كُلَّمَا مَرَّتْ بِهَا راودها شُعُور مُباغِت بِرَائِحَة البلاستيك! الَّذِي زَادَ حُضُورِه عَبَّر هَذَا الزَّمَنِ الصَّاخِب.. وَاقِفَة هِي بشئ مِن الِاسْتِعْلَاء باهِتَةٌ اللَّوْن خَلْف زُجَاج الفاترينة المضاء بِأَنْوَار بَيْضَاءُ مِثْلُ إِضَاءَة المستشفيات فِي لَيَالٍ كَئِيبَة مُوحِشَة عَقِب وَفَاة أَحَدُهُمْ فِي غُرْفَةٍ االعمليات.. كَانَ يَصْحَبُ تِلْك المانيكان الْمَصْنُوعِ مِنْ البلاستيك شَيّ مِن التَّعَاظُم وَالْكِبْرِيَاء تَنْظُر لِلْمَارَّة بنوبة مِنْ النُّفُورِ وَالزَّهْو كَفَتَاه استعادت أَخِيرًا كرامتها المهدرة جَرَّاء حَادِثٌ اِغْتِصَاب مَنْسِيّ. مُتَرَدِّدَةٌ.. كَانَتْ فِي طَرِيقِهَا لِلِقَائِه، وَفِي الْمَقْهَى الْمُجَاوِر، أَخْذًا مقعدهما يَنْظُرَا خَلْف الزُّجَاجِ عَلَى الْمَارَّةِ فِي صُمْت جَنَائِزِيٌّ رَتِيب. سَأَلَهَا إنْ كَانَتْ تُحِبُّه أَمْ لَا.. داهمتها مَشَاعِر أَشْبَه بِسُقُوط مِصْعَد بِشَكْل مُفَاجِئٌ فِي بِنَائِهِ تَكَاد تَنْهَار.. وَغَرِقَت فِي لَحْظَةِ بَعِيدَة رُبَّمَا فِي وَعِيٍ اّخرمواز.. نَظَرَ لَهَا بشئ مِنْ الرَّغْبَةِ وَالتَّعَالِي فِي اّن وَاحِد.. مُعَلَّقًا عَلَى قرطي أُذُنَيْهَا بِأَنَّهُ لَا يَلِيقُ بفتاة أَرِسْتُقراطِيَّة مِثْلِهَا عَلَى حَدِّ قَوْله وحرفيا.. “قرط رَخِيص الثَّمَن”.. كَانَتْ الْأَيَّامُ تَمْر بَيْنَهُم كخراف يتهيئ لِلذَّبْح لَيْلَةَ عِيدٍ . . وَلَم يُجْدِي بُكَاءَه الطَّوِيل لإِنْقاذِه مِن السِّكِّين.. وَهُمَا يقتربا أَكْثَر وَأَكْثَر لِيَوْم عرسهما الَّذِي لَمْ يُحْدِثْ أَبَدًا ، وَلِأَسْبَاب بَعِيدَة وَغَيْر مَفْهُومُة’ كَانَتْ رَائِحَتُهُ وَهُو يَقْتَرِب مِنْهَا لِمُجَرَّد الْمُصَافَحَة تَحَمَّلَهَا عَلَى الْفَوْرِ لذكريات تَخَاف حَتَّى الْإِفْصَاح عَنْهَا وَجَاهَدْت الذَّاكِرَة لمواربتها فِي مَكَان بَعِيدٍ جِدًّا وَلَكِنَّهُ عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْهَا كَانَ دَاخِلَ عَقْلِهَا. لِأَنَّهَا كَانَتْ عَبَّر تِلْك الذِّكْرَيَات ابْسُط الْقَوْلُ أَنَّهَا كَانَتْ منتهكة . . طِفْلِه فِي الرَّابِعَةِ حَتَّى لَا تَعِيَ مَا يَفْعَلُ بِهَا فِي أَيَّامِ أَكْثَر كاّبه مِنْ يَوْمِهَا هَذَا . . وَسَط ظَلَام الغُرْفَة إلَّا مِنْ مِصْبَاح صَغِيرٌ يُشْبِه الْمِصْبَاح الْمُسَلَّطِ عَلَى تِلْكَ المانيكان الصَّامِت وَرَاءِ الزُّجَاجِ.. كَانَ يَحْضُرُ لَهَا الدُّمْيَة الصَّغِيرَة لتصافحها مُرَدَّدَةٌ “ماما…بَابًا” بِشَكْل رُدِّي مُتَكَرِّرٌ وَلَكِن كَاف لأبهار طِفْلِه صَغِيرَة يَسْحَبُهَا بِهَا تَحْتَ سَرِيرٍ الْجَدَّة الْغَائِبَة, يداعبها بِاللُّغَة الْحَرْفِيَّة للمداعبة.. مِثْل امْرَأَة خَائِبَةٌ الرَّجَاء تَعْزِف أُغْنِيَّة وَحَيْدَة فِي غُرْفَةٍ مُغْلَقَة كَانَت تَأْتِيَهَا الذِّكْرَى الْمُوجِعَة دميتها الصَّغِيرَة وَصَوْتُهَا الرَّتِيب مُصَاحِبًا لِحَرَكَة يَدَاه الْخَشِنَة فِي شَكْلِ دائِرِيٌّ أَشْبَه بدوامات الْبِحَار الغارقة.. الشُّعُور المراوغ بِذَنْبٍ لَمْ تقترفه وَهُو يحذرها بِأَنْ لَا تَقُولُ مَا يَفْعَلُهُ لِأَحَد.. بِجَسَد مرتعش صَغِيرٌ وَأَهِن باحَت لِأُمِّهَا بسرها كَادَتْ أَنْ تَكَمَّم فَم الِابْنَة لِكَيْ لاَ تَنْطِقُ بِهَذَا مَرَّةً أُخْرَى خُصُوصًا إمَام أَبَاهَا خَوْفًا مِنْ غَضَبِهِ وَعِقَابِهِ الْمُتَوَقَّع لِلْفَاعِل كَانَ مَعَ الْأَسَف أَحَدُ أَقَارِبِ الْأُمِّ.. فِي لَوْحَة جدارية عَظِيمَةً مِنْ خَيْبَة الْأَمَل أَشْعَرَت الْأُمّ الِابْنَة بِأَنَّهَا المذنبة وَنَظَرْت لَهَا نَظَرِه اِشْمِئْزازٌ ونفور حَتَّى إنَّ الِابْنَة خَافَت كَرَاهِيَة الْأُمّ خَافَتْ أَنْ تنكرهها بَعِيدًا أَوْ تَلَقِّي بِهَا خَارِجَ الْبَيْتِ.. فِي الْيَوْمِ التَّالِي اجْتَمَع الْجَمِيعِ عَلَى مَائِدَةٍ الطَّعَامِ وَكَانَت تُشْعِر بِخَجَل شَدِيدٌ حَتَّى أَنَّهَا وَاصَلَت الطَّعَام تَحْت الْمَائِدَة مكورة جَسَدِهَا الصَّغِير.. تائهة بَيْن أَقْدَامِهِم.. لَمْ تَسْتَطِعْ تَحْمِل نَظَرَات الْأُمّ لَهَا وَكَانَ صَوْت ارْتِطَام الْإِطْبَاق وَأَدَوَات الْمَائِدَة والسكاكين يرن فِي أُذُنَيْهَا الصَّغِيرَتَيْن مُحْدَثَة ضَجِيج أَشْبَه بِأَصْوَات ضَجِيج ارْتِطَام البَنادِق بِالْأَرْضِ مَا بَعْدَ انْتِهَاءِ الْحُرُوب.. شَعَرْت لشئ مَا أَنَّهُم يَأْكُلُوا مِنْ جَسَدِهَا وصمتها الْأَبَدِيّ متعالين عَلَى سِرِّ يُمْكِن لَهُ أَنْ يَمُوتَ لِلْأَبَد بمنهى السماحة لتحيا صِلَةِ الرَّحِمِ وَكَان بينهم قُرْبَان الْمَوَدَّة وَوَصَل مَا كَادَ يَنْقَطِع.. كَان قُرْبَان الْمَوَدَّة هذا رُوحِهَا الْعَجُوز وجسدها الصَّغِير الفتي مَعًا..
ذَلِك الصَّمْت المرعب الَّذِي عَاش دَاخِلِهَا أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ عَامًّا تَرَاه الاّن جَلِيًّا فِي تِلْكَ الْعَيْنَان الْمَصْنُوعَةِ مِنْ البلاستيك للمانيكان الْوَاقِفَة خَلْف الزُّجَاج . . جَاهَدْت الْكَلِمَات دَاخِلِهَا لتفيض إلَيْهِ هُوَ الْوَاقِفُ جِوَارِهَا إمَام الفاترينة لَا يُفْهَمُ لِمَاذَا تُحْدِق فِي ذَلِكَ الْكَائِن البلاستيكي التَّعْس لِهَذَا الْحَدّ وراودها شُعُور مُفاجِئٌ بِالْخَلَاص وَنَطَقَت “عفوا لَا أَسْتَطِيعُ مُوَاصَلَة هَذَا ”
فِي دَهْشَة تَامَّةٌ سَأَلَهَا “ماذا تقصدين تُرِيدِين الْعَوْدَة لِلْبَيْت”
نَظَرْت إلَيْهِ نَظْرَةً مُبَاشَرَة فِي عَيْنَيْهِ
“لست مُهَيَّئَة الْآن لِلزَّوَاج مِنْك”
وَذَهَبَت.
التعليقات مغلقة.