1
على أية حال، بعض الأشياء كانت تبدو مُربكة، الكنيسة في الشارع الخلفي على سبيل المثال، يظهر برجها الجانبي بصورة متقطعة على النوافذ المُضاءة المبعثرة للمبنى المقابل. كان يتأرجح جيئة وذهاباً وأنا أعوم في كل اتجاه كي أجهّز حقيبة أمي. وعلى راديو fip صدحت أغنية عن ذئب طيّب تُعامله الخراف بوحشية، وكان من السهل أن ألجأ إلى الحماية الوحيدة المتوفرة لي: الحلمُ بعالم ينقلب رأساً على عقب، ولمَ لا، فقد غدا الواقع عبثياً رغم صرامته، يشبه الدقّة المجنونة لمُصاب بالذُهان تكون حساباته الرياضية معصومة عن الخطأ. لكن كان علي أن أتدبر الأمر مرة أخرى.. صبغتُ شعر أمي الثقيل بلون بني وأخذتها من يدها تحت أمطار تهطل منذ يومين إلى غرفة في المشفى، وبدت لي مثل ذلك الطير الصغير الذي يُمسك به الأطفال ويقيّدون إحدى رجليه بخيط ثم ينظرون إليه وهو يقفز على رجل واحدة، ولا يطير.
سألتها الطبيبة الآسيوية النحيلة التي جاءت رفقة دزينة من العيون المتحيّرة: منذ متى تأخذين كل هذه الأدوية؟ وأجابت: منذ 28 عاماً. فوق الكمّامات رفّت الأهدابُ حول عيون الحيتان الآدمية هذه وهي تمسك الأوراق.
لكنني في يوم ما رأيتُ أمي وهي تطير فوق الأراضي الرخامية البيضاء، فوق البرج البيزنطي وحديقة البلدية ومنزلقات الأطفال، تمر بأشجار الكالتوس وبالأحواض الرومانية التي تمجّد نبتون وتنبع من تحتها المياه، تجتاز الخرائب وكلابها الغريبة الأشكال لتحطّ أمام مقاهٍ تدور فيها الإشاعات والكحول المحلية التي تهدئ الأوجاع في البداية ثم تتحول إلى تشنج أو صراخ أو رغبة في القتل.
تعالي.. هل كانت تلك المدينة المُحاطة بمئتي قصر مدينتكِ وحدكِ؟ بتاريخها المزيف ودموية أوقاتها الليلية والنهارية؟ ماذا بقي لكِ من حياتكِ السابقة؟
ستضطجعين في فراشك هذه الليلة، ترين حولك طيوراً ترفرف، تنهضين واقفة وسط الغرفة الضيقة بين الطيور التي تملأ الفضاء، تشمين رائحة المعقِّمات الرطبة، تحسين بالقمر ولا ترينه وراء قضبان الحديد. لا ضوء. اُغتصبَت منكِ الرؤية، رغم أنكِ سافرتِ ورأيتِ.
لكنك تضحكين من هذه الأغلال. نسمعُ ضحكتكِ. ها ها ها.
طابت ليلتك يا أمي. أترككِ هنا وأذهب، أعرف أنك لن تحبسي جسدك في الفراش، ستخرجين من تسمية هذه المدينة إلى مدن تحمل تسميات أخرى وتسخرين من المخدوعين بتسميات المدن. عيناك تتجهان نحو السقف فترينه معروشاً بجنينات العنب الحامض. ستتجولين تحت ماء المطر صامتة، تقلدين تنزه الوافدين على مدينتكِ في أيام الصيف وتزجين بنفسك في الضجة ولغط الأصوات والطرقات. سلّمي على الصبا والمرح وألواح الكُتّاب والسباحة في الترعات، سلّمي على الصحاب واضحكي ضحكتكِ الطويلة القاسية. بعد غد سأقص عليكِ رؤيا هذه الليلة. ترى هل ستفسرين الرؤيا؟
2
في طريق العودة تعربشت الضحكة بالضوء الخافت الملوّن للمدينة وبصوت مارغريت دوراس الذي خرج بطيئاً من الراديو وانزلق مع ماء المطر:
“أن تكتب
لا أستطيع
لا أحد يستطيع
لنقلها: لا نستطيع
ونكتب”
قلت لنفسي إن الوحدة هي أيضاً نوع من الكتابة.
ثمة اعتقاد أنه بمجرد ما ينتقل الكائن البشري إلى الوحدة فهو يعبر إلى الاختلال. وأن المأخوذ إلى وحدته ممسوسٌ سلفاً، لكن الوحدة هي ما لا أستطيع بدونها أن أفعل شيئاً، لم أكن حائرة ولم تكن أيام الحجر الصحي تحرّك لي ساكناً. كنت أمسك النباتات المنتشرة على جوانب الطرق، أصورها وأحاول تهجئة اسمها العلمي الذي يظهر حين أدخل الصورة في تطبيق PlantNet على الآيفون، تلهّيتُ أيضاً برسم بيوت من الخشب ذات سقوف واطئة لا تخضع لأي نظام هندسي، قابعة في مواجهة ساحات مُتربة. بيوت لها فم مفتوحٌ على الفراغ، أعبئها أحياناً بقناني زيت فارغة وجوالق قصديرية أفرغت من محتوياتها وأتخيل أن شخصاً يسكن هناك اسمه هارون، وعندما يتحرك هارون تصطدم قدماه بالزجاجات فيصلني صوتُ موسيقى فيها نشاز.
– لا شيء في حياتي يستحق أن يُكتب يا هارون
– والناس؟
– ليسوا كراماً ولا لئاماً ولكنهم يفضّلون الأخذ على العطاء في كل شيء
– والظلام
– هناك ظلام وظلام
– والضوء؟
– هناك ضوء وضوء
عند مبتدأ الأشياء يكون هناك ضوءٌ دائماً، الظلال تأتي لاحقاً على هيئة قائمة بالأعمال التي لا نحبها. أصبحتُ معنيّة بالأبواب التي تصرّ واللمبات التي تتعطّل فجأة. أُصلحها وأنا أعرف أنني أينما ذهبت في هذه الشقة، بإمكان من في البناية المقابلة رؤيتي. أمامي عشرات النوافذ المظلمة وأخرى مضاءة باللون الأبيض، الذهبي أو الأخضر السام كلون الدولار. وفي الداخل يسبح الغرباء جيئة وذهاباً، بإمكاني رؤيتهم أنا أيضاً لكني لا أرغب في الوصول إليهم. كنت محاطة بالحركة لكن دون أن يرافقني أحد وكان هذا كل ما أريده. الألفة. القرب. العطف. كلها أمور جعلتني في منتهى التعاسة، كما أني تحررت من الحاجة لأن أكون محبوبة أو مقدسة، ولم تعد ناري حارقة حتى أرُدّ الجرح جراحاً أو أتوقف عن تناول الطعام ويبدأ شعري بالتساقط على الأرضية الخشبية، تجمعه إيلينا وهي تحرق أخشاب البالو سانتو فوق رأسي وتتمتم:
– سيكون من الجنون عدم قول وداعاً عندما يحين الوقت
– لكنه لا يتحرّج من الركوع على ركبتيه لربط شرائط حذائي أمام الآخرين يا إيلينا
– كان ينبغي أن يُخنَق عند ولادته أو أنْ يُدفَن حيّاً في طفولته في أحد المستنقعات الشاسعة النائية
3
أضحك. تحرقني الضحكة.
4
في يدي سمكة نهرية أشتهي أكلها مشوية وفي اليد الأخرى كأس أرفعها لرخاوتكَ وافتتانكَ بنفسك، لكلامك الفارغ الذي لا يترك شيئاً يُقال، لجسدك الفوّاح بالرائحة أنت الضحّاك بفجور نسائي، ولأنك ما تزال تكتب الرسائل وكأنك حين هممتَ بقتلي لم تكن تعرف أن ذاك هو القتل، ولأنني لم أدافع عن نفسي وظللت جالسة أتهشم أمامك كقارورة.. أرفع هذي الكأس.
لم أكن أعرف أن الناس هنا يقتلون إنساناً لأنهم يحبونه. وهذه أنا لم أُقتَل. لديّ حين يستفحل المرض أدوية سريّة وتعاويذ تُكتب بحروف التيفيناغ لتجعل النسيان مُمكناً وقابلاً للمُطاوعة. اليوم أُبَاكيك أو أضاحِكُك أو أخاصمك، أبوسك ولا تبوسني، أقول لك أنت حبيبي، أقول لك ولا تقول لي، وغداً.. غداً لا أستطيع أن أقول سوى ما قُلتُ وكأن النار لم تعد ناري.
سريغ الحب الحب نيغاس أومي تقان
ذمسي نخسين ثني ماتمسي
سألوني عن الحب قلتُ لا أدري.. النار التي تنطفئ ما هي بالنار
5
خطر لي طيف إيلينا فرأيت عينين من بعيد تتقدان بشيء غامض يشبه الضحكة أو العتب، وعرفتُ أنها هي. لوّحت لي من أمام البلدية بورقة الويسترن يونيون وعلى وجهها الشاحب تشقّقت البودرة كقطع الجبس المفتتة من الجدار، قالت إنها جاءت بالأمس لكنهم طردوها لأن على كل واحد أن يجلب قلماً معه لملء الاستمارات ومن هي كي تفكر بأخذ قلمها الأزرق معها؟ واتسون؟
– واتسون؟ ريتشارد واتسون؟
– لا .. واتسون مُساعد شارلوك هولمز.. أرأيتِ تلك الفتاة الواقفة هناك؟ توسلتُ إليها أمس، شرحت لها أنني أسكن بعيداً وقالت لي بوجهها البشوش “لا يهمني”.. لم تحاول حتى أن تتظاهر بالشفقة على حالي، وأنا ماذا قلت لها برأيك؟ قلت لها “حسنا سيدتي” رغم أنها قحبة.
كاد صوتها يجبرني أن أبكي أو أخبرها أن أمي في المشفى، لكنها انقضّت على معصمي لتنظر إلى السّاعة. كانت أصابعها النحيلة والرقيقة قويّة بشكلٍ مفاجئ. “هل كلفتكِ الكثير؟”. سحقت هذه الجملة أي صوت كان سيخرج مني، فأومأتُ بـ”لا”. وتبادلنا بضع كلمات عن الله والفوط الصحية ونسبة العاطلين عن العمل قبل أن تمضي كلٌّ منا في طريقها.
لماذا أصبحت لقاءاتنا شبيهة بما يُكتب على مواقع الاعترافات المشبوهة في الإنترنت؟ نشعر أن من واجبنا أن نقول شيئاً عن الألم الذي يسود العالم اليوم، ثم ما الذي تغير حقا؟ لا زالنا نتدافع في الصفوف لنرسل حوالات ويسترن يونيون إلى قرانا البعيدة ولا يزال يُحكم على الكثيرين بالموت لأنهم ببساطة لم يتمكنوا من الحصول على علاج يُكلِّف أقلّ من دولار في اليوم، كلنا نعلم أن الألم مستوطنٌ في الحياة، لكن قدرتنا على أن ننسى هذا أو نجعله نسبيا دمرها هذا الفيروس بالكامل.
6
وكأنني لم أُدر ظهري لأصدقائي وحسب، وإنما للبلدة أيضا.. مشيتُ في طرق بدا أنني بالكاد أعرفها، أو أنني لا أعرفها أبداً. الدروب تنحني، تلتف وتستدير. اختفت أبراج الزجاج والمكاتب المضاءة الفارغة ولوحات النيون، تبددت وانحدرت في جُبّ أو قرارْ. خفت أن أرفع عيني وأرى القبب المنحوتة لجامع القيروان أو يعترضني جدي، يخزر نحوي ويقول ممازحاً “لماذا خرجت في هذا اليوم المنذر بالمطر هكذا مرتدية الشورت والقميص القصير الكُمّين أوليست لك ملابس دافئة في الدار؟”.
الجهة ضاعت. إلى أين؟ متى أصل وأفتح الباب؟ انعطفتُ مع كل منعطَف حتى وصلت إلى البيت صدفة وأخذ قلبي يخفق بشدّة وأنا أُدخِل المفتاح في الكالون.
ظللت واقفة كي أرتاح. حدّقتُ في الأشياء بتمعّن مع أن المشكلة ليست فيما تراه العينان، ثم خطر لي أن أفتح التلفاز للمرة الأولى منذ سنوات كي أعرف في أي أرض أنا. استغرق مني فهم الآلة قرابة خمس دقائق لتظهر على محطة tv5 مسرحية تُقال فيها تلك الجمل التي لا تُقال سوى في المسرحيات: “لا تتركاني وحيداً، إني أخشى جمال هذا العالم يا كالوديك. أنا أعرف قناع الخيانة. لا تتركاني وحيداً مع قناعي الذي ينمو في اللحم دون أن أشعر بالألم. اقتلاني قبل أن أخونكما. إني أخشى عار أن أكون سعيداً في هذا العالم يا ساسبورتاس”.
ساسبورتاس؟ هذه هي فرنسا؟ أليس من الأفضل أن أعود إلى الأسماء القرغيزية التي أصبحت أليفة مع جينكيز إيتمانوف وقصصه التي تختطف الأشخاص والأشياء حيث تُوجَد، بقراها المنزوية عند سفوح الجبال وشَعر نسائها المُمَشّط بنعومة ورجالها العنيدين الذين يظهرون من الفراغ ليبنوا المدارس في السهوب ويعلّموا الأطفال أن موسكو -المدينة التي يعيش فيها لينين- أكبر من طشقند وأن في العالم بحاراً كبيرة واسعة كوادي تالاس وأن في تلك البحار تمخر بواخر ضخمة كالجبال وأن الكيروسين الذي يُجلب من السوق يُستخرج من تحت الأرض وأنه في يوم ما ستكون المدرسة بيتاً أبيضَ كبيراً ذا نوافذ واسعة يجلس فيها التلامذة وراء طاولات.
7
العيونُ نائمة في مثل هذا الوقت، تعالي أقص عليكِ حكاية الحالم بمدينته. تنسب الأسطورة التي أوردها اللاتيني “سالوست” تأسيس مدينتك إلى الإله «أليي» أو الفينيقي «هرقل»، فيما تنسبه المصادر العربية إلى «شنتيان غلام نمرود» ملك الكلدانيين الأسطوري. والواقع أن الباعث على إقامة المدينة هو ما يتسم به موقعها من مميزات جغرافية: فهي توجد عند ملتقى عدد من المسالك الطبيعية المؤدية إلى واحات الشطوط وفيها عدد هام من عيون الماء. يقول عنها البكري في المسالك: “مدينة مبنيّة كلها على أساطين وطيقان رُخام قد بني خلالها بالصخر الجليل بأحكم عمل”. حارب أجدادك الرومان والبيزنطيين والموحدين وصدّروا الفستق والحناء والقطن والكمون إلى سائر مدن إفريقيّة ومصر والأندلس وسجلماسة مقابل الملح والتوابل والعاج. أما الجامع الكبير فلم يُبنَ إلا في العهد الأغلبي، في القرن الثالث هجري، وُضعت أمامه ساعة شمسية يُستدلّ بها على توقيت الصلوات الخمس عبر خطوط العرض والطول ومنها جاءت تسميته بـ”جامع سيدي صاحب الوقت”، تذكرين أواسط التسعينيات حين بدأت عملية ترميمه ومُنعنا من الدخول إليه؟ عملية التهيئة كانت بحثاً عن تحف أثرية للمتاجرة بها، وكان الترميم مجرد غطاء قانوني لجماعة بن علي. هل أصبحنا حزانى وسهلي الإنقياد لأننا لطالما تركنا أبوابنا مفتوحة للصحاب واللصوص والمخطئين في العنوان؟. يقول الوزير السراج في الحلل “لم يبق من المدينة إلاّ القليل” بعد ما أمر به المنصور الموحدي من تهديم وتخريب. دُكّت الأسوار والحصون ورُدمت الواحات، ولم يبق لنا سوى متاحف العصور الأولى.. لكن لا بأس.. نحن البدء والنسيان. وسنبدأ مما قبل التاريخ، من القوارير والصحون والأكواب الرهيفة المصنوعة من قشور بيض النعام الملونة، سنبدأ من الصفيحات الصوّانية المنحوتة بحدة، ولن نرُدّ الطعنة بالشفرات والمكاشط والأزاميل، ستردّها رياحنا السبع، توزّعكم على كل الجهات فلا شرقَ ولا غربْ.
8
تركتُ الرياح تحرّك الستائر..
فكّرتُ بأشكال وضوء الأيام السابقة من دون ندم رغم أن تحقيق حياة زائقة في باريس كان قد استهلك مني أربع سنوات كاملة على الأقل. تفرغت الآن لتتبع ملامح نشوء مدينتي وأهلها الذين لم يفرّوا أبداً هاربين من وجه الأعداء، ولم يحتموا خلف أحد. رسمتُ خرائط ترحلهم، كيف عاشوا وكيف ماتوا بمختلف الطرق في حروب لا تبقي ولا تذر. وخلف الصراعات والأضاحي المرئية والخفية، كانت هناك لحظات الحب وشهقات الشبق والدموع والأغاني وخبز الفرن الساخن والضحكة والحنين والكسوة المطرزة بخيوط الذهب والحلي والزرابي والنقش الصخري وصناعات الخزف والخشب وشجيرات الوشم تحت الشفة السُفلى.
فتحت أبواباً حيرتني ولم أعد أعرف من أيّها عليَ أن أخرج، وكنت أسمع أيادي خفية تطرق الأبواب من الخارج ثم ازدادت الضربات ضراوة وكأن الحياة تلاحقني كروح قتيلة لم يُقتص لها، ولعل توفر الوقت في الكارنتين ما جعل تلك الأصوات أكثر تدفقاً وإلحاحاً: وينك أحلام؟ كيفك اليوم؟. أتتبع مصدر الصوت. أبحث عن الباب لأخرج من أيام البشرية الأولى، بمخالبي أحفر أخاديد ودروب من جبل الأوراس إلى غاديس إلى المسنجر لأكتب: بخير يا سوزي، بخير وأنت ألا زلتِ تبحثين عن عمل؟
سمعتُ ولم أسمع..
وساوس من جفاهم النوم وحكايات ساخرة وأخرى حزينة وحكايات تتشعب دروبها كتشعب دروب المدن، عن النكد وسوء الحظ وأخرى عن الصعود وأخرى عن الهبوط وأنا لا أدري إلى أين تسير الحكايات بعد أن بدأت، لا أوفَّق في التقاط رأس الخيط. أردت فقط أن أُوقف هذه الثرثرة، أن أعود نحو الاتجاه الذي جئتُ منه … نحو الوحدة. ومع كل رسالة كانت تصلني، تمنيت لو وجدت طريقة للتخلص من نفسي دفعة واحدة، ربما لعدة أشهر فقط. وكنت أتذكر جارنا محمد بشر الذي يخرج عارياً إلى السوق، يعترضه الناس بلحاف أو سروال جينز يستر عورته، يردّها كلها ويقول إنه من الحامدين الشاكرين، لا ينقصه شيء.
9
الناس واقفون في طوابير ليرووا حكاياتهم وأنا أقصد مدينتي مراراً فأجد أبوابها مغلقة بمزاليج حديدية ضخمة لا يخرج منها أو يدخل إليها أحد.. هل سأحمل حكايتي معي إلى القبر ولا أقولها لأحد؟ أحتجبُ في غرفتي وأترك الأمور لغير العارفين، أليست لي حكاية أحكيها؟ ليست لي كلمات؟
10
كلماتٌ لمحاربة لدغات الوحدة، كلمات تحطمت في بحر من الكلمات، كلمات تغرق، كلمات غير منطقية، كلمات خطرة تتصادم ببعضها، تميل، تنهار، تصبح مشروع وحدة ممكنة، وابلاً من النميمة، من الحكاية، الاعتراف، الغزل، التخطيط.. هل تسمعينني أم لا؟ هل أنت هنا؟ لا بد للمرء أن يكون مجذوباً أو متصوفاً كي يُباعِد بينه وبين الكلمات. أضحت مقدرتي على التفاعل، على النداء والاستجابة تُعادل ما لدى سلحفاة، وحتى حين يقول لي أحدهم راثياً نفسه بعد أن يختم حكاية متداخلة: هل رأيت ميّتاً وقف يوماً من قبره وعادت إليه الحياة يا أحلام؟ أجيب بنعم..
قرابة أربع سنوات خلت، في قريتنا دفنوا امرأة تدعى “السيدة” وبعد أن سكتت أصوات المُقرئين سمعوا صياحها فنبشوا التراب ووجدوها حية لكنها لا تعي شيئاً، ولم تنطق بقية حياتها سوى بكلمتين: “أقولاذ إستقڤايليث”. وأنا أريدها هذه اللغة التي تشعّ مثل زجاجة خضراء مسحورة، لا تلك التي تفتح الاحتمالات للجرح وسوء الفهم.. أريد ما ينتشلني من اللجاجة واللهاث والدوران البائت.
ولعلني عثرت على ما أريد يوم تلقيت رابطاً فتح على الصفحة 404 .. الصفحة الخطأ. الصفحة السماء أو البحر أو المَخْرَج الذي يُعيد السائرَ إلى نفسه. هذه هي صفحتي البيضاء كالرخامة وهذا دربي لأبدأ ما لم يَبدأ وأقول ما لم يُقل.
11
في الليلة التي عدت فيها وحدي من المشفى، كنت مثل سندريلا تحرّرتْ من موعدها التاريخي للوصول إلى البيت، وترسّخ يقيني بأن الحياة كلها عبارة عن استعارة والقصة الحقيقية غير موجودة.
لا بدّ أن أشق طريقي إلى القصة، لكن يدي كلّت من الكتابة ولازلتُ في هذه الدروب السفلية. في هذه البنايات المقلوبة تحت الأرض بطوابقها وممرّاتها المظلمة. أهذا كل شي؟ ناري اشتعلت وأنا أرتطم بغرفٍ بلا مداخل وزوايا ميل مستحيلة وأروقة طويلة لا تفضي إلى شيء. كيف أخرج من هنا؟
لن تساعدوني في شيء. سأحرر نفسي بنفسي.
الليلة انتقضت والغد جاء ومع بداية الفجر سمعتُ لغطاً في الخارج، ثم جاؤوا. دخلوا جماعات بجلابيبهم القصيرة وفي أيديهم مسدساتٌ طلقاتُها من ماء، تكاثرت الطلقات وسلّمَتني للبحر.
رأيتُ جزراً لن أنزل إلى يابستها أبداً، صمّاء لا تُنسى وبلا اسم، تُبقِّع المحيط كفهود أمريكية. بدا الماء منبسطاً وادعاً متمسكاً بالأرض وفجأة امتدّت النار إلى الجزر وإلى البحر. أتقلب في الحمى، في الريش، أسمع البكاء ممتزجاً بالآيات البيّنات.. باسم اللا ه الرحماان.. باسم الله ءاتيسورا تومْليلينْ كانِينْ.. الحمى. الشظايا. الريش. الريش ريشي أنا. ستطير أمي من سماء لسماء وأنا سأطير وراءها. ها هو ريشي ينبت.
رفرفتُ بجناحي قبالة أحد تلك البيوت الواطئة التي رسمتُها، ناري لا تنطفئ وعيناي حادتان لم تخطئا السور المربع والباب الخشبي المرتفع على ثلاثة أدراج، كان يبدو مهترئاً ولا يستطيع أن يقف في وجه ضربة قدم ضعيفة، خرج منه هارون ودفع الهواء الخفيفُ ثيابَهُ في كل اتجاه.. أشار إلى القريب الأزرق ففهمت أن الهواء يهبّ قادماً من جهة البحر. قال: “ربما لم يسبق أن طلبتُ منكِ هذا النوع من الانتباه لكن انظري إلى أين وصلتِ؟ لقد جعلتني مشدوهاً من الفزع، زحف البحر على البر. أين سيدفنونني؟ قبرُ الميت في البر يُزار أما في البحر فلا يمكن، قبر الميت في البر يُسقى أما في البحر فلا يمكن”.. وقلتُ: إيه، لا قبر يُسقى ولا قبر يُزار.. أقولاذ إستقڤايليث.
التعليقات مغلقة.