عزالدين بوركة
(شاعر وباحث مغربي)
لم تعد الكتابة مع موريس بلانشو منذورة لأي شيء، للأسلوب مثلاً أو للجنس الأدبي المحدد أو حتى لصاحبها (المؤلف)، إنها تحضر باعتبارها نتاج التشظي والكارثة والفاجعة والاغتراب والانعزال الجوهري… و “تفرض الكتابة عدم تفضيل الفنّ، بل تفترض محوه مثلما تمحو هي نفسَها، دون أن تدّعي أنها أعلى مرتبة منه”*… يدعونا بلانشو إذن، إلى كتابة تتجاوز تجربة الحدود، كتابة ما بعد حداثية، لا ترتبط بالعقلانية أو بالذات… إنها تتجاوز حتى صاحبها، من حيث أنها وليدة التعدد واللا حياد. لهذا يمدح بلانشو الكتابة الشذرية من حيث أنها قطعة من قطع التلاشي والتشظي، حيث لا يمكن أن نجمع أواصر النص إلا في حضوره الشذري، فالشذرة هي جزء صغير من نص كبير يستحيل كتابته، لكنها تحيل إليه وتحمل جيناته، إنها مكثفة ودالة ومتعددة… إنها تحمل في طياتها روح التكرار، روح العود الأبدي، بالمعنى النيتشوي. إنها لا حضور ولا غياب في الآن نفسه، لا موضوعية ولا محايدة ولا ذاتية. إنها تذكر ونسيان…
في الكتابة كتمان وفضح، إذ أن تكتب سراً يعني أن تفصح عنه، يقول بلانشو “يحتمل كتمان السّر إمكانية إفشاءه بخصوصية الشيء الذي لا يقال”. فالسر من أسرّ أي كتم الشيء أو باح به. لهذا تظل الكتابة هي خليط بين الشيء ونقيضه… ففي السر حكمة إفشائه، ولأن السر لا يكون سراً إلا بين من أسرَّ ومن أسرَّ إليه، فهو إذن بوح بين طرفين. و”السرُّ لا يكون سراً، يقول بلانشو، إلا حيثما ينعدم أي سرّ أو أي مظهر من مظاهر”. ويشترط السر فضاءً، (نقول: تركت سري في البئر)، والكتابة أيضا تشترط فضاء، بياض الصفحات، لهذا فما أن يوجد سر إلا نفترض وجود كتابة، وما وُجدت كتابة إلا وُجد كشفٌ لسرّ ما. من حيث أن الكتابة فضح وكشف قبل أن تكون ستراً.
وتبقى الكتابة وليدة الألم والفاجعة، وترتيب فوضوي للكارثة، إذ “يَعِدُ الشذري بالبلبلة والفوضى أكثر مما يعدُ بعدم الاستقرار (اللا ثبات)”. وفعل الكتابة يتأتى عبر الانعزال الجوهري والاغتراب، من حيث أن “الفاجعة منعزلة بل أكثر الأشياء انعزالاً”، و “تُعنى الفاجعةُ بكل شيء”… وما الكتابة إلا محاولة للانفلات من العالم، ودعوة لتخريبه وإعادة بنائه. ولا تبحث الكتابة إلا عن نفسها، إنها بلا عضلات “نقطة صفر للكتابة” بتعبير بلانشو و”الدرجة صفر للكتابة” بتعبير رولان بارت. وحيث إن الكتابة هي إعادة نطق الصمت والسكون، الصمت المترتب عن الكارثة، صمت ما بعد الكارثة والفاجعة، إنها رغبة في الصراخ، وإحداث البلبلة، والصراخ فعل دنيوي (مدنس) والكتابة كذلك، خاصة ما بعد “العصر الذهبي” المتشبع بالمفارق للهنا والآن، بعد ميلاد المطبعة، حيث صارت الكلمة ملكاً للكل وللا أحد، وانفصلت عن المقدس السماوي. ففقدت الكلمة المعنى الموكول إليها سماويا، إذ يقول بلانشو “الكلمة التي تكاد تخلو من المعنى هي كلمة صارخة”، ويضيف “تسعى الصرخة، مثلما تسعى الكتابة، إلى تجاوز أيّ لغة”… هذه الأخيرة التي تسكننا، وما علينا سوى الانفصال عنها والانعتاق منها، عبر تخريبها، وإنْ تنتصر للغة دائماً، لكننا نربح بعض المعارك ضدها، عبر تخريب الكلمات وإخراجها من معانيها.
ويبقى اللا اكتمال والانفصال من أجل الاتصال هو روح الكتابة المعاصرة، التي تبناها بلانشو، الكتابة الشذرية، التي “قد تكون الخطرَ عينه. لا تحيل إلى نظرية، ولا تتيح الفرصة لممارسة قد تتحد بالانقطاع. إنها تطّرد وهي متقطعة”، ولا زمن ولا زمنية للكتابة الشذرية، إنها سليلة النسبية، إذ “تُكتبُ الشذرات على شكل مقطّعات غير تامة؛ وما يُميزُ نُقصانها وعدم اكتمالها هو انحرافها الذي يجعلها، رغم أنها غير منسجمة ولا تقبل التضامَّ، ينأى عن السمات التي يشكل بها الفكر، بدحره واندحاره، مجموعة خفيّة تفتحُ وتُغلق غياب المجموع بشكل خيالي، دون أن يقف عندها منبهرا تماماً، ينوب عنه السّهر الذي لا ينقطع. ولذلك يصعب الإقرار بوجود فاصل ما، لأن الشذرات منذورة للبياض الذي يفصلها عن بعضها…”، إنها تصرّ على عدم اكتمالها…
—-
(* كل المقتطفات من كتاب: مريس بلانشو، كتابة الفاجعة، ترجمة عزالدين شنتوف، دار تبقال 2018).
التعليقات مغلقة.