سعاد عبد الرسول تبعث كتيبة وجوه وأجساد سريالية في حديقتها الافتراضية وسط البلد- محسن البلاسي

محسن البلاسي – مصر – خاص 

استضافت قاعة المشربية في شارع شامبليون معرض حديقة افتراضية للفنانة سعاد عبد الرسول المقام من 13 يناير إلى 14 فبراير.

هل ماتت السريالية؟

هل يمكن أن تموت السريالية وفعل الحلم أزلي؟

هل اختفت السريالية من جوف القاهرة؟

المدينة التي تحمل تناقضات تكفي لأن تولد منها أضخم الانشطارات السريالية حول العالم؟

ما هي حديقتك الإفتراضية؟

سألت سعاد عبد الرسول فقالت:

(لم اقصد ابداً أن أرسم بوعي ينسب أعمالي الي مدرسة بعينها، ولكن يبدو أن واقعي ووجداني سيريالي، نعم نحن نعيش واقعا سيريالياً، بداية من خلقتنا، كم هي سيريالية، تكوين عجيب يمزج كل عناصر الكون بداخلنا، أنا لا أتخيل أبداً أننا عرق خالص ونقي، أنا ألمس قطع زجاجية بداخلي، أصدأ كما يصدأ المعدن، وجهي يتحول من وقت لآخر لوجه حمار ويكسو الشعر جسدي كقط مذعور في ليل المدينة.

الفنانية التشكيليَّة سعاد عبد الرسول
الفنانية التشكيليَّة سعاد عبد الرسول

كيف نفصل أحلامنا ومخاوفنا وهواجسنا عن الواقع، أنا التي تتعرض لكل أصناف الخوف، منذ البداية كيف لها أن تنجو من كابوس طاردها حتى أصبحت تجيد تجسيده فلا تعرف إن كانت قد جسدت الحقيقة أو الكابوس.
في كل مرة أنوي فيها الرسم، وأقف أمام مساحة بيضاء، لا تنتابني أي حيرة، أعلم أني سأرسم، فالفكرة واضحة، لن أرسم إلَّا نفسي، خيباتي، انكساراتي، هزائمي.
في المعرض أخذتني فكرة القيد، موروث كبير وضخم من القيود المقبولة والمباركة اجتماعياً، قيدٌ ناعم لا يبدو كأنه قيد، لكنه كنبات متسلق شائك يلتف ببطء ليحوّلنا لضحايا، لا أتكلم عن قضايا كبيرة، أتكلم عن قيود رقيقة كالأمومة أو الزواج أو الأب، عن الالتزامات التي نمارسها كل يوم لتحولنا بشكل ما إلى عبيد، حتى وبالرغم من أننا نبدو أحرار إلا أننا نتمسك بتلك القيود لنبدوا في النهاية وكأننا سعداء.
حافظت على الشكل الكلاسيكي للوحة، وأيضا التكنيك والإطارات، وكأنه عمل في المتحف، لكني استبدلت ملامح الزهو والثقة المزعومة في تلك اللوحات التي تطالعنا في المتاحف وكتب التاريخ بملامح شجية وعذبة وهشة لقناعتي أنا، الأصل فينا هو الضعف لا القوة).

يكتب أندريه بروتون فيقول: «بتسليط الضوء على فنية التناقضات القديمة، بكلّ الوسائل ومهما كلّف الثمن. شيء يدفعنا للاعتقاد بوجود مكان عقلي محدّد، نستطيع انطلاقاً منه، التوقّف عن اعتبار مفاهيم مثل: حياة وموت، واقعي وخيالي، ماضوي ومستقبلي، ما يمكن الإخبار عنه وما لا يمكن، فوق وتحت، جملة متناقضات». وعبثاً سيبحث المرء عن دافع آخر لجهود السرياليين خارج الحلم والرغبة بتحديد هذا المكان. هذا ما تطرحه  الفنانة التشكيلية الدكتورة سعاد عبد الرسول في حديقتها الافتراضية .

منذ فترة طويلة وأنا أتابع أعمال الفنانة التشكيلية المبهرة سعاد عبد الرسول، في البداية وقبل معرضها الحالي منذ أكثر من عام وذائقتي مخطوفة بكولاجاتها التي تجمع بين ما يمكن أن نسميه بالدادائية العاقلة الحديثة وسريالية القرن الواحد والعشرين، أتابع عن كثب تقنياتها المشتعلة التي تتخطى توقعات المتلقي بأميال زمنية سواء كانت هذه الأميال نحو الماضي أو الحاضر أو المستقبل، ففي منتج سعاد عبد الرسول الذي اطلعت عليه، يسقط الزمن حيث الحياة الداخلية للوعي الإنساني هي التي تصيغ كل شيء، أتابع جيداً خلقها لكائنات تمثل انفكاك وتفكيك لأسئلة عجز العقل السلعي عن صياغتها ، وصياغة تجسيدات لما لا يمكن أن يقال، فالمواضيع التي تشكلها سعاد عبد الرسول تقع في منطقة حركة التماهي مع المطلق سواء كان هذا المطلق يمثل العقل أو المادة أو الطبيعة  أو الفكر أو الرغبة، وتضع أمامك السبيل البصري للانفكاك من القواعد الواقعية العقلانية بقيودها وسلعيتها وشرائعها وحاجاتها وقوانينها وتناقضاتها وتطاحناتها،  وفي معرضها المعاصر حديقة افتراضية تستضيء سعاد بضوء تفكيكي خافت ينسج قوانين عالمها الخاص، لتأخذنا عنوة إلى مشهد بصري تذوب فيه الأنا مع الـ نحن مع الطبيعة الكلية البكر كيفما تراها سعاد عبد الرسول، حيث تلك العزلة الافتراضية التي لا تقف عند جزئية الأشياء، بل تقدم جواباً حسياً يشكل فضاءاً  تنحل فيه جميع تناقضات الواقع عبر آلية نفسية صوفية تنساب منها الأحلام مختلطة بالهواجس والهذيانات، فلا معنى عند سعاد عبد الرسول للتمييز بين الخيالي والواقعي، وبين المعقول واللا معقول، لنجد بكل سهولة داخل إطارات لوحاتها الغير متناهية كل مفاتيح الأبواب التي أغلقها الإنسان في وجه الطبيعة الفطرية، حيث تشوش عمداً كل حواس المتلقي لتعيد نحتها من جديد، أجساداً ووجوهاً وألواناً لا تنتمي سوى لقوانين سعاد عبد الرسول التفكيكية، مكرِّسة لمنطقها الخاص الذي يوحي بأن المنطق السائد بكل استنتاجاته هو منطق زائف عبر ترميز كثيف لرغباتها وأحلامها ومخاوفها بل وأحيانا نظرياتها الاجتماعية والإنسانية عبر تنحية الوجود الواقعي والعقلاني للإنسان وتصدير الوجود الباطني للإنسان وذواته الداخلية التي يخبئها لا وعيه، عبر تشكيلات بيلوجية داروينية موحدة للوعي والمادة وإعادة بناء الطبيعة بأسس جديدة تتمازج تارة وتتنافر تارة اخرى بتحويل العناصر والأفكار إلى نماذج مجازية متعددة التأويلات.

أفريقيا هي اللون الشامل:

تحيا وتمرق كائنات سعاد عبد الرسول في حديقتها الافتراضية داخل إطارات وبراويز لمرايا وقطع أثاث تنتمي لطرازات بدايات القرن العشرين وهو ما يتماهى مع بعض فساتين أبطال لوحاتها التي تنتمي لنفس الحقبة ، ويوحد تلك الكائنات ضفيرة لونية تجتمع على أن أفريقيا هي أصل التوحيد بين اللون والحياة وهي المطلق الذي يتجلى فيه الخضار المضيء والدهشة الحزينة التي تحمل أبعاداً فلسفية تدرك قوانين الكون الخفية بطرق حدسية سلسة وناعمة.

و الأزرق البارد جاء ككل جامع ونور خافت  يجمع بين المرئي واللا مرئي  البعيد، الذي كلما ابتعد يزداد قرباً حيث يمكن لعين المتلقي أن تبحث فيه عن ينابيع السر الكامن في مخيلة سعاد عبد الرسول الافتراضية،  والأصفر هو الطاقة في حالتها البدائية المحركة التي ينبعث منها حيوات في شكل نبتات تنبت من الوجوه والأجساد السمراء الصافية الناصعة التي لم تلوثها يد الحضارة الغاشمة حيث لا مكان لغياب الطبيعة ولا مكان لحضور التشيؤ والسلعية، هذه التموجات والتقاطعات يتوجها التدرج في اللون البني الذي يحتضن العلاقة بين الذات والوجود الممثل في لون الطين الأفريقي الخصب حيث علاقة الاتحاد بين الأصل والنتيجة ، البداية والنهاية وذوبانهما. القلب والعقل والحياة، الحسي والمادي في سوناتة جنونية تعزفها وهي تفكك بألوانها الاستثنائية القيم الفنية السائدة، وفي أبيضها الساخن الذي ارتدته بعض كائناتها ووجوهها، فقد الوجود كل قيوده وإلزاماته وعاد إلى أصله بلا تحديدات مكبلة، حيث يمثل اللون الأبيض الخيط السري الرقيق الذي يربط طرحها الفلسفي بعقل المتلقي ويبث فيه حياة غير تلك التي اعتادها ويأخذه إلى انسحاب إلى داخل ذاته قاطعاً صلاته مع العالم الخارجي هذا الانسحاب الذي يذكرني بكلمات جورج باتاي:

أستسلم للهدوء حتى الانعدام

يذوب ضجيج الصراع في الموت، كما تذوب الأنهار في البحر، وكما يذوب تلألؤ النجوم في الليل

تكتمل قوة الصراع في توقف كل عمل

أدخل في الهدوء كأنني أدخل في مجهول غامض

أسقط في هذا المجهول الغامض

أصبح أنا نفسي هذا المجهول الغامض.

المرأة عند سعاد عبد الرسول :

المرأة في حديقة سعاد عبد الرسول الافتراضية هي الأرض، هي الكل الشامل ووحدة التناقضات ووحدة الوجود حيث الذات والموضوع هما جسد واحد ومصدر واحد لجميع التحولات الجدلية  مثلما قال هيراقليطس: ( البحر هو التحول الأول للنار)، حيث تحتضن الواقع المتعدد لكل العناصر والأفكار وفضاء يتلاقى فيه الذاتي والموضوعي في علو صوفي يتجاوز كل التناقضات.  فهي أم لكل الأسئلة التي تتجاوز ضرورة الإجابة.

المرأة عند سعاد عبد الرسول أيضاً هي الحب الذي لا يحد، اللذة الحزينة ، أمينة السر التي تسقينا ولا ترتوي، فهي الرحم الخالق  لكل تشكيلات العالم وعلة ومكان الوجود ولا تكون الألوان إلا به، كذلك هي الموت والانبعاث الذي يذوب فيه ما لا يفنى وما لا يقال ويحرر فيه كل الاستيهامات.  المرأة عند سعاد عبد الرسول هي الجنية المختارة التي لا يصلح معها قيد وتفتح كل ماهيات الوجود. بل انها حجر الزاوية في العالم المادي وبوابة يمر منها كل ما هو غير مادي. …………

وفي النهاية يمكننا أن نقول أننا أمام منتج تفكيكي لن تنساه ذاكرة المدينة

أبداً

أبداً

أبداً

 *الأعمال داخل المقال للفنّانة التشكيليَّة: سعاد عبد الرسول

التعليقات مغلقة.