عيّل صغير – رجائي موسى

رجائي موسى – مصر

كنت عيل صغير وكنت فرحان بالدنيا. كنت باقف مذهول من شجرة المانجة العالية اللى مش ممكن اطولها ولا باحسن سلم فى الجنينة بتاعت جدى. كانت الدنيا كبيرة واسعة وبتضحك مع كل طلعة شمس وتروح تنام مع كل مغيب. كنت عيل ومش باتعب من اللعب مع اصحابى فى عز الحر، فى عز القيالة، والشمس فوقنا بتلسع جسمنا الممصوص. كلنا كنا شبه النسانيس، مقروضين. ماكنش فى حد فينا تخين. كان صعب تلاقى طفل تخين. ممكن يبقى مكلبظ لغاية تلت اربع سنين بس بعد كده هينحل ويتمص من اللعب وللسرمحة فى الشوارع وفى الغيطان. فى الوقت دا حتى التراب اللى كان بيعفرنا ويعمى عينينا، كان فى منتهى الحنية واللذة. فاكر فى الايام دى، كان عندى خمس ست سنين، ابوى قالى:تعالى روح معى ملوى.

امى وقتها خافت وقالت:لسه الواد صغير وهايلخمك وممكن يوقع من عالحمار وتبقى مصيبة.

ابوى وهو يضحك:يا وليه خليها على الله

أمى:يا راجل اعقل. دا الواد اللى ربنا رزقنا بيه بعد نشفان الريق.

ابوى:يعنى هو انا هارميه فى الميه.

امى:واخرتها معاك. مفيش فايدة فى دماغك.

ابوى:يلا يابنى.

انا فرحان جدا وفى نفس الوقت خايف. لا يمكن مرعوب. ازاى هاركب المركب واعدى البحر، اللى هو النيل برضو. لو المركب اتهزت كده ولا كده أنا ممكن أغرق.

ركبت الحمارة ورا ابوى وكل تفكيرى فى اللى بعد كده. طبعا كنت لابس جلابية جديدة وجزمة بتلمع. انا رايح البندر. ملوى يعنى راح اشوف خلانى واعمامى وعماتى وابن عمى. ملوى يعنى هاشوف شوارع اسفلت. يعنى هاشوف القطر. يعنى هاركب الحنطور حتى لو خلسة من وراء صاحبه. وراء متعلق بحتة حديد، وفى كل لحظة منتظر حد يفتن على ويلسعنى بالزغمة، الكرباج. ملوى يعنى كهرباء وتلفزيون. ملوى يعنى عيشة تانية. سرحت وفجأة لقتنى فى وسط المركب. ناس كتير يشبهون أبوى وانا ماسك فى ايد ابوى بوسط المركب. تميل المركب يمين اميل معها. تميل شمال اميل معها، ومية البحر تطرطش علينا. كل موجة تيجى ومعها قطرات مية تغسل وشى. اكتشفت ان مية بحرنا حلوة وما يتشبعش منها. والغريبة انها فى عز الحر بتبقى الميه باردة. بحرنا مالوش اول ولا اخر. مين بيطلع على بحرى على طول مع تيار الميه. بحرى يعنى ابعد من قريتنا.

-هو البحر دا مش بيخلص. قلت لابوى

-لا بيخلص.

-يا سلام. بيخلص فين بقى

-ممكن يوصلك لغاية مصر.

وانا باكتب دلوقت حاسس بكل الصور اللى عشتها او متخيل انى عشتها. يمكن الذاكرة تعمل على تلميع بعض الأشياء وفى نفس الوقت تطمس اشياء تانية. يعنى صورة المركب الذى يهتز بشكل مستمر جوه البحر والقلع الأبيض اللى بيفرده المراكبى عكس اتجاه الريح وجلوسه على الدفه لكى يقود المركب تمشى فى مسار محدد لا يتغير الا بتغير الفصول. فى الشتاء يسلك طريقا وفى الصيف، وخاصة وقت الفيضان، يسلك طريقا آخر. كمان زمن الرحلة، التوصيلة، من البر الشرقى الى البر الغربى بيختلف مع اختلاف الفصول، مش بس كده، لو فى ريح مناسبة تبقى التوصيلة مريحة، لكن لو فى رياح قوية، دا يكلف المراكبى جهد مضاعف للسيطرة على المركب، اما لو كان البحر مثل الحصيرة. نائم. لابد من استخدام المجداف من آن الى آخر عشان نقدر نمر وسط البحر. الاهتزاز دا، بخفته، ودلاله، ارتبط معى بمفهوم اللذة والمتعة. هو اهتزاز يشبه اهتزاز الجنس. يشبه اهتزاز السكر. يشبه اهتزاز العربة قليلا. يشبه اهتزاز القطار. الأشياء المهتزة برفق تشبع علاقتنا الحميمية بالعالم. النوم فى بطن المركب شىء قريب من النوم فى الرحم. نفس الصورة. بطن مركب من خشب يشبه القبو، يشبه تجويف اليد، حفرة عميقة. رجرجة مع كل موجة او انتقال فرد من طرف المركب إلى اخر. ربما لهذا السبب نام المسيح فى بطن المركب، ونام يونان، اللى هو يونس، فى بطن المركب.

لما كبرت، شويه بشويه اختفت المراكب.

 

جزء من نصّ بالعاميَّة المصريَّة.

التعليقات مغلقة.