قصيدة النثر عبر وعي السرد – قراءة في: “لا تقل عن ولدي إنه يمشي في السماء” لـ:إسلام نوار- إيمان السباعي

“وها أنا أحكي شعراً عن تفاصيل حياتي

وأقرؤه كما تقرأ كتب الباطنة

أو تايم فيسبوك”.[1]

سعت قصيدة النثر إلى تجاوز مفهوم الجنس الأدبي لتصبح نصًّا مراوغًا يتمرد على القالب في مضمونه وشكله. فكل قصيدة نثر أصبحت ذاتها وكل شيء آخر عدا ذاتها؛ لذا ستُقرأ-كما يعلن إسلام نوار- ككتب الباطنة وتايم فيسبوك، بعد أن نُزع عنها كما عن شاعرها أي امتيازٍ كنص يحاول تفسير العالم أو منحه معنى أو خلاصا. لا شيء مؤكد لا شيء موجود وإن توهمنا وجوده، والقصيدة نفي لهذا الوجود” أنا محروق القلب وهذا الحرق غير موجود وهذه الندبة التي قد أراها تسبق الحرق ذاته غير موجودة أيضًا”.

تقدم القصيدة إما “معلومات” عن العالم كتلك التي يقدمها محرك البحث أو تقدمها كتب الباطنة عن الجسد وعلله، فهي ترصد أكثر من كونها تتأمل. وإما تقدم لقارئها ما يبدو أنه اليقين أو الحقيقة  لكنه كتايم فيسبوك ليس صورة العالم بل صورة افتراضية عنه كما يعلن إسلام نوار: “Nothing Is Original”.[2]

إن مصطلح قصيدة النثر لا يقدم إليك ما يمكن اعتباره (شعر صاف)، فالشاعر في قصيدة لا تقل عن ولدي إنه يمشي في السماء يريد أن يحكي حياته شعرًا أي: يصبح راويًا لقصة تستخدم الشعر وسواه، متبنية سرديات مطولة “تفاصيل” متخليةً عما يميز القصيدة من تكثيف وإيجاز. إن أهم ملمح من ملامح قصيدة النثر حسب واحد من أهم شعرائها في أميركا تشارلز سيميك هو “هجينيتها”[3]، بعد وجهة النظر تلك ليس من الغريب أن نبدأ كلامًا عن قصيدة النثر بكلمات فرجيينيا وولف عن كتابة ما يُعرف بتيار الوعي في الرواية وهي من رواده.

” يتقبل الذهن انطباعات عامة؛ انطباعات تافهة، غريبة، سريعة الزوال، أو محفورة بحد من الصلب، تأتي من كل جانب، ذرات لا تعد ولا تحصى وفي أثناء سقوطها وتنظيم ذاتها على شكل الحياة يوم الاثنين أو الثلاثاء يقع مركز الاهتمام في مكان يختلف عن مكانها من قبل لم تأت اللحظة المهمة هنا بل هناك.

لنسجل الذرات التي تسقط على الذهن بالنظام الذي تسقط فيه ولنتتبع التنظيم الذي يسجله كل منظر أو حدث على الوعي مهما كان غير متصل أو غير مترابط”.[4]

تتساءل فيرجيينا عمّا قد يمر في ذهن عادي؟  أليست هي الفوضى بنظامها الخاص؟

في مئة وعشرين صفحة يتحقق ذلك بصورة تبدو مثالية بداية من الصفحات الأولى  والتي لا يمكن وصفها بمقاطع نثرية! سوف تصدم أعيننا تلك الفوضى ونقرأ بعين مرهقة لا تستطيع تصور ما ستراه في الصفحة التالية.

بعقل عادي

في يوم عادي

لا يعرف لأي شيء مسمى

وغير قادر على التسمية

هكذا يبدأ الشاعر قصيدته الطويلة بما أعتبره محاولة جعل  تلك الفوضى أقل إرباكًا للقارئ،  وذلك بإعلامه أن ما سيقرأه هو سيل أو تيار داخل عقله.

إن هذا العقل في تخليه عن وعيه بالعالم مختزَلا في أسمائه؛ فأن تُسمّي.. هو أن تعرف كما في قصة الخلق “وعلّم آدم الأسماء كلها”- يفسح مجالًا لما قد يمليه عليه هذا التيار من وعيه العادي كشاعر:أي الذي لم تتم السيطرة عليه أو كبته والذي  ستنفجر فوضاه، هذا القتل للعالم الواقعي والعالم الخيالي معًا ليظهر إلى الوجود عالم جديد جنوني وهجيني كالقصيدة ذاتها.. لقد قتل الشاعر نفسه من أجل هذا؛ من أجل ولادة ما يهدم كل ما نعرفه من قبل:

“بالشوكة والسكين

وسط بائعي الطماطم والكتاكيت

على شريط السكة الحديد

المنحني في كل بعد

تضرب الصفارة

أنتظر حتى أُدهس

لأتناول نفسي التي

نبتت من شريط سكة حديد كاللولب المزدوج”.

 

ولكن ما  الوعي؟

يشير هنري جيمس إلى منطقة الشعور على اعتبار أنها منطقة التجربة الإنسانية وهذا لا يستثني شيئًا على نحو كلي، فهو يشمل الأحاسيس والذكريات والمشاعر والمفاهيم والأوهام والتخيلات والظواهر غير الفلسفية التي لا يمكن تفاديها وهي التي نسميها الحدس والرؤية والبصيرة. أي أن مجال الحياة الذي يهتم به أدب تيار الوعي هو التجربة العقلية والروحية”[5]

أليس هذا ما يمكن تطبيقه على قصيدة النثر أيضًا وما نجده في قصيدة إسلام نوار الذي صرح في قصيدته أن إحساسه ربما يكون سابقًا على لغته.

إن التجربة العقلية للشاعر، حاضرة في ما ينقله إلينا العقل في رحلته لاكتشاف  الشعرية في العالم عن طريق  تجسيده في “صورة بصرية مجازية”[6].  لنقل أن الاسم الجديد للعالم هو المدينة. ولن يكون غريبًا أيضاً أن يوثق للبدايات الحقيقية لقصيدة النثر ببدايات صعود المدينة كرديف للعالم الصناعي الجديد وصخبه وقوانينه. فالعقل الذي عجز عن تقييد الله في مفهوم فلسفي سيجد له تجسيدًا في المدينة، جنبًا إلى جنب مع المومس رغم ما يبدو من تناقضهما الظاهر وكلاهما إلاها المدينة الحديثة. “الله مدينة. المومس مدينة”[7] وسيبدأ هذا الفيضان في الانفجار فنجد أنفسنا لا أمام قصيدة بل أمام أفق بصري مفتوح لا يحمل دلالات بل أصواتاً ” ترنيمة كنسية، آذان، أغنية شعبية، هتافاً، نصَّاً مقدسَّاً مُحرَّفاً، قصيدة عمودية”  تنتقل إلينا عبر الشاعر رغم أننا لا نراه لأنه يختفي خلف هذا الوعي.

ما أشبه القصيدة التي تستخدم تيار الذهن المتحرك بشاشة تعرض أمامنا حركة هذا الوعي وتحولاته لذا سيبدأ حضور الشاعر باستخدام الضمير أنا في الفعل “أرى” أمام شاشة أيضًا.. شاشة حقيقية، في  تداع حر ينتقل بين الحواس والذاكرة والتخيل”وهي عوامل تنظيم التداعي”[8] وما يشبه الهلوسة لينتهي بهذيان غاضب متهكمًا على كل شيء؛ نظريات الفلسفة ومناهج الجامعة العلمية و تاريخ الفن ليصل إلى إعلان انتحار الله لا موته كما يرى نيتشه

“أرى شابًا شهيدا الآن في ميدان للثورة

أرى شابة حرة أرى زيفًا

أرى نفسي  الطفلة ترى كل شيء مفككًا في صورته الخام بلا معنى

أراه متنقلًا أمام عيني كسرب أبيض بخلفية سوداء

كأن ثقبا أسود على قناة ناشيونال جيوجرافيك

أرى نفسي باكية مكتئبة أمام قناة تليفزيونية تعرض بثاً مباشراً لميدان في وسط البلد

اليوم 25 يناير اليوم 30 يناير وأنا لست هناك وكم واحد لم يكن هناك

ما سوى النقطة الأولى سوى النقطة الثانية هكذا قال سقراط مثلا أو أي أحد كان

ماذا يقول ما أدرس في الجامعة البعيدة عن الميدان

ماذا يقول تاريخ الفن

أبجد هوز حط كلمن

أغني بدلًا من تحية العلم أغني على سلم الجامعة

يا مجنون الله لم يمت الله انتحر لما بدا في الأفق نور نور محمد كلبة “.

 

“إن الذهن لا يمكن تركيز حركته على شيء واحد لفترة طويلة حتى لو أريد لها ذلك بشدة وعندما تبذل محاولة ما لتركيزها فإن بؤرتها تستقر على شيء واحد ولكن للحظات فقط ومع ذلك فإن نشاط الوعي لا بد له من محتوى يتوفر عن طريق شيء يوحي بشيء آخر عبر تداعي الصفات المشتركة أو الصفات المتناقضة على نحو كلي أو جزئي حتى لو كان هذا الاشتراك بمحض الإيحاء”[9].

مما يثبت صحة ما تبنته تلك القراءة من اقتراب قصيدة النثر في تجربة إسلام نوار من سمات السرد في رواية تيار الوعي هواستخدامه  التداعي الحر لتقديم تلك الحركة المستمرة التي تنحاز لها قصيدته فالجمال هو العابر المتحرك لا الثابت” والإغريق ثابتون بعيون ثابتة على جمال ثابت ولكنك عابر وهكذا كسائق يجب أن تكون” والشعر هو الحركة المستمرة التي تملأ المحتوى الفارغ للعالم والشعر هو شيء يوحي بشيء آخر “أنا شاعر لأن هناك أشياء على الطريق تذكرني بأشياء أخرى..”.

هناك حياة يختبرها الشاعر بحركته في العالم وبحواسه تتماس مع حياة أخرى اختبرها العقل الذي تلقى المعرفة وهذا يفسراستدعاء  القصيدة لأصوات تحيلنا إلى خارجها..فهي روايات وقصائد ولوحات ومقطوعات موسيقية وتاريخ للجنس البشري وتاريخ للشعر وبيانات وأغان شعبية،  وتلك الأصوات لا تشبه الحركة الموسيقية قدر ما تشبه الضوضاء (وهي تتدفق على نحو مشوش وغير منتظم بمعزل عن تشويش الحياة غير المتسق لا تنكشف لنا كليًّا وتحتفظ لنا بمفاجآت”.  في حركة الحياتين معًا يحدث أن تتماسا وتمتزجا أحيانا بما يشبه هذيانات” ميشيل فوكو عامل المزلقان المتعمد فتحه، قاد هيدجر قطاراً بلا محطة انطلاق أو وصول” بل إن اللغة الاستعارية تستخدم أقصى درجات انحرافها “فوجه النغمات السارحة من الحرب العالمية الثانية من راديو وارسو المقصوف” هي الوجه الآخر ل” سخافة بيع الكلية”.وحيلة “الصفحة الأخيرة من عوليس في جريدة أرجنتينية” التي نجدها” موضوعة على الزجاج الخلفي للميكروباص”.

هناك دائما وجهان للعملة في القصيدة كل وجه هو صورة للآخر أو يوحي بصفات تتضاد أو تتلاقى مع الآخر فمالينا بطلة فيلم تورنتوري هي نقيض صورة الأم التي لها نفس تاريخ الميلاد ومغامرة لا أخلاقي جيد تشبه مغامرة الشاعر الذي يختبر جسده في تجربة المثلية والسائق هو ألبرتو أحد شخصيات بيسوا وأقنعته الشعرية.

من تلك التقنيات أيضًا ما يمكن تمييزه كلوحات سريالية تعبر عن الحياة الغريبة والمستقلة لتيار الوعي عبر الرموز والألوان والصور” كانت الشعاب المرجانية كبوابين يرسمون لوحات لسلفادور دالي أنا اشتريتها في المزاد الصامت مقابل نوبات من الضحك الهيستيري” ” البارحة على سريري جامعت نظارة شمسية سوداء البلاطة الأخيرة فما كان مني إلا أن مشيت على الحائط لأقذف كرة ثلج من الجليد الساقط من إبطي”  “يتحول شكل الميكروباص إلى مكعب ترسم عليه رموز وثنية” كما يستخدم الشاعر التكنيك السينمائي في مشاهد تتغير فيها طبيعة الأشياء أو ينتقل فيها الشاعر من لقطة إلى أخرى في مكان وزمان مختلفين أوإحدى صور المونتاج التي تتكرر كثيرًا وهو أن يظل الشاعر ثابتًا في المكان بينما يتحرك وعيه في الزمان.أيضا نجدالاهتمام بأن يعبر الفضاء النصي عن حالة الوعي عبر تغير شكل كتابة القصيدة من مقطع نثري إلى سطور متتالية بل إن ما تم محوه يُكتب مع إشارة المحو وكلمات مثل “بيان” و”ملحوظات” و”أقصوصة”،  لكن الصفحات الأخيرة التي توثق حركة الوعي المتوترة عبر  حركة الزمن هي التقنية الأكثر وضوحا للتعبير عن هذا النوع السردي الذي نجد سماته في قصيدة إسلام نوار:

أجلس في صالة بيتي منكفئًا

23:01 أبسط رقبتي مع التفاتة بمقدار 45 درجة لليمين لأنظر الخارجة من الحمام، نصف عارية تلبس إزارًا يعلو ركبتيها بمقدار 10 سم

23:02 أتذكر (بكائي- بسط ذراعيَّ- ضم قدميَّ) وأنا أوضع لأول مرة، فوق منشفة بيضاء مربعة 50×50 سم، علي أريكة صدئة بجوار والدتي

23:04 تبدأ المرحلة الأولي من الدورة الجنسية “الرغبة”، بتلاقي لمعة في عينيَّ كدمعة ولمعة في عينيها كاقتناصة

23:05 تقترب مني بمقدار خطوتين، وأقوم لأقترب منها بمقدار 3 خطوات

23:06 أكلت اليوم من الدهون 54 جم ومن الكربوهيدرات 125 جم ومن البروتين 30 جم أي 1106 سعرة حرارية

23:07 الهواء المار من رئتيَّ بواسطة عضلات التنفس الرئيسية والمساعدة، محركًا الحبال الصوتية المتوترة، مع حركة اللسان والصدى الحادث بواسطة الجيوب الأنفية يقول لها:”أحبك” ويقول هواؤها:”أحبك”.

الجسد أداة الوعي:

“نشر بريمو ليفي بعد عودته من أوشفيتز عام 1947قصة احتجازه المؤثرة؛ ذلك أن حاجة الحكي للآخرين كانت طاغية والرغبة في إشراك الآخرين كانت ضرورة. إن العنف المكابد هو الذي أصبح ذاكرة بقصد تحرير داخلي.

يحكي بريمو عما يمكن تسميته ب”شطب الهوية” “فالنظر إلى عيون الجلادين أو التوجه إليهم بالكلام ممنوع بشدة لم يكن مسموحًا لأحد أن يعبر بملامح وجهه عن أي شيء فقد وصل الأمر بالواحد منا أن يبذل هو نفسه جهدًا ليرفض وجهه الخاص ينتهي بالاعتقاد أنه أقل من إنسان وأنه لا يجب أن يتصرف من تلقاء ذاته وأنه لا يمتلك إية إرادة شخصية”[10].

إن ما لاقاه بريمو في أوشفتيز داخل معسكر الاعتقال على قسوته ولا معقوليته يشبه في إحدى صوره ما يعانيه الشاعر ويجعل “حكي حياته لآخرين” نوع من تحرير الذات من عبء العنف الممارس ضدها وهو يتجول راصدًا أقدم أشكال هذا العنف ضد ذات جمعية أي  ضد الجنس البشري كله إنها صورة أوشفتيز التي تتكرر والموت والمصير المجهول والمحو:

أنا أعمى يمشي

وسط عبيد يَجرّون ألواحًا طينية

منقوشة بلغة لا نعرفها،

مرة تعرقلني نبتة صغيرة

فأموت تحت أقدام الركب السائر دون اكتراث،

فأُحيا لأموت مرة أخرى، مشنوقًا بالحبل الذي أُجَرّ به،

فأُحيا لأموت مرة أخرى، كمدًا على العبد الميت جنبي الذي سقط عليه لوح،

فأُحيا لأموت مرة أخرى بسقوط لوحٍ عليّ،

فأُحيا لأموت مرة أخرى بالكوليرا،

بينما أمناء المتحف البريطاني، يأمرونني بالاستمرار في الجَر وأنا مريض

فأُحيا لأموت مرة أخرى مجازًا”

وهكذا وصولًا إلى عنف اوشفتيز معكوسًا، فبدلاً من محو الهوية يأتي فرض الهوية وتحديدها مسبقًا دون إرادة الفرد

” طوبى للبرابرة الجدد الذين لا يحتاجون إلي إشعال النار كي يحرقوا الذاكرة،

في خطوة واسعة نحو الانقراض الطوعي

أنا أحب البيتزا جدًا

بيتزا شاورما الفراخ على وجه الخصوص،

وأيضاً فطائر السجق

وكثيرًا ما أتخيل نفسي فأرًا قذرًا

يجول بين النوافذ الدائرية، في قطعة جبنة سويسرية هرمية الشكل،

وأنه حين يستدعيني العفريت

ربُّ الفئران والقمل والبق

كي أقضم له تعويذة دائرية، على بابٍ مغلق

فإن غاية حلمي أن تكون تعويذة من البيتزا

فعلًا هذا حلمي كفأر وكإنسان معًا

في حقيقة الأمر أنا لا أعرف إلى أي نوع من الفقاريات أنتمي

وأستغرب جدًا من هذا التحديد الدقيق لهويتي

في بطاقتي الشخصية، عندما كتبوا:

ذكر مسلم أعزب”.

أصبح للجسد ارتباطًا وثيقاً بالتجربة الشعرية في قصيدة النثر فهو “مناط التجربة الإنسانية” بعد أن أصبحت تتبع حدسها الحسي وتخلت عن الأيدلوجيا والرؤى الصوفية.  يقول بارت” إن لذة النص هي تلك اللحظة التي يجري فيها جسدي وراء أفكاره الخاصة ذلك أنه ليس لجسدي نفس الأفكار التي لي”.على عكس بارت..للجسد في تجربة إسلام نوار نفس ما تتبناه قصيدته ونفس الأفكار التي له.

لكن العالم الجديد جعل هذا الجسد ينكر نفسه ولم تعد القضية متعلقة بالنوع والجنس فقط فالإنسان ذاهب إلى “انقراض طوعي”، وهذا الجسد قد يكون لفأر أو لإنسان لا يهم طالما يأخذ ما يشتهيه من “البيتزا” الهدية التي منحها البرابرة الجدد لإنسانهم الجديد الفارغ من أية معرفة يقينية بهويته إنه ما حدث في أوشفتيز وجعل الإنسان ينكر وجهه، وأوشفتيز اليوم هو عالم الصور الافتراضي عالم (الفضاء الرقمي).

“هذه الدمعة مكانها في عيني

مكانها من عين الإيموشن أبو وش أصفر في فيسبوك

وقلبي بين ضلوعي، ودمي في أوعيتي الدموية

وليس في بوست”.

إن الشاعر وإن كان: “يناهض ديكتاتورية الوراثة وضد الاعتقاد بأن كل شيء محدد مسبقًا فالفرد يمتلك الحق والإمكانية في عدم القبول بما قدر له مسبقا” إلا أنه يقف أيضا ضد عالم تمحى فيه مادية جسده وواقعيته فدمه في أوعيته الدموية وليس في بوست. إنها صرخة الشاعر الخافتة أمام إلهه الجديد”” كنت في غرفتي وسمعت المؤذن ينادي الصلااااة خير من النوم الصلااااة خير من النوم فهرعت إلى راوتر النت كي أصلي له”

لم تتعامل قصيدة النثر مع العالم كمكان مجهول ولم يعد هناك “غيب” تريد سبر أغواره، بل تعاملت مع العالم كمعرفة زائدة عن الحد وكأن الشاعر يقول أنا أعرف كل شيء بفضل محرك البحث وأصبح الإله الميتافيزيقي الذي انتحر عجزًا ذو معرفة محدودة بالنسبة  إلى إله جديد كلي المعرفة والقدرة يعرف كل شيء ويصل إلى أي مكان ولم تعد المعرفة استبطانية بل تطل بوجه مكشوف وأرقام وحقائق لم يقدمها الله  لذا سوف يصلي الشاعر لإلهه الجديد الوحيد الذي سيمنحه قيمته ” في الدقيقة الثانية من حلقة “إلى أين”([11]) عبر “راديو كفر الشيخ الحبيبة” قال “آدم ياسين” ذو السبعين ألف فولوورز” من هنا يكتسب الإنسان قيمته الجديدة، بعدد الفولوورز . الشاعر منسحق أمامه تماما ويعلم أنه مصدر قوته أمام خرافة الإله القديم البائس الذي انتحر لكنه أيضا يكرهه كما يخشاه.

الجسد.. تلك الأداة الميكانيكية التي استخدمها الشاعر لإسقاط خرافة المقدسٍ ووهم ثنائية الجسد والروح في الفلسفة القديمة ” يمكننا أن نقول: “إنها الميكانيكا ولا شيء آخر”، أو نقول “لا، لا، ليس للسيارة روح”، السيارة لم تُقذَف من الجنة إلى الأرض، السيارة لم تتبرز في الجنة، ولا أنا تبرزت. عندما قدت السيارة بمشكلة عويصة في كهربيتها، وظلت تسير لمسافة 300 كيلو على طريق صحراوي، كمُحب يلهث لإنقاذ حبيبته، لم تتعطل بشكل نهائي إلا عند وصولي لباب منزلي، والكوريك الذي وضعته مكان “المـُساعد” المكسور، لم يسقط من مكانه إلا عند وصولي للميكانيكي. للسيارة جسد وليس لها روح، أنا السائق لي جسد وليس لي روح، للكلبة التي تحيض خمسة عشر يومًا كل ستة أشهر جسد وليس لها روح”

إن الانتصار للجسد يأتي أيضا عبر ثنائية الطاهر/النجس وهي مفاهيم جرى غالباً قرنها بالجسم ومفرداته” فكلمة طاهر بالتضاد مع النجس تحدد ما هو نظيف دون وصمة ومنزه وهو ما قاد إلى أن يقرن مفهوم الطاهر غالبا بالنفس وبالمعرفة المطلقة وبالمثل العليا” وهو ما رفضه الشاعر فكل ما يفرز الجسد من دم الحيض والمني وهي سوائل الجسد وهي سوائل العلاقة الجنسية صاحبة الوجود المادي في العالم جزء من هذا الوجود الذي يعترف به الشاعر لا شرائع الإله المزعوم:

“أنا لا أقرف من دم الحيض، ومنييّ لا يتطلب، أن يمس الماء كل سنتيمتر من جسدي، كي أكون مؤهلًا للوقوف بين يدي الرب السافل المزعوم”.

أما خصوصية الجسد فتتضح في علاقته بالآخر عبر النوع والجنس.. الجسد وسيط معرفي والكتابة هنا ليست كتابة عن الجسد بل كتابة عبره نحو معرفة الذات ولن نبالغ إذ قلنا إنها بحسب تعريف الايروسية في التجربة الشعرية”الجنس محولاً إلى استعارة”.. كتابة ليست معنية بالجنس لأنها تستخدم الجسد تستهلكه حتى آخره لتشن حربها ضد الله وأشباهه من سلطة, الكتابة تطوِّع الجسد فلا تكون لذة للجسد إلا بعد أن يتحول إلى نص. لذا فرغم حضور”الحبيبة الأنثى” بقبلاتها الهيستسرية فإن جسد الآخر المشتهى في تجربة الجسد الأولى هوجسد الرجل/الذكر

” سيأتي يومٌ أفرُّ منكِ

ها أغني

لكَ

سأجدكِ على جانب الطريق،

تبتسمُ لي

في حالة من الـbromance

الـbromance يا صديقي

هي حالة من الحب الرومانسي

بين صديقين

لا تعرف الجانب الجنسي. قم قبّلني”

فجسد الآخر هو صورة جسدي الذي أعرفه والذي أقذف منيه في وجه الإله المزعوم..الاستمناء الفعل الذي سيتكرر كثيرًا فيما يشبه طقس ديني  لعبادة الذات لا الجسد

” وأستمني لأقذف أول قطرة كالعادة مع انفجار الأذان”

” أين أضع التلافيف داخل جمجمتي، التي أكتب بها

بين لا إله إلا الله وتحيا مصر،

أم بين قطرات المنيّ المقذوف مني، على سجادِ غرفتي؟”

يكشف الجسد الشعري في لا تقل عن ولدي إنه يمشي في السماء عن هويته الغامضة ..هاربًا من عنف حربه الدائمة ضد سلطة الله والوطن والعائلة والعالم الافتراضي والمدينة  باستعارة جسد الآخر.. الأنثى. استعارة أعضائه ووظائفه وهشاشته وقدرته على فعل الولادة شديد الشعرية والقسوة.  فالمني والاستمناء وما يرتبط بهما من أفعال الذكورة يقابلهما دم الحيض و (البكاء) كفعل يرتبط في الثقافة الشعبية بالنساء:

ابنة عمي الطفلة

التي ألقتْ بنفسها من الدور الثالث هذا الربيع،

كنا حول المشرحة ونادوا بغبائهم

“أين محارمها ليساعدونا في حمْلها إلى النعش؟”

ابن العم ليس من المحارم قلتُ لنفسي

وذهبت لأحملها وأنا أبكي كعادتي

صرختُ شققتُ جيوبي ولطمتُ

إلي أن كادوا يضعونني في الميكروباص مع النساء

شعرتُ وأنا أحملها بألم مميت في ركبتي اليسرى

لم يبارحني هذا الألم قط

حتي هذه اللحظة التي أكتبُ فيها

رغم استشارة كلَّ أساتذتي الأشقياء

قالت لي بائعةُ الجبنة القَرِيش:”إن

هذه الفتاة البدينة المظلومة

قد دُفِنتْ داخلي”،

دُفِنتْ في ركبتي.

يرتبط البكاء أيضا بصورة الجسد المعتل الجسد الذي يدرك هزيمته وهو الجسد المريض، والجسد الذي يدرك زواله بالموت (الجثة). والاثنان حاضران بالضرورة في السيرة الشعرية التي يحكي لنا فيها إسلام نوار عن “تفاصيل حياته” وهو الطبيب والشاعر”يوم الأربعاء يوم نوبطجية الإسعاف التي أنتظر فيها الموتى من الثامنة صباحًا إلى الثامنة مساء لأعرض عليهم خدماتي كبكّاء”

“أرى نفسي باكية أمام قناة تليفزيونية”

“استرحت هكذا يا آدم حتى أنت تدلل على أنني غير صالح إلا في البكاء”

“بكى الرجل وضحكتم.. وهممت بالبكاء”

“أنا إذن أنثى وإلا ما آلاف النساء بداخلي ثلاثة أشهر كاملة أتجمد بكاءً”

“وذهبت لأحملها وأنا أبكي كعادتي”

“تبدأ المرحلة الأولى من الدورة الجنسية الرغبة بتلاقي لمعة في عيني كدمعة ولمعة في عينيها كاقتناصة”.

“وأنني أملك خدا هو خدي أنا وأنني أسيل عليه دموعاً هي دموعي أنا”

بعد كل هذا الغضب، البكاء هو كل ما يستطيع الشاعر أن يفعله إزاء بشاعة الموت اليومي المجاني وإزاء الحرب والقسوة في العالم هو ما يذرفه من أجل الموتى ومن أجل المضطهدين والسجناء وضحايا الثورات، البكاء من أجل مصيره الذي يجهله ومصير الإنسانية كلها، بكاء لا تغفره السلطة وتتسلى به الآلهة ولا تفهمه المدينة.

فالشاعر هو بكّاء العالم والدمعة المحتفى بها هي صوت الجسد الحي منها يولد والشعرُ يولد.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] “لا تقل عن ولدي إنه يمشي في السماء” إسلام نوار.

[2] المصدر السابق.

[3] العالم لا ينتهي.تشارلز سيميك. ترجمة أحمد شافعي.

[4] نظرية الرواية في الأدب الإنجليزي الحديث.ترجمة أنجل بطرس سمعان.

[5] تيار الوعي في الرواية الحديثة.روبرت همفري.ترجمة محمود الربيعي.

[6] قصيدة النثر من التأسيس إلى المرجعية.عبد العزيز موافي

[7] لا تقل عن ولدي إنه يمشي في السماء.إسلام نوار

[8] مرجع سابق

[9] مرجع سابق

[10] فلسفة الجسد.ميشيلا مارازانو.

[11]–  “راديو كفر الشيخ الحبيبة” برنامج على you tube

التعليقات مغلقة.