ارتكبت الشّركة المكلّفة بالقطارات خطأً فادحاً لا يُغتفر. إذْ لم تستمع لشكاوى النّاس بعدما أحسوا، وهم في القطار، باهتزازات غير عادية. استفسروا عن مصدرها ولكنهم لم يتلقّوا إجابات مقنعة. ذهب المشتكون إلى حال سبيلهم. وركب آخرون في نفس القطار غير مكترثين. قطع القطار فرسخاً أو فرسخين فوقعت الحادثة، وتعالى صياحهم، ولقي العشرات من الركّاب مصرعهم، فيما سيُعاني البعض الآخر من عاهات ستبقى ملازمة لهم ولن يستطيعوا إخفاءها. طائرات مروحية تقلّ المصابين إلى المستشفيات على وجه السرعة، والصور الموثّقة للحادث تهاطلت كالمطر على الفايس بوك. كارثةٌ حفرت جرحاً غائراً في قلوب ذويهم. سرقهم الموتُ فجأة. الموت، كما قلت، يباغتنا في كلّ حين، وهو المنتصرُ علينا جميعاً.
أتابع عن كثب جزئيات وتفاصيل الحادث عبر مواقع السيشل ميديا التي قدّمت خدمة جليلة للبشرية لا يمكنُ إنكارها، رغم المساوئ الّتي تحملها. لم يُفارق الهاتف يدي، أتابع آخر المستجدات بترقّب يشوبهُ خوف كبير. قبل أن أتمدّد على الأريكة هارباً من يومٍ سيبقى راسخاً في تلافيف ذاكرتي. سمعتُ الهاتف قد اهتزّ بعدما توصّلتُ برسالةٍ من إحداهنّ تدعى سوسن، إلى جانب عشرات الرّسائل التي توصّلتُ بها طوال اليوم دون الاطلاع عليها. كانت معظمها عبارة عن أدعية أو فيديوهات تافهة يتقاسمونها معي. تعمّدت ألّا أُجيبها. تصفّحتُ صفحتها الفايسبوكية؛ المُمتلئة بصورٍ لأفلامٍ ومسلسلات، سبق وأن شاهدتُ بعضاً منها، ونصوص اعتادت نشرها، كنت إلى وقت قريب، أجد صعوبة في تصنيفها وتحديد جنسها. كما اعتادت على نشر مقاطع من روايات لأسماءٍ مغمورة، وفي بعض الأحيان تلتقطُ صورة لرواية أو كتاب فكريٍّ مترجم، ترجمتهُ ركيكة وطبعتهُ رديئة بعدما نشرته دار نشرٍ مبتدئة. خرجتُ من صفحتها ورميتُ هاتفي على الأريكة. اتجهت إلى المطبخ في تثاقل. تناولت قليلاً من الخبز والزّبدة وسخّنتُ كأس شايّ بالنعناع. لم أعد آكلُ بنهمٍ كما كنت، بعدما فقدتُ شهيّة الحياة.
تواصل مسلسل اهتزاز هاتفي برسائلٍ كثيرة. تفقّدتها. فوجدت أنها مرسلة من قبل الشخص عينه. يا للهول. تطلبُ منّي منحها فكرة كتابة رواية، وأن أرشدها إلى الأعمال التي يُمكنُ أن تنهل منها أسلوباً رشيقاً، ولغة رصينة، وفكرة محورية وعنواناً جذّاباً. أعدتُ تصفّح صفحتها مجدّداً. طالعتُ صوراً لها. هي فتاة متأنّقة في عقدها الثاني، تطبعُ الأناقة جلّ صورها، فجسمها الرياضي المنحوت، وتسريحة شعرها الفاحم، وأحمر الشِّفاه على شفتيها الممتلئتين، تفاصيل تأسر أمثالي ممن اعتاد مسامرة الكُتب في الليالي الموحشة. فوجدتني غارقاً في استكشاف جسدها من مفرق جدائلها إلى موضع خلاخلها.
تردّدتُ في إجابتها. لكن جمالها وألقها شفعا لها. كانت أسئلتها بليدة ذكرتني بنفس الأسئلة التي طرحتها قبل عقدٍ من الزمن على كتّابٍ كبار لم يعيروها اهتماماً. بعدما بلغت مرادي، حذفت أرقام هواتفهم، وحساباتهم الفايسبوكية من لائحة أصدقائي، وتحاشيت معرفة أي شيء يخصهم.
أجبتها باقتضابٍ شديد:
ـ اقرئي قبل أن تكتبي. اقرئي الأعمال الكبرى، إذ ليس المهمّ أن تقرئي ولكن الأهمّ هو أن تعرفي ماذا تقرئين.
قرأت رسالتي وسرعان ما أنهت صداقتنا الافتراضية لتتركني في حالة غُلمة واهتياج. تزاحمت الأسئلة في ذهني، إذْ لم أفهم سبب قيامها بذلك. هل قلتُ شيئاً ليس في محلّه؟ لو لم تقم بحظري لاستعدتُ مراجعي في الغزل ومسعولِ الكلام دُفعةً واحدة.
فارت الدماء في رأسي بسبب حظّي العاثر. حذفتُ المحادثة التي جمعتنا واستلقيتُ على الأريكة مفرجاً عن ابتسامةٍ ساخرة، فلو بقيت في صفحتي لأرهقتني بأسئلةٍ أكثرُ بلادةٍ من سابقاتها.
التعليقات مغلقة.