لا أريد أن أنام – لطيفة لبصير

لطيفة لبصير

لا أصدق أنها تحت التراب…

هي تعرف أنني سأنتزع جسدها النائم ليلا، من حضن الأرض، وعدتها بأنني سأفعل إن هي غادرت قبلي، وأقسمت لها بأنني لن أترك التراب يلفها لأنه موحش وغير رحيم.. وكانت تضحك ! أراها الآن تضحك، لقد تعمقت الغمازتان اللتان أعشقهما بجنون، ضغطت عليهما بأصبعي كأني أستل منهما روح الحياة… وكأني أراها تنظر إلي بعينيها السوداوين كما اعتادت أن تفعل حين كنت ألاعبها في الليل أمام البحر، كنا نصرخ مثل مجنونين تآلفا مع عالم غير كائن، وكنا نخرق الأرض بلعابنا الممتزج صاخبين .

مزقت الكفن الأبيض وأخرجت جسدها الندي برفق، ألبستها قميصا ورديا ذا أكمام طويلة زاهية وسروال جينز ممزقا من على الفخذين، يزينه عقيق أبيض وأشكال هندسية مكعبة بسهام سوداء منزوعة الرؤوس، وأدخلت قدميها الجميلتين في حذاء أحمر ذي كعب عال، (هي دوما تعشق الأحذية العالية عند الاحتفال).

أتذكر يوم زرت منزلها أول مرة، بدا والدها ضجرا من بوهيميتي، ربما كان يزعجه شاربي المقوس إلى أعلى، ( أنا أحب شاربي الملعون هذا وأقضي أوقاتا طويلة أمام المرآة أقومه وأضع عليه كريمات خاصة كي يبدو ناعما وجذابا ومريبا، ولم أعد أستطيع أن أظهر بدونه؛ أشعر كأنني عار تماما).

قال لي، حتى دون أن ينظر إلى وجهي مباشرة، بأنه يكره الذين يرسمون لأنهم فاشلون بكل تأكيد وهم يشخبطون أشياء غريبة عنا. كنت أستنجد بدمعتين استقرتا في عينيها كي تدافع عن جنوني وجنونها، لكنها لم تستطع شيئا، ومن غير الممكن أن تذرف تينك الدمعتين دائما. كان والدها يزمجر ويرعد لكنني لم أعد أستمع إليه،  وضعت صرصارا كبيرا على وجهه، فبدا رجلا بوجه غريب، يحدث لي ذلك حين أرفض الاستماع، أضع الأشخاص في وضعية صمت مطبق و كأن أذني تتوقفان عن التقاط الأصوات، ثم أطير الى عالم آخر غير الذي أعيشه، كنت أشعر بأن كلماته بدأت تصل متقطعة و كأن الصرصار يضغط على مخارجها، و كنت أعبث بقبعتي المستطيلة بين الفينة    و الأخرى وأنا أنتشي بوضعه الجديد، و بداخلي قهقهات تغرد قاه قاه قاه ها ها ها ها ها…

أشياء كثيرة توقفت منذ ذلك الوقت، كانت مثلي تماما حين عرفتها ذات يوم مجنونة ترسم أمام البحر، كانت قد وضعت إطارا سميكا ووضعت محابرها  وأقلامها المتعددة و شرعت تنقل أشكال كل الذين يعبرون فوق الرمل من أشخاص  و طحالب و بقايا سمك و أشلاء ملابس ممزقة يبدو أن البحر لفظها ودعوات الرجاء التي يتمناها القادمون إلى البحر كي يطهرهم من الآخرين الساكنين في أجسادهم ! أنظر إليها و أنا أحفر عميقا في الرمل كي أغرز إطار لوحتي بداخله، كنت أقبض عليه بيدي كي أضعه داخل الإطار حتى لا يتناثر  ويطير، ثم أغرق في النظر إليها وهي تتماوج مع كل الأعطاب التي تحدثها الطبيعة فتبتسم لي؛ ما زالت ابتسامتها المشرقة  فوق كل ما يحدث هي الشكل البارز من لوحتي .

مرت ذات يوم من أمامي وهي تتأبط ذراع رجل يبدو غريبا، وكانت ذبابة ضخمة عالقة فوق جبهته، تركت الذبابة تفعل أفاعيلها وأنا أملي نفسي منها، لكن حبيبتي لم تكن مرحة! أو هكذا أردتها أن تكون. كان وجهها قد صار قرمزيا وعيناها جاحظتين، أتخيل أنها رأتني، لكنها لم تنتبه إلي. كانت ملابسها قد خلت من الحياة، إذ كانت ترتدي فستانا رماديا منغلق الأكمام والصدر؛ بدت بشكل آخر، مختلف تماما، حتى أصابعها بدت مرتبة بعناية فائقة ونظيفة للغاية وكأن الألوان غادرتها منذ مدة. في تلك اللحظة، كنت أرغب لو أنني أمسكت بأصابعها وقبلتها ثم أقول لها كم أحببت أن تصفعيني ولو مرة واحدة يا رفيقتي في البحر! لكنها ابتعدت، وسمعت صوت البحر وراءها وأمواجه كأنها تلاحقها بشدة وتنكسر على الرمل.

أتأملها الآن و أنا أحتسي النبيذ وأضع الكأس بين شفتيها كي ترتشف معي نخب هذا الجسد الذي توقف عن العدو، كانت جميلة جدا وهي تنساب أمامي، و رغم أنني أيقظتها من سبات المهد الآخر، فقد بدت لي كأنها قضت  هنالك مئات السنوات، ذلك لأن قلبي كان يحترق و أنا أراهم يهيلون التراب على وجهها الربيعي الندي المتبسم ، كانوا قساة في غلظة واضحة، رأيت معاولهم التي تزج بجسدها سريعا في عمق التراب، و كان المشهد ثقيلا جدا، صار أثقل من كل المشاهد البطيئة التي عشتها في حياتي، لكنني انتقمت منهم؛ حرمتهم من الآدمية، فقد تحولوا الى أشكال جامدة لا تتحرك أبدا وتوقفت آلاتهم الحادة عن الحفر…

كنت ألعن التراب في تلك اللحظة لأنه أطبق على أنفاسها بلا رحمة، كان فرحا حين تلقفها وكأنه يقتات من عنفوانها الصاخب، هو يدرك أنه حين يحضن تلك الوردة سيشع وينتعش، نعم، كنت ألعنهم وألعن التراب حبة حبة… وكنت أنقل ما يفعلون بالقرب منهم في لوحة صاخبة، أوقفتهم في تلك اللحظة وكأنني عطلت كل الساعات في العالم كي يتوقفوا…

فعلا، أوقفت كل الساعات…

هي لزجة الآن، أتأمل جسدها المسجى أمامي، أعرف أنها  تشعر بي لأنها حركت أحد أصابعها حين ناديتها و كأنها تحثني على أن أجعلها بالقرب مني، بدت ناعمة جدا مثل الساعات الناعمة الأليفة، و كان المصباح قد صار حنون الضوء هو الآخر وكأنه كان يستمع إليها وهي تتحدث لأول مرة على طريقتها الخاصة.

أنا لا أريد أن أنام…

أنظر إلى جسدي حين كان طفلا يكتشف العالم من حوله، كان يثيرني منظر الحشرات وهي تتحرك أو تطير، كنت أتأملها بدهشة وأكره انطلاقها في الحياة.  كان جسدي يبدو لي آنذاك، حين أقف إزاءها، كبيرا، لذا كنت أفعص النمل وأطارد الذباب و الفراشات والنحل وأبحث عن كائنات أخرى تطير كي أضعها في أواني زجاجية و أحكم عليها الإغلاق كي أراها تتعذب وهي تحاول أن تطير، وأفرح جدا حين تبدأ بالتراخي وتنكسر أجنحتها الرفيفة وهي تحتك بالزجاج. كانت أمي تقف مشدوهة أمام ما أقترفه، وكانت تخاف علي كثيرا، لكنني كنت أرقص حين أرى هروب الأطفال وأنا أمسك بيدي حشرات سامة، مقيتة، منكسرة الجناح أو مهشمة المفاصل والملامح، كانت تلوذ بطلب الرأفة وهي تحاول أن تلتقط ما تبقى لها من أنفاس أخيرة، لكنني كنت أتلذذ بعذاباتها وهي تتحلل.

أتخيل الإله دوما وهو يلتقطنا من آذاننا بملقاط معدني طويل و كأنه يضعنا في حوض كبير من الزيت الحارق و يقلب أضلعنا الصغيرة و كأننا اسفنج شهي سيلتهمه بعد قليل و أسمع صوت أسنان قوية فأتهاوى قليلا ثم أقفز فجأة وأبحث عن حشرات أخرى تذوي بين أصابعي .

أنظر إليها وقد فتحت عينيها قليلا لتراني، كنت أنتظر ذلك منها، قالت لي يوما إن الروح تظل ترفرف ساعات و شهورا بعد ذهاب الجسد للخلود في مكان ما، وإنها تسمع النداء… وكنت بالفعل أناديها كي لا تنام، وكانت عيناها قد عادتا بنفس البهاء الذي رأيتهما عليه لأول مرة وهي تسير ببطء على شاطئ البحر. كانت تبدو بشعرها المنساب الذي يتناعس على ظهرها مثل كائن مألوف لدي يعود من دفتر قديم  كنت رسمتها فيه قبل أن أراها الآن، أتذكر ملامحها الأولى و أقارن بينها وبين الطفلة التي تخيلتها، كنت أنا أيضا في الدفتر، معها…

أسمع ضجيجا يتناهى إلى سمعي، كان الآخرون يصرخون بحدة:

  • لقد أخرج الجثة…لقد أخرج الجثة !

كان أمامي جسد بهي بعيون ناعسة وكنا نرشف عسل بعضينا…

كنت قد استعنت بكل طاقتي المبدعة لتحويل مصائرهم، صاروا يلهثون  و يطنطنون و يزحفون، وكنت أنا أحلم  بوجهها الذي أضحى ورديا، زحفت معها نحو يقظتنا الأبدية، وغرقنا معا أمام دهشة الأصوات…أهلنا التراب علينا  و نحن نشدو.. كنت أسمع أصواتهم تبتعد… تبتعد حتى سكتت عنا إلى الأبد.

التعليقات مغلقة.