ما بين الفن المعاصر والديكور من اتصال وانفصال – عزالدين بوركة
عزالدين بوركة
شاعر وباحث جمالي مغربي
- مدخل لابد منه:
بدأ الفن المعاصر أول ما بدأ باعتباره تمردا على سوق الفن والآليات التي تتحكم في الأعمال الفنية وعرضها وبيعها ونشرها في القرن 20، فأندري وارهول الذي كرس أولى نشاطاته الفنية لتمرير خطابات نقدي للمجتمع الاستهلاكي الأمريكي وللمؤسسات الرسمية التي ترعى ذلك الخطاب، سعى إلى نقد البنية التي كانت تتحكم في عالم الفن من دور عرض ومتاحف ومزادات ومقتنين… لكنه سرعان ما سيصبح من أكثر الفنانين استفادة من “سوق الفن”؛ حيث أنه سيجد فنانو هذا البراديغم الجديد أنفسهم جزء من آليات السوق التجارية العالمية، وخاضعين لمتلازمة البيع والطلب التي تتحكم فيه؛ بل في فترة معينة سيصبح الفنانون المعاصرون هم أنفسهم الأكثر استفادة من حيث المبيعات والثراء والعرض والطلب على أعمالهم… إذ ستظهر منذ سنوات الثمانينيات من القرن الماضي متاحف –ودور عرض- مختصة في عرض الأعمال الفنية المعاصرة، بل سيتم إنشاء مبان (متاحف) ضخمة من أجل عرض أعمال خاصة تستجيب لمتطلبات تلك المتاحف والسوق والمقتنين الجدد.

سعى فنانو الفن المعاصر عند نقطة الانعطاف إلى التخلص من محكيات الحداثة وسردياتها الكبرى، والتخلص من سلطة العرض الكلاسيكية وحتى الحديثة، فصاروا بأعمالهم الفنية نحو الشارع وخارج دور العرض، بل أنشؤوا فضاءاتهم الخاصة بالعرض، وذلك إعلاناً عن ميلاد براديغم فني جديد، أساسه “اللا فن”، أي الخروج عن كل محددات الفن الحديث والكلاسيكي والقطع معها، إلى جانب القطع مع هيمنة مؤسسات عالم الفن (الغربي). إلا أن الأمر سيسير في مرحلة معينة إلى انعطاف مغاير، إذ سينعرج الفن الجديد إلى “النمط القديم”، وستصير المؤسسات التي ثار عليها هؤلاء الفنانون نفسها مرجعا لتقييم فنهم وأعمالهم، بل مرجعا لابد من المرور عبره والانتماء إليه. ما يؤكد الفكرة السوسيولوجية القائلة بأن الطبقة الاقتصادية المسيطرة هي التي تحدد -دائماً، على مختلف الحقب- الفن وسماته بالنسبة للحقبة الزمنية التي تهيمن فيها، وهذا بالفعل ما حدث بالنسبة للفن المعاصر الذي تحدد معالمه اليوم بشكل كبير المؤسسات المالية الكبرى من بنوك وغيرها… فتحوّل بالتالي، الفن من عمل إبداعي حر إلى “مؤسسة”. والتي صار معها الفنان “مديراً لتك المؤسسة”، يدير آلية ضخمة لإنتاج “أعماله الفنية”.
- عصر المؤسسة الفنية:
مع بزوغ عصر “المؤسسة الفنية” صرنا أمام تعقيد فعلي، من حيث صعوبة تحديد العمل الفني من عدمه، والفصل بين “الفن” و “اللا فن”، فكل الحدود تم تجاوزها مع الفن المعاصر وكل القواعد تم فحمها وكل القيود تم كسرها، فـ اللا قاعدة هي القاعدة اليوم. ما يدفعنا أحياننا في الدخول في جدال لا حل له يتعلق بالفصل في سؤال ملح يطرح نفسه بقوة: “متى يبدأ العمل الفني ومتى يبدأ الديكور؟”، و”كيف يمكن الفصل بين هذين المفهومين اللذين تلاشت الحدود بينهما؟”، وذلك من حيث أن الفنان المعاصر يستقي أفكاره وخاماته من نفس الفضاء الذي يستخرج منه المهندس المعماري ومهندس الديكور أفكارهما وصانع الديكور وخاماتهم… وأمثلة عن ذلك ما يحدث على مستوى فن التدوير (الروسيكلاج) والبريكولاج. فمع المعاصرة لم يعد الفن يتعارض كليا مع الحرفة ولم يعد التأمل يتعارض مع الاستهلاك، فالكل يندرج ضمن “مؤسسة فنية” واحدة.
حسب الرؤية السوسيولوجية فالفن دائما خاضع للطبقة المهمينة، والتي ترسم حسب أفكارها معالم الفن والذي بدوره يُلقي بظلاله على باقي الطبقات التي تحاول تقليد الطبقة العليا. إذ يذهب مانهايم إلى القول بأنه في المجتمعات “التي يرتكز النظام السياسي والاجتماعي فيها بشكل أساس على التمييز بين أنواع البشر “الأعلى و”الأدنى”، كذلك ينشأ تمييز نظير ذلك بين الأشياء “الأعلى” و”الأدنى” من المعرفة أو المتع الجمالية”. ومن ناحية أخرى فالفنان المعاصر ابتعد عن النظرة الرومانسية للفنان، بكون هذا الأخير كائن مكتف بذاته وعالمه، متفرد وفريد. بل إنه –في يومنا هذا- في حاجة إلى الآخر الذي يتفاعل معه ويستقي منه أفكاره رؤاه، الآخر بكل تمظهراته الشخصية والجماعية والمؤسساتية. فالفنان المعاصر يجد نفسه –اليوم- داخل شبكات العلاقات الاجتماعية تفرض عليه الانخراط فيها، بل إن آليات السوق والرأسمالية تفرض عليه بقوة الاستجابة لمطالبها ورؤاها. ومعه لم يعد الفنان هو ذلك الكائن المتفرد الذي ينتج أعماله في ورشته ليخرجها إلى العالم كأنه يكشف عن سر خفي، بل بات يتماهى مع المستويات خارجية الكثيرة: من الهندسة المعمارية والهندسة المدنية وهندسة الديكور الداخلي للدور والمباني المعاصرة… عند هذه النقط بالتحديد صرنا أمام صعوبة كبرى للتفرقة بين العمل الفني باعتباره تحفة chef-d’œuvre والعمل الفني كديكور داخلي باعتباره حرفة (تقليدية) artisanat، ومتى يمكن أن نصطلح على عمل -غرض- ما أنه ديكور؟ ومتى نصطلح على عمل ما أنه أثر فني œuvre d’art؟ هذا إن علمنا أن مفهم الديكور يتخذ ثلاثة مستويات مختلفة:
1) الغرض التزييني
2) تأثيث الفضاء والحيز المكاني
3) الديكور المعماري.

- العمل الفني والديكور وسلطة السوق:
لقد انتهى بالتالي، العصر الذي كانت فيه دور العرض والمتاحف هي الفضاءات الوحيدة التي يمكن أن تُعرض فيها أعمال الفنانين “المحنكين”، وذلك منذ انعطافة القرن 21، فقد دخلنا في حقبة حيث الأعمال الفنية مع الفن المعاصرة، فقدت “هالة التقديس” بمعنى “التفرد”، حيث كان –مع الحداثة وسابقاتها- يتخذ الأثر قدسيته وقيمته من كونه “نسخة فريدة ووحيدة”. فقد غيّرت ما-بعد الحداثة من القوالب الجاهزة وبعثرت القواعد والقوانين والأنظمة التي تبني الخطابات الفكرية والفنية العامية أيضاً.
فهل ما زال يتميز الفن عن الحرفة؟ وهل ما زال يتميز العمل الفني œuvre d’art عن الشيء الديكوراتي décoratif؟ نتحدث اليوم عن اختراق الفن للدور والفضاءات العمومية والحياة اليومية، وقد صار العمل الفني جزء من تصميمها وتأثيثها. إذ مجموعة من المهندسين اليوم يعمدون إلى الاشتغال مع فنانين في إطار ما يصطلح عليه “الفن مندمجا مع التصميم”، حيث تختار الأعمال وتصمم حسب الطلب ورغبة الزبون (السوق). فهل يشكل الأمر خطرا على الفن؟ وهل يزيل هذا الأمر قدسية العمل الفني عنه؟ وهل تضيع فرادة العمل وحنكة الفنان؟
في الفن المعاصر بتنا نتحدث عن فقدان العمل الفني لهالته القدسية إذن، وذلك راجع لكون الفن تحول من كونه أثرا ظاهرا وموضوعا ملموسا وعملا ناجزا (مكتملا) إلى سيرورة processusـ فتحول إذن العمل الفني من صيغة الاكتمال التي ارتبطت به إلى صيغة اللا اكتمال، إنه في حالة تقدم دائم. وبالتالي فقدَ الأثر الفني مع المعاصرة كل السرديات التي ارتبطت به مع الحداثة، وخرج عن طوعها وارتباط عرض العمل في دور العرض والمتاحف حتى يلقى أهميته، إذ احتل الإعلام والجمهور (الزبون غير التقليدي) الدور الرئيسي في تحديد العمل الفني من غيره، بل إن أعمالا عدة –اليوم- قابلة لتغير حجمها حسب طلب الزبون (أعمال سول ليويت Sol Lewitt نمذجاً).
إذن، ما مهّد للابتكار في الفن المعاصر هو أفول الهالة وزوال غلال التقديس عن العمل الفني. فضياع القدسية كان له الظهور مع بزوغ إعادة الإنتاج الآلي، كما حدث مع فن البوب، فصار العمل الفني قابلا أن يعاد إنتاجه فنيا بشكل متكرر ولانهائي، ولا يفقد معه العمل فنيته، وذلك داخل عملية حِرَفية محضة، ما دعا إلى إعادة النظر في فكرة الأصالة والتفرد، وإعادة التفكير في مفاهيم كالإبداع والإلهام. بل حتى في عرض العمل الفني، إذ أن مارسيل دشان حينما أعاد عرض “مبولته”، بعد عرضها أول مرة سنة 1917، لم يعرض إلا نسخة عنها بعد ضياع النسخة الأصلية، ومعه صرنا نتحدث عن العمل السيمولاكر، أي تلك النسخة التي تظل تحافظ على قيم العمل من حيث أنها عمل فني وإن اتفقنا على أنها نسخها مشوهة عنه. إنها –بالتالي- عمل متكرر قابل للتكرار لأكثر من مرة، ما يجعل الأثر يشترك والديكور في هذه الخاصية الحِرَفِية.
في هذا الصدد يمكن أن نستحضر أعمال أندري وارهول السيريغارفية (المستنسخة حِرَفِياً) والتي ظهرت أول مرة باعتبارها نقدا للمجتمع الاستهلاكي، لتصير فيما بعد مخترقة للسوق وباتت الأكثر طلبا. ولم تعد النسخة الواحدة منها نسخة أصلية بقدر ما باتت كل النسخ أصلية. أما في وقتنا الحاضر فيمكن أن نستحضر الفنان الياباني تاكاشي موراكامي هذا الفنان التشكيلي والنحات والمخرج (من مواليد 1 فبراير 1962 بطوكيو). من ألمع نجوم النيو بوب آرت Neo Pop’Art وأحد عمالقة الفن المعاصر المصنف من بين الأغلى عالمياً. يعتبر وريثاً لأندي وارهول وللبوب آرت الأميركي، لكنه استقل عن النموذج الغربي وأبدع أسلوبه الخاص من خلال استلهام الفن التقليدي الياباني. أقام العديد من المعارض في عواصم كثيرة، ومن بينها معرض أعماله بقصر فرساي بفرنسا سنة 2010 والذي أثار جدلا واسعا بسبب اعتراض بعض الجمعيات الفرنسية عليه. كما ساهم في تطوير «ديزاين» منتوجات العلامة الفرنسية فيتون، فضلاً عن كونه فناناً، يمتلك تاكاشي موراكامي (وهذا الأهم) شركة إنتاجية خاصة توظف العديد من المستخدمين لتنفيذ منجزاته الفنية، والترويج لها وبيعها. إننا إذن أمام نموذج “الفنان-المؤسسة”، الفنان الذي يشتغل ليلا نهارا، ويوظف “جيشا” من العمال من أجل “اكتساح” السوق، والولوج إلى الدور والبحث عن زبائن كثر وجدد، غير مكترث لأي فصل بين الفن والحرفة.
تلعب إذن دائما السوق الدور الأساسي في ترويج الأعمال واصطباغ صفة “فن” على عمل معين، ويذهب في هذا الصدد مجموعة من مؤرخي الفن ونقاده إلى عدم اصطلاح صفة “فني” على الأعمال والآثار التي ظهرت قبل نحت هذا المصطلح، لكونها –في نظرهم- كانت مجرد “أدوات” ديكوراتية وتزيينية للمعابد وللدور والمدن، أو في مبان وفضاءات كانت ذات غرض عقائدي أو ديني أو تجمهري… ولم تكن عند إنشائها أول مرة تلعب أي دور فني، باعتبار ما هو فني يحمل في طياته صفة الاستقلالية عن أي دور تزييني وديكوراتي وتكميلي. بل إن منهم من يعتبر جل الأعمال التي أنتجها الرسامون من أجل الكنيسة ليست فنا، لأنها كانت خاضعة لسلطة الطلب والعرض، فالكنيسة هي التي كانت تحدد مستوى اللون والظل والضوء والحجم ووقت الاشتغال، أما “الفنان” فلم يكن إلا “حرفيا” يقوم بالدور المحدد له سابقا. أي بمعنى آخر فتلك “الأعمال” لم تكن إلا أغراضا ديكوراتية الغرض منها تزيين الكنائس ودور المسؤولين الكبار والفضاءات العمومية والخاصة لا غير… لكن قياسا على هذا التحديد ما الذي يمكن أن نقول بالنسبة للأعمال المعاصرة، والتي هي أيضا صارت خاضعة لسلطة مؤسسات مالية ورأسمالية جديدة (البنوك، رؤساء الأموال، دور العرض، المتاحف المعاصرة…)، وكما خاضعة لزبائن جدد (الأثرياء والطبقة البرجوازية الجديدة…)؟ إذ نقرأ لـ موراكامي في أحد حواراته[1] مجيباً عن سؤال يتعلق بتنفيذ الفنان لأوامر الزبناء:
“ نعم بالطبع ! أستمع إلى طلباتهم [أي الزبناء]، لأني أبدع منجزات غالية جدًا. إذا كان شخص ما يحب الأزهار والوردي، فإني آخذ ذلك بعين الاعتبار في اللوحة التي سأرسمها له. إن الإنسان الثري غريب في الغالب، ويعبر عن رغباته الأكثر جنونًا. في بعض الأحيان، يكون ذلك مضحكاً جداً، ومرات أخرى يكون غبياً جداً، وأحيانا يكون بسيطاً جداً، لكني أستمع إليهم. الأمر شبيه بالذهاب إلى مطعم راق: حينما يتوافر لك هذا النوع من الوسائل، فإنك تعرف الخمور، وأصل اللحم. إن المرء على استعداد لدفع مبلغ معين من أجل كل هذا. يمتلك زبائني النظرة نفسها عن عملي، ومن واجبي احترامها”.
إننا هنا أمام تدخل مباشر وصريح من قبل الزبون في العمل الفنين بل بات هو المحدد الرسمي له، وبات الفنان مجرد “حرفي” يقوم بالعمل المطلوب منه. لكن ألسنا هنا أمام تحديد جديد لمفهوم الفنان عينه؟ ومعه بتنا ملزمين بإعادة النظر في مفهوم الفن، كما نعيه كلاسيكيا وحداثيا، باعتباره “انتاجاً لعمل جميل”؟ وألم يظل –من ناحية معينة- على الدوام السوق المحدد الأول للفن وللعمل الفني؟
- فن الديكور وديكور الفن:
إذن، أعمال فنية عدة –اليوم- تنتج بناء على نظرة الزبون الديكوراتية لفضائه الخاص، لكن هذا الأمر لا يحد من العبث الذي يطال المشهد المعاصر من عرض لعمال تخلو من أي لمسة فنية أو من أي غرض فني، حتى ديكوراتي، وهنا أستحضر بإلحاح إحدى “معروضات” متحف محمد السادس للفن المعاصر (الرباط/المغرب)، والتي عُرضت سنة 2016 في الساحة المقابلة للمتحف، والتي قد عرفت عدم استحسان كبير ولم يتقبلها مجموعة كبيرة من النقاد والمهتمين بالشأن الفني في المغرب، معتبرين أنها لم تضف أية رؤية للفن المغربي ولم تحمل أي خطاب مرجو منها ما دامت تنتمي إلى ما يسمى بالفن المفاهيمي (أحد تيارات المعاصرة)… ويتعلق الأمر هنا، بعرض ذلك العمود الكهربائي المعوج أمام باحة المتحف.
فاستحالة التحديد والقبض على معنى محدد للفن المعاصر وللعمل الفني المندرج ضمن تيارات هذا البراديغم، قاد الكثيرين إلى عرض “أشياءهم” على أساس أنها أعمال فنية، احتضنتها متاحف ورفضها نقاد أحيانا. من جهة أخرى ومع هذه الاستحالة، أخذت أعمال عدة مسلك الديكور والمكمل التزييني لفضاءات معينة، من حدائق ودور ومنازل وفيلات ومؤسسات خاصة؛ أعمال تستجيب للفضاء ومتطلباته (اللون، الإضاءة، الشكل، الحجم…). ومن جهة ثانية ففي عالمنا العربي -نموذجا- قلة جداً هم المهندسون المعماريون أو مهندسو الديكور الداخلي الذين يشتغلون بتكامل مع الفنان التشكيلي. إذ يتم طلب العمل “الفني” مباشرة بعد الانتهاء من التصميم والهندسة، باعتباره “أثاثا” من أثاث الفضاء، وعلى الفنان أن ينجزه متماشيا مع المحددات السابقة والمعطيات المقدمة له. ما يقود إلى اخضاع “المنجز” للفعل الحِرَفي المتسم بالعمل على حسب الطلب وإمكانية تكرار “الشيء”.
يرى بعض النقاد والفنانين في هذه العملية أمراً سلبياً يمس الفن والعمل الفني والفنان على حد سواء، لكن مجموعة من الفنانين المعاصرين لا يرون أية سلبية في ذلك، فنانون أمثال موراكامي (بجانب نقاد كثر) الذين يدافعون عن عملية تكرار ونسخ العمل بدافع امكانية وصولها لشريحة واسعة من الناس، وأيضا الأمر في نظرهم راجع لصعوبة شراء العمل الواحد (التحفة) بثمن باهظ الذي تفرضه السوق اليوم، و”الذي يستلزم أن يكن الكل ثرياً وهذا من المستحيل”، كما يقول الفنان الياباني:
“أجل. وذلك هو السبب الذي يجعلني أقوم بالترويج وأنجز الكثير من النسخ بالطباعة الحجرية، المقترحة بأثمان في المتناول. حتى يتسنى لأي كان امتلاك عمل من توقيع موراكامي. عالم الفن معقد جدا، ومن وجهة نظري كفنان، يستحيل علي التحكم فيه”.
لقد تجاوز الأمر الفن والفنان عينه، من حيث امكانية التفرقة بين ما هو “فني” وما هو “ديكوراتي” في العمل نفسه، إذ يتبنى فنانون كثر وجهة النظر النقدية الرائية بتماهي الأعمال الفنية المعاصرة في فن الديكور والتصميم الداخلي، بل لا يُفقدها الأمر قيمتها من حيث أنها تظل أعمالاً فنية، وإن كان خاضعة لثنائية الطلب والعرض، لكون العمل الفني والفن هما –على الدوام- رهينا التقدم والتطور المجتمعي والطبقة العليا، فمنذ بزوغ عصر التصوير الفوتوغرافي أصبح الفن في متناول الكل، وفقدت النخبة “هالتها”، وصرنا أمام انتقال من “فن النخبة إلى الفن الجماهيري” ومن القيمة للجمالية إلى القيمة الاستعراضية، وصار فيما بعد “كل شيء فن، واللاشيء فن” كما أعلن دوشان.
- الامتداد الجمالي بين الديكور العمل الفني:
بالتحديد ومنذ سنة 1910، وظهور التيار المعماري-الديكوراتي، الذي يهتم بالهندسة الداخلية والتصميم الداخلي، ومع صعوبة ترويج الفنانين لأعمالهم واختيارهم لمسار يضمن لهم البيع والترويج لها، اختار هؤلاء الفنانين الاشتغال رفقة مهندسين -أو بشكل مستقل- في التصميم الداخلي لفضاءات متعددة. وأحيانا نعثر على فضاءات تم تشييدها من أجل إعطاء للأثر الفني قيمة كبرى، فيختلط هنا مفهوم الديكور مع مفهوم العمل الفني. بل يصير الفضاء ذاته ديكورا يحيط بالأثر الفني. لكن على مستوى الاشتغال الديكوراتي من أجل أعمال مسرحية أو استعراضية، يصعب أن نصطلح على المنجز بـ”فني”، إذ لا يحمل هذا المنجز صفة “الحضور” والخروج إلى الوجود التي تميز العمل الفني عن أي غرض غيره، فهو، في هذه الحال، متلاشي ومختفي ومتماه مع المنجز المسرحي (كعمل فني كامل)…
بعد كل هذا العرض، فمن وجهة نظرنا، يلعب العمل الفني دورا أساسيا في الحياة اليومية وتهذيب الذوق ونشر البعد الجمالي داخل المجتمع، والتعبير عن التزام الفنان تجاه القضايا المجتمعية والسياسية وذلك راجع لامتلاكه خطابا ونسقا رمزيا خاصا… لهذا فالفصل بين العمل الديكوراتي artisanal والعمل الفن بات أمرا ضروريا اليوم. فقيمة الأثر الجمالي يستمدها من قدرته على اختراق الفضاء عينه والزمن نفسه. فاصطباغ صفة “ديكور” على العمل الفني يزيل عنه صفة الاستمرارية الزمكانية والصيرورة، وتدخله في خانة “الغرض” الحرفي التقليدي، والذي يتوقف به الزمن عند لحظة معينة لا يتجاوزها. فالعمل الفني متجاوز للزمن والمكان ولا يتوقف عند لحظة أو عصر أو حقبة معينة. إذ أن أعمالا عدة اليوم تلقى تأويلا معاصرا يبتعد كل البعد عن أي تأويل كانت تحمل في زمن إبداعها. الأمر الذي يمكن أن نصطلح عليه بـ”الامتداد الجمالي” للأثر الفني المخترق للزمكان. والديكور، على اختلاف الزمن والمكان، يبقى محتفظا –دائما- بصفة “الشيء” التي يصعب إزالتها عنه، بينما العمل الفني هو شيء وقد أزيلت عنه “شَيْئِيَتَه” واكتسى صفة الحضور وبات “عالَماً”.
[1] تاكاشي موراكامي: لا كرامة لفنان في قومه، تقديم وترجمة: عبد الرحيم نور الدين، الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاماراتية، عدد 9 أغسطس 2018، ص 3.
التعليقات مغلقة.