ما نحن بكاتبين إلا ما كتبنا على واجهات صور ذواتنا، أو على رسومات ظلالنا التي تكاد تشبهنا، تلك الظلال الحاملة لعتمات دواخلنا، نحو فلق وجودنا المتحرر من ظلمات ظلالنا المعتمة، نحو إشراقات الذات الإنسانية في أبعادها الفضائلية والقيمية، لنكتب ما تأول في بصائرنا من أشياء تكاد تنفلت من قبضة خلايا قوانا على اختلافها.
لنكتب وما نحن بكاتبين كل شيء، فقط النزر القليل مما تفتق بين ثنايا وجودنا، بوعي أو بدون وعي، بل لنكتب ولو على بساط الرياح حاملة ناثرة ذرات ما كتب في كل اتجاه من المعمورة، حتى في اتجاه السماء، لنكتب على الصخر، ناحتين رسومات شبيهة بما نحن عليه، شاهدة على مرورنا من هنا إلى الهناك، أطلالنا في معمار الإنسانية، إلى أن ينتهي بها المطاف في رحلة شاقة تتقاسمها ظواهر مختلفة، في صراع مع دوافعها وما تنتجه من تداعيات، ترمينا في دهاليز الغامض، وفي محاولة منا للكشف عن هذا الغامض والخفي تصدح الكلمة بمدادها، لتنكتب على صفحات الوجود، بكل الألوان، منها ما يبعث على الفرح ومنها ما يبعث على الحزن، منها ما ينشد السلام ومنها ما يدير ظهره في اتجاه التوتر ومعاداة الإنسانية في حلمها لتنعم بالاستقرار والأمن والطمأنينة، منها ما يزرع الأزهار والورود ليستنشق عطرها مع هواء نقي، ومنها ما يزرع الأشواك المدمية للقلوب والمشاعر ولحظات الصفاء والنقاء.
عن أي شيء نكتب؟ وماذا نكتب؟ وكيف نكتب؟ يقال في البدء كانت الكلمة، لنتساءل كيف نطقت هاته الكلمة، أم أنها كانت فقط رمزية لا صوتية بما هو معهود فيها؟ لقنت أم علمت أم رمزت ؟ الكتابة حروف،الكتابة رموز، الكتابة بوح، بوح بماذا؟ الكتابة تطلع، تطلع إلى ماذا ؟ الكتابة مهمة، مهمة لأجل من ؟ الكتابة رغبة، رغبة في ماذا؟ الكتابة انشغال، انشغال لأجل من؟ الكتابة اعتراف، اعتراف بماذا ؟، الكتابة مقاومة، مقاومة لأجل من ولماذا؟ الكتابة تمرد، تمرد على من؟ الكتابة تخيل، تخيل ماذا؟ الكتابة استجلاء، استجلاء ماذا ؟، الكتابة كل هذا وغيره، في تقاطع فيما بين دروبها وأجناسها.
نكتب لأننا في حاجة إلى الكتابة، بعد قراءة ما، قراءة فعلية أو رمزية، نكتب لأن العقول مجبولة فطريا على الكتابة، على التفكير، على التأمل، على التأويل، على التبصر، هكذا أجبر الإنسان على الكتابة، نكتب لننكشف للأخر منا وغيرنا، في كل المستويات، نكتب لأننا نريد من الأخر أن يقرأنا، نكتب لأننا في حاجة إلى التعبير عما بدواخلنا وعما نفكر فيه ونتأمله، عما أفرحنا وأحزننا، عما نتفق معه وعما نختلف، عما نستحسنه وعما ننكره ونمقته، كل بحسب رؤاه وتصوراته، نكتب لنسجل محطاتنا عبر الحرف والرمز والدلالة، عما كان عليه وجودنا، وعما يمكن أن يكون، عما عشناه من لحظات سلم وأمن وسلام وعما خضنا فيه من صراعات وحروب على كل الجبهات، نكتب لتستأنس الأجيال القادمة بتجارب السابقين عليها، للتوثيق لمشاهدنا المعاشة لأجل قراءتها من جديد، لخلق فضاءات للذاكرة بشكل يسع للوافدين عليها والغوص في بحور مدادها، لحيوات ولذوات كانت ولا زالت مستمرة عبر رمزياتها الوجودية.
نكتب لأننا في حاجة إلى الكتابة، بعد قراءة ما، قراءة فعلية أو رمزية، نكتب لأن العقول مجبولة فطريا على الكتابة، على التفكير، على التأمل، على التأويل، على التبصر.
نكتب لاختلاف تجاربنا وطبائع تصوراتنا، نكتب لأننا لم نقف عند تخوم الحقيقة بحد ذاتها، نكتب لأن تطلعاتنا لا زالت حبيسة جدران الحقائق المبهمة، نكتب لأننا نريد أن نستبيح ذواتنا في ليال دامسة لم تكشف عن بياضاتها بعد، للكشف عن بؤر التوتر بداخلها، عن ما يخالجها من أحاسيس ومشاعر تقف على حدين عصيين على الفهم، حد الانقسامية والانشطارية وحد التلاؤم والقرب، حد التطلعات نحو الحرية والسلم والعدل وحد العبودية والعدوان والحرب، حد الاستسلام و السلبية والاستلاب وحد المقاومة والجهاد والنضال.
نكتب لتلمس الخيوط الناظمة في علاقاتنا بوجودنا، بين ثناياه هناك العديد من المحددات على اختلاف مرجعياتها، والكثير من التصورات والتجليات، فلنكتب لأننا مجبرين على الكتابة، فالكتابة قراءة جديدة، كيف ما كانت طبيعتها ومستوياتها، لا مجال فيها للسهو أو التغافل أو النكران.
التعليقات مغلقة.