اعْتَدْتُ الأغنيةَ، أخذَتْ مني مأخذاً جعلَها لا تفوِّت فرصةَ شرودي لحظةً حتى تحضرَ وتنثرَ مِلْحَها فوق جروحٍ غائرة، فشلْتُ غير مرة حين كنت أتَعَمَّدُ تجاهلها، لكنني كنت أشعر بسعادة لا أستطيع تفسيرها حين أفشل كل مرة في الفكاك من حضورها، ربما كنت أخشى أن تهجرني، أجل أخشى ذلك خشيةَ مُدْمِنٍ الشفاءَ، إنه الوجع اللذيذ، الوجع الذي ينتشلُكَ من وجع أمَضَّ.
على الضفة الشرقية للفرات كانت بغداد تحترق، وكنا نحترق معها، كأنَّ قنابل الغزاة كانت تسقط في قلوبنا، كان بكاءُ “وَشْلَةَ” “عبدَ الله” مُفْزِعاً ونداؤُها “مَيْحانَة” على مقام “أوشار” – المقام العراقي الأصيل المفعم بالحزن والألم والتشكي – جنائزياً، و”مَيْحانَة” لا تقوى إلا على البكاء حزناً على حزن “وَشْلَةَ”.
على الضفة الغربية للفرات، كانت دراما سوريا في ذروة عطائها، وكنا على موعد مع “ذكريات الزمن القادم” المسلسل الذي دق ناقوس خطر و فتح جرحاً لم يندمل.
أذكر أنني ما استطعت انتشال الروح من نوبة بكاء، يومها بلغ الخوف مداه، وبلغ “هيثم حقي” مراده، أماط الرماد عن الجمر، الجمر الذي كنا نتفقد اتقاده بحذرٍ، نخشى منه احتراقنا ونخشى عليه الخمود، يمعن في الاشتعال ونغرق في القهر أكثر، “شيءٌ ما … يحترق”، يحترق فيحرقنا و نتغافل عنه.
كَإنُّه نْبارِحْ… مَطَرٌ حامضٌ كان ينسكب على الشاشة في اللحظات الأخيرة من الحلقة الأخيرة مع شارة النهاية التي أسدلت ستارتها على العمل، يعود مقام “أوشار” من جديد، “أوشار” المقام العراقي الأصيل المفعم بالحزن والألم و التشكي، غرب القلب هذه المرة، يتدفق من “النَّاي” جريحاً مبحوحاً حَدَّ النحيب:
خايف عليها … تَلْفان بيها
شاااامْ دَقَّة بالقلب … لو تنباع
كِنْت اشْتريها
يصير أن تدخل في نوبة موت، تلقي نظرتكَ الأخيرة عليك، تتنفس ترابَكَ الرطب، ثم تصحو على صوت عابر سبيل يقرأ الفاتحة، تلقي عليه السلام، تجمع الريحان عن ضريحك وتمضي نحو موت جديد .
قُلْتُ أكتب عن الأغنية، ربما حين أفعل أتخلص من ظلها، أخرج منها وتخرج مني، كان ذلك في الأيام الأخيرة من شهر آب من العام 2015، ولتوخي الدقة في ما نويت، وللتأكد من كلمات الأغنية، تواصلت مع “هيثم حقي” الذي لا أعرفه إلا من خلال متابعة أعماله، أكد لي أن الكلمات صحيحة، و أكد لي أيضاً أنه فوجئ بأن شخصاً غيره يريد أن يكتب في ذات الموضوع وفي ذات اليوم، قال إنه سيكتب عن العمل وعن الأغنية في يوم ميلاده الذي صادف يوم نشري لما كنت أنوي أن أكتب، تَخاطُرُ أحزانٍ ربما، وربما تشاطُرُ خوفٍ .
يعودني مقام “أوشار” من جديد، يلحُّ عليَّ :
خايف عليها … تَلْفان بيها
شاااامْ دَقَّة بالقلب … لو تنباع
كِنْت اشْتريها
تعلقت بالأغنية أكثر، خشيت أن تتركني إن بُحْتُ بسرها، أن أنزع عنها خصوصيتها، أن أكشف الغطاء عن أثرها الموجع اللذيذ، فقررت ألا أكتب عنها.
التعليقات مغلقة.