغلب السرد المتساوق ويحضر “السارد الصريح”. إذ أن السارد، الفاعل اللغوي، الذي يعزى إليه تقديم الحكاية إلى المخاطب السردي، يسمع صوته صريحا ومباشرا في السرد[2]. ما يجعلنا نتتبع احداثيات وجوده في النص، بل إنه في جل النصوص هو مركز السرد وحوله تدور الأحداث. فالسارد في هذه المجموعة يكاد يعرف كل شيء عن الأشخاص، ما يجعله يرسم خريطة نفسية واجتماعية حولها، وذلك ضمن سرد متساوق /معاصر، أي أنه يعاصر الأحداث والشخوص، جامعا بين الحكي والخطاب. والمثير في هذه النصوص السردية أن جلها جاءت محكية بلسان الأنثى، خلاف قصة “خمار ودموع”، حيث يحضر السارد بصيغة المذكر، محافظا على الضمير المتكلم “أنا”.
ما يتضح معه أن الكاتبة هند لبداك تحاول أن تعلي منذ البدء من صوتها السردي، وتعلن عن قيام كاتبة لها صيتها الخاص والذي لابد الاستماع إليه والإلمام بما يحاول طرحه من قضايا وحكايات. وإن أن خيط السرد يهرب أحيانا إلى الضمير الغائب، حيث يسرد الصوت الخفي الأحداث، ما يمنح المتون بعدا متعددا للأصوات، ومنه أبعادا نفسية مختلفة.
هذه النصوص المكتوبة بضمير المتكلم، جاءت مرقونة في لغة واضحة، وملموسة، وبسيطة وحيوية، عامرة بالمناجاة. لديها غاية. تتحدث إلينا، للقراء… إنها تجذبنا إلى مناطق قليل الحفر فيها، وأحيانًا مظلمة، وأحيانًا مبتهجة، ولكنها لا تزال راسخة في الواقع، في الحياة نفسها.
- البعد السيكولوجي والروحاني:
يهمنا أن نبدأ ونحن نحفر عميقا في متن الكاتبة هند لبداك، بالبعد السيكولوجي في نصوصها السردية، من حيث أنه إلى جانب ثيمات أخرى -كالمعاناة والموت والحرمان والحنين والمرض والخلاص والتديّن والعبادة… سنعود إليها لاحقاً- يعد هذا البعد (أي السيكولوجي) هو الوحدة الكبرى والضامة لكل القصص التي يضمها الكتاب، إن لم أقل هو الوحدة العضوية لجل المتون الإبداعية للبداك من نصها أول وصولاً إلى آخر رواياتها “إلما أفيوني” [3]Elma mon opium.
تكتب هند لبداك كأنها تلمّم جراحها الدفينة، تكتب بحرقة واضحة وبألم لا تخفف من لهيبه أي جملة، إنه ألم متصاعد مع كل نص، وهذا ما يجعلها نصوصاً عاطفية تواقة إلى الهدنة والشفاء والهناء. ونحن نطالع المجموعة القصصية “نحيب الملائكة” يتطلع أمامنا باستمرار الألم السيكولوجي للشخوص التي تنسج نسيج المتون، ما يجعل هذه الأخيرة متحدة من حيث الطرح ولو أنها متفرقة من حيث الموضوع. يلعب أبطال لبداك قصصهم داخل عالم من الانغلاق على الذات ومحاولة الانفتاح على الآخر، ما يولد خصاماً نفسياً داخل أعماق هذه الشخصيات. فتبدو بالتالي كأنها تواقة إلى الخلاص وباحثة عن السكينة، الأمر الذي تجده دائماً في البعد الروحاني والتعبدي والصوفي. لهذا نعثر عليها دائما تنتمي إلى مجتمع أو أسرة أو دائرة محافظة، تعتني بالتعفف والفضيلة والتعبد…
تبتكر هند لبداك نصوصها السردية داخل كتابة ملئى بالمناجاة، وليست صدفة أن نجد إحدى أبطال قصصها اسمها “نجوى”، هو الاسم عينه اسم بطلة إحدى القصص في المجموعة القصصية “مدامع الورد”[4]. ما يجعلها كِتابة قوامها “التشبث الرصين بالوازع الديني والأخلاقي”، الذي يظل حاضرا باعتباره موازيا للطب النفسي في علاج الأرواح الجريحة والنفوس المنكسرة، التي تعاني منها جل الشخوص. إذ نجد بطلة أولى قصص لبداك “عطر البحر” تقول:
“أقبلت مراراً على اقتناء كتب الإرشاد الديني، والتعليم المسيحي قبل أن أبدأ بمزاولة مهنة التدريس، كنت أحرز تقدماً في العلاج النفسي، وأحرق المراحل لما وجدت في الاعتقاد من تهذيب الروح، وتضميد لجراحها، سلّمتُ بعظمة التدين لأني وجدت فيه إعجاز الرب”.[5]
هذه الثنائية: العلاج النفسي والتدين، هي التي ستظل توّحد بين الشخوص على مختلف الأزمنة والأمكنة والحالات التي تم تركيبها فيها. إنها بالتالي شخوص تصارع الذات والوحدة والانعزالية والكآبة والموت والألم والمعاناة، ولا تتخلص منها إلا عبر الشفاء النفسي والروحي، عبر التطبب سيكولوجيا وروحيا بالتعبد والتقرب من الذات الإلهية. ولأن الإبداع هو تحقيق الجوانب اللاشعورية في حياة الفنان والكاتب، كما يخبرنا فرويد، ولأنه في الغالب لا تخرج النصوص الإبداعية الأولى عما يخالج ويعيشه المبدع، فتصير هذه النصوص تحقيقا للجانب اللاشعوري للمبدعة هند لبداك، حيث نكاد نلمسها ونلمس شخصيتها أينما ارتحلنا بين الأحداث والأمكنة والأزمنة داخل المجموعة. ونلمس شغفها وانفعالها وعشقها، إذ نجدها تخبرنا في كتابها الثاني، “برزخ الأرواح العاشقة”[6]:
“هو حتما ذلك الانفعال، حين نصاب بحمى العشق ونسهر لاحتراقه، نبكي لأجله. وقد نحب إلى حد الثمالة وقد يكون حبا أرعنا، لا يقيم اعتبارا للسن أو الانتماء، فيكون ذلك الانفعال دموعاً وآهات ولحظات صعبة على القلوب الهائمة. وفي مجموعتي القصصية (نحيب الملائكة) صورت كل هذا”[7].
ولا يخرج كتابها الثاني، المشار إليه عن كونه سيرة ذاتية نفسانية وروحانية، حيث تضعنا الأديبة أمام ما يخالجها من إيمان ومن روحانيات وما تتصوره تجاه الحضارة الحديثة، إذ تخبرنا أننا “نشهد عصرا أخذ فيه الكون مجرى الفساد”. فتأتي شخوص لبداك باعتبارها شخوصا تحاول أن تعيد للعالم توازنه الروحاني والنفساني الذي أربكته الحضارة الحديثة. لهذا ترتهن المبدعة إلى حكي قصص حب رومانسية تنتصر للإنسان والروح، فـ”ما أحوجنا إلى متنفس الروح”[8]. فتدعونا الكاتبة “بعيدا عن الرؤى التي تجنح إلى المنطق الآلي لسر الوجود أو الخلق، وعن الفلسفات المتشبعة بالمقترب الميكانيكي […] (أن) نتبصر في صنع الخالق وفي استمرارية الحياة بتناسقها المتفرد وتناغمها العجيب”[9]، وذلك في تأثر ملحوظ بما يذهب إليه الفيلسوف الألماني إمانويل كانط حينما يقول: “أردت أن أهدم العلم (بما بعد الطبيعة) لأقيم الإيمان”[10]، إذ أنه يعلي من الاعتراف بالفضيلة والذات، وهو الأمر عينه ما تعبر عنه هند لبداك.
تُصوّر لنا هذه الكاتبة قصصاً تدور أحداثها في أماكن مختلفة وغير مرتبطة لكنها تظل تدور في أجواء محافظة لأسرة تارة مسيحية أو مسلمة، غاية في وضع رؤية مشتركة بين هذه الأسر المختلفة دينيا لكنها متحدة من حيث الإعلاء من البعد الديني والروحاني، حيث تجد فيه خلاصها وراحتها، رغم المعاناة والأمراض النفسية التي ما هي إلا نتاج مآلات الحضارة المعاصرة. ونجد “فريداً” بطلة قصة “إشراقة أمل” شخصية تواقة دائما إلى الأصالة والمحافظة، شبيهة بأبطال باقي القصص الأخرى (لي، نجوى…)، إنها شخوص تنتصر للأسرة ولحمته وللمجتمع وحميميته، إذ “لا وجود للفردانية سوى في خيالات الفلاسفة”[11]، كما تخبرنا الكاتبة.
هذا ويحضر البحر باعتباره فضاء الراحة والاسترخاء وإنعاش الروح نفسياً وتعبداً، بل إنه الملاذ ومكان الإفراغ وإعادة الشحن، شحن الروح وتفريغها من شحنات الاكتئاب والشك والارتياب. فيتم الاستعانة بالبحر في حالة الهيجان لتصوير الروح والحالة النفسية الصاخبة التي تعاني منها إحدى الشخصيات، وهو نفسه الفضاء حيث ستجد خلاصها “أملها الأخير”، في حبيبها الجديد. فالبحر هو رمز الرومانسية والحالة العاطفية الذائبة والسائلة والدافئة. إنه الرحب حيث يتصالح في نصوص هند لبداك كل من “فرويد ومونتاني Montagne”، البعد النفسي والروحاني:
“كان الوقت الذي أقضيه بالشاطئ يزرع بأعماقي نبضا جديدا، والكثير من الراحة النفسية، فأكون في قمة انشراحي تماما كما أكون في أوج حزني وانزعاجي”[12].
- الصراع مع الآخر:
الهلع من الرجال، صراع مع الأب، عنف الأب، عنف الزوج، الانهيار الرد الفعلي… مواضيع وأخرى تشكل ثيمة الصراع بين الأنا والآخر، الذي يكاد يكون “هو الجحيم”. ويتضح من خلال أحداث القصص وطبيعة الأمكنة التي تدور فيها هذه الأحداث، يتضح أنها تطرح موضوع “صراع بين الأنا والآخر” بشكل رئيسي. وبينما كان هذا الموضوع ذا طبيعة سيكولوجية بارزة، تأخذنا هند لبداك إلى مستوياته المختلفة والمتعددة. ولا محالة أن هذه النصوص تقوم على أبعاد سردية نفسية و حكائية تشيّد عليها معمارها السردي، لهذا نجد شخوصا من مختلف الأعمار والطبقات والديانات تعيش هذا الصراع، وإن يظل صراعا بين المؤنث والمذكر، بين النساء والرجال، بين الأب وابنته، وبين الزوج وزوجته… فإذن تحاول الكاتبة الانفتاح عن المسكوت عنه في السرد العربي، فيتم رد الاعتبار للأنا وإن داخل المجتمع المحافظ الذي تدافع عنه شخوص القصص كلها.
في قصتها “عطر البحر” تصوّر لنا لبداك “لي كاستل” (الأمريكية المسيحية) التي فقدت زوجها يوم العرس، ما أدخلها في حالة نفسية من الرد الفعلي، والهلع من الآخر، من باقي الرجال، الأمر نفسه الذي تعاني منه “فريدا” (المغربية المسلمة) بطلة قصة “إشراقة أمل”، فريدا التي تصاب بحالة خوف مرضي كلما اقترب منها رجل، لهذا لم ترتبط بأي من خطابها. لا ينتهي هذا الهلع والفزع من الآخر في كلا النصين إلا عبر الزواج، لكن ليتم ذلك تطلب الأمر من كلا الشخصيتين مكابدة طويلة الأمل كان العلاج منها عبر التعبد والطب النفساني، وشجاعة كبرى منهما.
يحضر إذن الرجل /الآخر في نصوص هذه المجموعة باعتباره تارة المنقذ وتارة آخرى “الجحيم”، إنه هو ذلك السادي الذي يتلذذ برؤية معاناة ضحيته /المرأة /الأنا. والأمر يتضح في رابع القصص “نحيب الملائكة”، حيث أن الزوج (الجد) كان يعذب زوجته (الجدة)، تاركا إياها أشهرا بلا مورد رزق. ما سيترتب عنه خيانة وتعنيف، فتعيش الأسرة حالة تفكك يشابه الحالة التي “تحياها مجتمعات الحداثة”، كما تحاول تصويره القاصة.
يظل صراع الأنا والآخر من المواضيع الأكثر إثارة للكتاب العرب، وبالخصوص الآخر الغربي، إلا أن هند لبداك هنا تجرأت وتطرقت إلى الجانب المسكوت عنه في القصة والرواية والسرد العربي، إذ نجدها -كلها- كثيرا ما تهمل الجانب الروحاني للأنا وللأخر، ملغية ما يمنحه الآخر من عقد ومعاناة ومأساة وسعادة وانشراح للأنا، وهذا ما سعت إليه الكاتبة في مؤلفها هذا بالخصوص.
- الموت والحتمية: الخلاص والألم
يحتل الموت مكانة مهمة في السرد لدى هند لبداك، فهذا المسمى “الموت” الشيء اللا مفهوم والغامض والمثير في الحياة البشرية. إنه ذلك الفزع الذي نهرب منه بتناسيه. وإنه الحتمية الوحيدة في التاريخ، فلكل شيء حي نهاية، الأمر الذي ظل يؤرق بال الأدباء والعلماء والفلاسفة. وما تطرق لبداك إليه إلا من باب معالجته روحانيا ونفسانيا، من حيث أنه محرك كل شيء.
يولد الإنسان حاملا معه تاريخ موته، إننا بالتالي كائنات مائتة، خُلقت لتموت، وهذا الهاجس شكل طرحا أدبيا كبيرا سواء لدى ألبير كامو وغابرييل مارسيل و غابريل غارسيا ماركيز (في مائة عام من العزلة) وغيرهم… بل إنه الفزاعة التي كان يخشاه البشر بما فيه الحكام، ولنا في قصة امبراطور الصين حكمة، حيث وهو يطارد الخلود أوصيَ بتناول الزئبق، ذالك المعدن السائل العجيب، فكان هو عينه داء هلاكه. ويا له من عجب أن يكون الدواء هو الداء ! ولقد كانت كل الديانات تهتم، كل دين على طريقته الخاصة، بتهيـيء الناس للموت، لموتهم كما لموت الكائن المحبوب. بل إنها كانت تدعونا، في هذا الاستعداد نفسه بالذات، إلى اكتشاف معنى الحياة البشرية[13].
من هذا المعطى الأخير يأتي موضوع الموت في نصوص هند لبداك بشكل مكثف وأساسي. بل قد يكون خلاصا من عذاب معين أو رحيلا مفجعا وأليما داخل قصة هادئة ورومانسية، كما هو الحال مع بطل /سارد قصة “خمار ودموع”، ذلك الشاب الذي أحب شابة محافظة وملتزمة إلا أن الأقدار شاءت أن يُجنّد ويموت فداء لوطنه، ويُكتب لنجوى زوجته أن تحزن لفراقه. فيصير الموت نهاية غير متوقعة وأليمة وحزينة إلا أنها النهاية المحتومة وإن لم تكن متوقعة. ومنه يغدو الموت دعوة للتصالح مع الذات والنفس ووضعها تحت تصرف الخالق، كما هو الأمر في التصور الديني.
ويتخذ الموت حالة الخلاص من المعاناة، كما هو الحال في قصة “نحيب الملائكة” برحيل إدوارد الذي كان يعنف زوجته، وقد يكون بداية لقصة أخرى وحياة أخرى، وإن كانت مليئة بالمعاناة فهي تنظر إلى بصيص أمل، والحال هنا قصة “عطر البحر” حينما يموت زوج “لي” يوم الزفاف، فيدخلها الأمر في حالة من الاكتئاب والاضطراب النفسي، إلا أنه ينقشع بتعرفها على رجل جديد “ريتشارد” الذي يُعَدُّ خلاصها، حلمها البحري الذي تحقق. بالإضافة لتلك القصص الثانوية، تلك القصص العابرة والمتداخلة في القصص الكبرى، والمثال هنا هو قصة تلك السيدة المسنة التي “تعاني من مرض نفسي قاتل عقب وفاة ابنها الوحيد في حادث مؤلم”[14]، كما تقص علينا “لي”. ولمكابدة الرحيل وخسران الأحبة تعيش الشخصيات تخبطا نفسانيا لا يداويه إلا التعبد والتقرب إلى الرب.
بهذا تَخُطُّ لنا هند لبداك قصصا نفسانية روحانية، تقاوم الموت بالمناجاة والسمو الروحي، عكس ما يعيشه المحدثون أمام الموت من اللامبالاة، بل إنه يكاد يكون أمرا مرضيا إن نحن طرحنا أسئلة حوله، وقد سبق لفرويد أن صرح قائلا: “إننا عندما نبدأ في طرح أسئلة حول معنى الحياة والموت، فإننا نكون مرضى، لأن لا شيء من هذا يوجد بكيفية موضوعية”. وتعاكس لبداك هذه القولة في طرحها القصصي، حيث أنها تقارب تصور الوراقين وتفكير مونتي بكون الحكمة، وبشكل يقيني، تكمن في قبول نظام للعالم يحوي التناهي وأن “التفلسف”، بالتالي “هو أن يتعلم الإنسان كيف يموت”[15]. باعتبار أن الموت هو خلاص من عالم الكون والفساد.
- نظرة عامة حول أعمال لبداك:
يمكن أن نعتبر أن قصص هند لبداك في مجملها هي قصص سيكولوجيا صوفية روحانية، مندرجة في خانة القصص الواقعية، لأن كل شخوصها هي شخوص تشبهنا، تحيا حياتنا وتكابد أمراضنا الدفينة وتقاومها كما نقاومها. ولأن هذه المدرسة الأدبية والفنية -أي الواقعية- ترى بأن “الموضوع الحقيقي للفن هو الإنسان”[16]، فإن إبداعات كاتبتنا تصب في الأمر ذاته، من حيث أن الإنسان هو عمودها الفقري ومركزها الحساس، حوله تدور الأحداث وبه تبتدئ وتنتهي. فبالتالي كل ما تقوم به هند لبداك هو تصوير الفعالية الشخصية للإنسان، ومنه يغدو العمل الإبداعي “حَلَبَة لمناقشة الأفكار والآراء في الحياة القديمة منها والجديدة”، لهذا نجد نصوصها مفعمة بالحس الخطابي، حيث تخرج الأديبة من النسق السردي إلى حالة الموعظة أو النقاش الفكري لتفنيد ما لا تراه ملائما للإنسان الذي ترسمه على طول نصوصها. ذلك الإنسان /الشخصية الذي تكاد تتوحد بصيرة الكاتبة مع بصيرته، بشكل أكثر عمقا، ما يجعلها تكشف المزيد عنه وتحاور العالم بلسانه. إنه حال لسانها.
لهذا فنصوص لبداك ليست بنصوص انطباعية، إذ إنها لم تهاجم أية وسائل فنية رسمية، بل إنها تتبعت خيوط السرد التقليدي وإن انزاحت عنه قليلا إلا أنها في العموم ظلت مخلصة له، أو بالأحرى لنقل السرد الرومانسي المنتصر للطبيعة والذات الإنسانية. إلا أننا نلمس ونحن نطالع إصدارات هذه المؤلفة منذ البداية، والتي بلغت خمس مضمومات وهي على التوالي: “نحيب الملائكة” 2010، “برزخ الأرواح العاشقة” 2012، “مدامع الورد” 2013، “محراب النور” 2014، “إلما أفيوني” (نص فرنسي) 2017. نلمس تقدما ملحوظا من الناحية البنائية، والابتعاد كل البعد عن التقريرية والمباشرة، والارتهان إلى اللغة الشاعرية والصوفية، ما يعطي النص نفحة جمالية وروحانية.
- ختاماً بالبدء: عتبة العنوان
وختما حق الوقوف عند أهم عتبة في كل هذه النصوص الإبداعية، وأولها، ألا وهو العنوان من حيث إنه مفتاح الولوج إلى العالم الموجود خلف الغلاف السميك. فالملاحظ أن جل العناوين هي عناوين من كلمتين في الغالب، مضاف ومضاف إليه، ما يبرز أن الكاتبة لديها نسق معين تتبعه في معالجة نصوصها، زيادة عن كون كل هذه العناوين هي عناوين تكتسي طابعا صوفيا بارزا، “محراب النور” هو إحالة صريحة لمكان التعبد وبوصلة اللقاء مع الذات الإلهية، واتجاه الصلاة والمناجاة. “برزخ الأرواح العاشقة”، هذا العنوان الجامع بين البعد اللا مرئي، “البرزخ”، نقط العبور إلى العالم الآخر، وبين “الأرواح” باعتبارها الجزء الطهراني من الإنسان، وتتصف هذه الأرواح بكونها “عاشقة”، وكلنا نعلم ما الذي يحمله هذا المفهوم من معان كبرى عند أعلام الصوفية. فنجد ابن عربي يقول:
“وهل في العشق كمون ! و كله ظهور، ومقامه نشور”. (باب كل ما لا يعول عليه).
ويأتي اصطلاح “الملائكة” في أولى كتب لبداك، دالاً على ما نذهب إليه، من حيث دلالة التسامي والطهرانية والصفاء والتعالي الذي يشترك فيه مع ما تذهب إليه الصوفية. فعناوين مؤلفات هند لبداك هي عناوين مكوّنة وليس عرضية، أي أنها تلعب دوراً هاماً في تكوين بعض عناصر العمل السردي، بل إنه نتاجه، إذ تقوم المؤلّفة باستقائها من مكونات العمل عينه. وإن كان عنوان “إلما أفيوني” قد أخذ من قصيدة للشاعر الفرنسي بودلير، إلا أنه يظل عنوانا مكوّنا لأنه يندرج في صلب ما تروم إلى حكيه وقوله في مؤلفها هذا. وبالتالي فالعنوان يحضر باعتباره عنصراً بنيويا في نسيج العمل ككل، وعنصرا من عناصر السرد.
بهذا نكون أمام تجربة حق الوقوف عندها ملياً، وتأملها جيداً من حيث ما ابتغت حكيه وقوله ومناقشته، ومن حيث ما تشبثت به نسقاً لها على طول ما أنتجته من مؤلفات لافتة للنظر وللاهتمام. فهند لبداك بهذا ليست متطفلة على عالم الإبداع والخلق الفني، فهي جزء مهم من ناصيته وصوتٌ نسوي يحفر في العمق وينبش في الواقع ليضعنا في مواجهة ذواتنا، إذن تكتب لبداك حاملة في يدها مرآة عاكسة، وفي اليد الأخرى إبرة تخيط بها نسيج الحكاية.
[1] عن إصدارات أمنية للإبداع والتواصل الفني والأدبي، 2010.
[2] مرسل العجمي، تجليات الخطاب السردي…، الرواية العربية.. ممكنات السرد، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 2008، ص 76.
[3] عن إصدارات أمنية للإبداع والتواصل الفني والأدبي، 2018.
[4] منشورات أمنية للإبداع الفني…، 2013، قصة محار الليل، ص 96.
[5] نحيب الملائكة، ص 15.
[6] منشورات نقابة الأدباء والباحثين المغاربة، إصدارات أمنية 2012.
[7] المرجع نفسه، ص 62.
[8] المرجع السابق، ص 15.
[9] نفسه، ص 16.
[10] يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، كلمات عربية للترجمة والنشر 2012، ص 22.
[11] نحيب الملائكة، ص 21.
[12] نفسه، ص 39.
[13] لوك فيري، الإنسان المؤله أو معنى الحياة، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق 2002، ص 6.
[14] نحيب الملائكة، ص 49.
[15] لوك فيري، المرجع المذكور، ص 6.
[16] سيدني فكلنشتين، الواقعية في الفن، ترجمة مجاهد عبد المنعم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1981، ص 27.
التعليقات مغلقة.