نوال العلي
لقد رُوعت طويلاً، كثيراً، هناك في المقعد الخلفي، كل جملة الآن، كل لفتة لا إرادية مني تبدو كما لو أنني أدافع عن نفسي.
هاملت أحب الناس إليّ، أفتقر إلى الخروجات والمعارف، لكني أذهب من وقت إلى آخر لشراء أكل الكلاب، وحين أفتح باب العودة هاربة من كل كائن ملموس خارج الشقة، أحمل رغبتي في مقابلة أحد، سمكةً ميتة في كيس، يستقبلني الكلبان كبطلة، أنا بطلة حياتيهما القادرة على فعل المعجزات؛ تسلق العظم وتبعد الحشرات وترمي الكرة والصحن الطائر وحين تتلف هذه الأشياء تخلق غيرها وتبدأ دورة سعادتهما من جديد.
**
باريس، ديسمبر 2011، قبل الكريسماس بأسبوعين على ما أظن، قرأت إعلاناً مبوباً صغيراً بعنوان “حفل لربطات العنق السوداء”، كان هناك دعوة مفتوحة لمن يشاء أن يكون صديقاً لمقبرة شهيرة بعينها، كنت شاحبة ومضطربة كالعادة ولم أجد ضرراً في تلبية هكذا دعوة طالما لا يتعلق الأمر بتبرعات! لا بد أن في الحفلة من هم على شاكلتي من غريبي أطوار ومريبين وأصدقاء مقابر ورواد حفلات مبوبة، المهم أنني ذهبت وغيرت جو وقبلوا صداقتي وبدؤوا يرسلون إلي النشرة الدورية، أمس تركت شغلي، واعتقدت أن لدي فكرة جهنمية للمرح مع الأصدقاء، فاقترحت عليهم مسابقة “أفضل عبارة على شاهدة قبر” لكنهم بهدلوني واعتبروا الأمر لا أخلاقياً، ياللسماجة! من أمس كررت كلمة “لا أخلاقي” مليون مرة متل الببغاء، أنا نفسي أرى في نشرتهم جانباً لا أخلاقياً، إنهم يرسلون حكاياتٍ مَرِحة عن الموتى، اليوم قرأت عن لغوي لم يوقفه جسده الاسكندنافي السمين عن الشرب وفي ليلة ظل يرقص حتى انجلط ومات، حقيقة لم أستطع التوقف عن الضحك، كما أنهم ذكروا شيئاً عن امرأة أطلقت على نفسها لقب “مدام فار آوي”، لكي لا تنسى أنها منفية من بلادها، امرأة أخرى طلبت أن يكتبوا على قبرها: “ماتت عزباء، ماتت فجأة لكنها كانت مستعدة”، موتى هؤلاء أم شلة معاتيه.
**
بينما أكتب قطعة صعبة، ارتفع صوت يغني في الغرفة المجاورة، رفعت رأسي عن الدفتر، وسمعت كلبتي تغني، هذه ليست المرة الأولى، أحياناً كنا نغني معاً ولكن كل واحدة في غرفة، أصغيتُ جيداً ولم أستطع الصبر، ذهبت إلى الغرفة وما أن وقفت على الباب، صمتتْ وتظاهرت بأنها غارقة في النوم، داعبتها وهي نائمة أسوةً بالأمهات في عمري، فتقلبت وامتعضت أسوةً بالأولاد في سنِّها، وضعت رأسي على بطنها ودفنت شيئاً، حبي لها ربما، تذمرت: أوووه إنك تؤلمينني يا بلهاء، رفعت يدي على رأسي كأنهما قرنين، شيء من قبيل السخرية البريئة لإضحاكها، لم تضحك، بدأ الهدوء يثقل، يسود، يعتّم، ذهبت إلى سريري وتواريت تحت الغطاء، الكلبة تعضني من الداخل، من جوفي، من عقلي، من بطني، من رحمي… تظاهرت بالنوم لكنني كأيّ أم لا أستطيع.
**
قبل سنوات كتبت بضعة أغان لهدهدة الكبار، هؤلاء الأطفال البالغين، ثم انشغلت عنها بمكابدة الأرق الذي ألهمني إياها وكان يخرجني لأمشي في الفجر، المشي ليس عادة جيدة كما يظن الناس ولا هي بالسيئة كما أشعر، الطريق ليس سيئاً أيضاً، لكن الآلة تعطلت، اليوم بحثت عن الأغاني ولم أجدها، اختفت مثل كل شيء كتبته، انمحت كأن المطر ظلَّ يزخُّ عليها من الألف إلى الياء، خَبَت مثل أي لون ما عدا الأحمر.
**
امض يا جروي الصغير، ارقص، قفزة صغيرة هي أعلى ما تستطيع. وذيلك الهزاز ليس جناحاً، وحتى لو كان، من يمكنه أن يطير بجناح واحد يا مشمش؟
**
حبة برقوق سقطت من الكيس وتدحرجت على أرض المطبخ واختبأت تحت الخزانة قبل أسابيع، اليوم عثرت عليها سوداء متغضنة وعطشانة، قلت لها: تشربي مي؟ لم تجب. سألتها: تاكلي برقوق؟ لم تجب. شاورتها: هل آكلك؟ … طيب تاكليني؟… كم تشبهينني، فتشي في قلبك .. مافي ذرة محبة، ستقول لك أمك لو صادفتك في الطريق.
**
ليس لدي ألبوم عائلي، في الحقيقة لا أذكر شكل أمي ولا أختي ولا أي من إخوتي، لدي ألبوم من صور الأشعة، اليوم قضيت الصباح كله أؤرشفه بحسب التاريخ، هنا رئتي سنة 2010، وهذه جيوبي الأنفية في 2012 وهكذا أصبحت قبل شهرين، لدي سجلات طبية في ملفات، مؤرخة بحسب اسم المستشفى والبلد ورقم الغرفة واسم الطبيب والتاريخ، ولدي ملاحظات في نهاية كل تقرير طبي تحت توقيع الطبيب عن رأيي في مرضي وموقفي من زميلتي في الغرفة، وعدائي الأصيل للممرضات واعتدادي بتنفسي السهل الممتنع، هناك ملاحظات فيها امتعاض عام، وأخرى أكثر تحديداً عن التأزم والانهيار والتحسن والحمى، لدي سجل أحب أن أعتقد أن أحداً لم يفكر في مثله قبلي.
**
سيتوقف قلبي وأموت في البيت جالسة، قال لي فيسبوك مازحاً، وأخذت المزحة على محمل الجد، سأموت قلقة، بحيرة متشنجة، سأموت صامتة، شرفة ظلت تطل على جار مكرر، سأسكت فجأة، قارباً رسى تحت عين الجسر السهرانة. سأموت برقاً، تماساً كهربائيا، هاربة من كل شيء ملموس، ومن طبيعتي الوعرة، سأموت لفتة لا إرادية وفزعة. سأموت مثلما تهت مرة في نفق، كان من الممكن ألا أضيع لكنني ضعت، كان من الممكن ألا أموت، لكنني متُّ.
**
أقول شيئاً لجسدي وأعرف أنه سيقبل…فينهض…أتظاهر بالمشي نائمة، أخرج كيس البطاطا وأبدأ العمل، أقشر كثيرا حتى أصل إلى يدي وأظل أقشر متظاهرة بالنوم…أكون تركت الحنفية مفتوحة قبلاً…كل صباح تطفو جثتي على بحيرة البيت.
**
سأترك بيروت قريباً، وها أنذا أبيع القطع القليلة التي اشتريتها بعناية، نفس الألم كل مرة، لا أدري لماذا تتحول علاقتي بالأشياء إلى حميمية مفرطة، قبل قليل، جاء مشترٍ يريد الصوفا، قال لي عقلي “هاد جحش”، نعم أنا أستعمل ألفاظاً أفظع من هذه في عقلي، عقلي لسانه بذيء وسليط، كان عنده كرش متعرج، أو هكذا صوَّرت لي عيني الداخلية، كرش مثل كيس مليء بقشر الموز، شعرتُ أن الصوفا المخمل الكحلية حزينة، واغرورقت مساماتها بالدموع وهو يحرِّك طيزه يختبر راحتها، قال إنها أعجبته، وأنه يدفع السعر الذي أطلبه، وقالت الصوفا: لا، وأنا قلت لا لن يجلس الجحش على صوفتي، أريد أن أهديها لأحد أحبه، أن يقرأ عليها مثلما قرأت، أن يبكي عليها مثلما بكيت، وأن يشرب مخملها الدموع ويحولها إلى وبر أنيق، أن ينسى نفسه وينام في حضنها والتلفزيون يهذي، في كل قطعة عفش تركت شيئاً مني، قلت لصديق سأهديك مرآتي البيضاوية الطويلة، التي نظرتُ إليها طويلاً وفكرت بنفسي، المرآة التي تحمل نظراتي وتحولها إلى أرانب، المرآة التي تبلع ولا تشبع، أريد صديقاً عزيزاً أهديه صوفتي التي أحبتني.
التعليقات مغلقة.