عزالدين بوركة
(شاعر باحث جمالي مغربي)
حال ميلاد الفن المعاصر، أعلن رواده عن “موت الفن الحديث”، لكن هذا “الموت” وإن انتزع الحياة من الحداثة لإعلان مولد براديغم جديد ومعاصر، فإنه في نفس الوقت لم “يدفن” الفن الموسوم بالحديث، ولم يطمره تحت الأرض، ولم يقم له جنازة مهيبة، ولم يَنْعَه نهائيا. وقد أعلن هيغل -سابقاً- عن موت الفن مع بلوغ الرومانسية ذروتها، إلا أن الفن لم يفتأ يتطور ويتغير ويتبدل ويتجرأ على إعلان ولادات جديدة، لا تلغي الواحدة الأخرى، لكن الجديد منها يخترق أراضي السابق ويحتلها. إذ لم يكن قصد هيغل سوى أن “الفن أصبح أداة يمكن أن يستعملها كل واحد منا بطريقة ملائمة، مهما كانت طبيعتها فيتماهى ذهنه مع الحرية ويكون مستقلاً عن المفاهيم والمعتقدات التي تمظهر فيها لمبدأ الأزلي والإلهي للوعي والحواس”، إنه هنا يتوقع “خمود” الفن الرومانسي، “موته”، ما يعجل بميلاد حساسية جديدة، وفن جديد ينبعث من أنقاض السابق. فهل إذن لكل فن مرحلة حياة وموت؟ وما الذي يحدد موت الفن، أو على الأقل جانباً منه وتوجهاً معيناً؟ وما الذي نقصده بموت الفن؟
في مؤلفه «هشاشة الفن» يضعنا الكاتب والباحث المغربي إدريس كثير أمام اعتبارات عديدة لـ«موت الفن» لا تنفك تنحصر داخل التقانة التي هي روح الميتافيزيقا، ويذهب إلى أن يعتبر أن هذه الأخيرة غير قادرة على منح فن العلامة حياة جديدة أصيلة. قد تستفيد منها على مستوى الفوتوغرافيا والسينما والتلفزيون، لكنها ستبقى دائماً تابعة لهذه التقانة ولروحها[1].
والعلامة هنا ما هي إلا إحالة إلى «حضارة العلامة» كمفهوم جمالي نجده حاضراً بقوة عند السوسيولوجي عبد الكبير الخطيبي. العلامة التي تأتي من بين المفاهيم التي اعتمدها الخطيبي إلى جانب المرئي واللا مرئي والنهائي واللانهائي، وغيرها التي اعتمدها في قراءته للتجارب الفنية العربية والمغربية… «العلامة التي تغدو صورة، وذلك بقدر الفنان العربي على ترويض ماضيه وابتكار مستقبله واستشراف آفاقه. هذا الابتكار سيضل مصحوباً باكتشاف الفن الغربي التجريدي..»[2]. في ظل هذا يورد كثير سؤالين جوهرين على لسان الخطيبي: إلى أين يسير العالم العربي؟ وما سيكون مآل فنونه في السرعة المعلوماتية للصورة والأصوات والعلم التقني الخاص بالتذكر؟[3] يجعل منهما مدخلاً لمناقشة أطاريحه ونماذجه التي جاء حافلاً بها الكتاب، متكئاً لذلك على التفصيل في مفهوم «موت الفن».

- موت الفن وتجاوزه الميتافيزيقي:
ففي ظل الفلسفة المعاصرة والحديثة والتطور التقاني في عصرنا الحالي (عصر النهايات)، تولدت مفاهيم جديدة ارتبطت بالموت كمحدد لها، فنتحدث اليوم عن «موت الإنسان» و «موت المؤلف» و”موت الأنوار” و «موت الصورة» و «موت التاريخ» و «موت الفلسفة» و”موت الفن”… وهذا -الأخير- هو ما طوره أرتور دانتو Arthur Danto بعد ذلك في أطروحته القائلة بأنه قد تم استنفاذ كل الوسائل الإبداعية، وذلك لأن كل شيء تم اختباره وكشفه وتحقيقه، فعلى سبيل المثال، وضعت أعمال كل من دوشان و وارهول وتجارب الفن المفاهيمي حداً نهائياً، بل اعتبرت كل أثر “مبتذل” هو بمثابة “عمل فني”. وعلى هذا المنوال ستكون نهاية الفن، بمعنى أن يكون محكوماً عليه بالتكرار[4]. مع الفن المعاصر بات كل شيء فن، وأي شيء قابل أن يكون عملاً فنياً، ولم تعد هناك حدود “جمالية” يمكن تتبع خطوطها والمشي بمحاذاتها، بل إن الفن المعاصر كشف لنا على ما يمكن تسميته بـ”أزمة الفن”، حيث إن الفن هو دام الأزمات، بل إنه أزمات لا تنفك تتوالد وتعلن على ميلادها، فمع كل أزمة نقع في “نهاية الفن” أي انهيار القيم التي يستند عليها، بالتالي ندخل في مرحلة جديدة قوامها التفكير في “فن بديل” أو براديغم مخالف لسابقيه.
إن الحديث عن «موت الفن» يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن أنه، أي الفن، كان «حياً» فيما مضى، ما يجعلنا أمام إشكالية تتلخص في سؤالين جوهريين: ما الذي نعنيه بحياة وموت الفن؟ ما الذي يميز هذه القطيعة التي تظهر متناقصة بين فن ماض حي وفن حالي ميت؟
- الفن الحي الميّت:
في المقابل إن مصطلح «الموت» وهو رديف ولصيق الكائنات الفانية mortels فنتحدث عن موت حيوان أو إنسان أو نبات أو غيرهم.. أي بالمعنى انتهاء الوظيفة البيولوجية التي تجعلهم أحياء، فهل يمكن أن نتحدث عن وظيفة بيولوجية للفن؟ قد تكون أي إجابة عن هذا السؤال عبثية بالقدر الذي هو عليه.

الفن هو نتاج ذكاء إنسان وتفاعله الجمالي مع الطبيعة ومحيطه، وأيضاً مع أفكاره الخلاقة. وبالتالي هو شكل من أشكال الحياة المتعددة. والحديث عن حياة الفن يقودنا، بشكل حتمي، إلى الحديث عن ثنائية “القبل” (السابق) و”البعد” (اللاحق)، أي ماضي الفن وحاضره. ما يقودنا، بلا تردد، إلى كون الفن هو مجموعة من التحولات التي حددت تمثلات الفن على طول آلاف السنين (إن لم نقل الملايين). إن كان كانط ذهب إلى الاشتغال بتحديد على دلالة المفاهيم المؤسسة لحقل الفن في تحليليه للجماليات، محدداً معنى الجميل والممتع والنافع، مبرزاً أوجه التمايز بين هذه المفاهيم، فقد ذهب الفيلسوف الألماني الآخر هيغل إلى تحليل صيرورة أنماط الإنتاج الفني، غير مقتصر على المستوى التجريدي للتنظير لمفهوم الفن، كما الحال عند كانط… سيذهب هيغل في قراءته التاريخية الفلسفية لتاريخ الفن، إلى حد القول والإعلان «موت الفن» بقوله: «إن الفن، أو على الأقل، غايته المثلى هي بالنسبة لنا شيء من الماضي. ولذا فقد الفن حقيقته وحياته».
«إن مفهوم موت الفن كمفهوم هيغلي يمنح مشروعيته من خلال تطورات المجتمع الصناعي المتقدم. وحين نتحدث عن النهاية فإننا نقصد بها تحقيق الروح المطلقة الهيغلية أو الميتافيزيقا المتحققة الآلية إلى نهايتها. فـ الإستطيقا كفلسفة للجمال الفني ستكون علماً ميلونخولياً (اكتئابياً) فيه يخضع الفن للمفهوم ويكون موضوعا للعلم لأنه يحتضر تاريخياً»[5].
قد يكون هيغل هو أول من أعلن عن «موت الفن» إلا أنه «ورغم أن مسيرة الفن الطويلة عبر العصور المختلفة لم تخل من أطروحات وأفكار مشابهة، أشارت بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى أزمات الفن المختلفة، من حيث دوره وأهميته ورسالته، إلا أن العصر الحديث وبشكل خاص في النصف الثاني من القرن الماضي، شهد جدلاً ونقاشًا واسعاً حول مسألة موت الفن أو نهايته، حيث أشير بأصابع الاتهام إلى التحولات العلمية المتسارعة بصورة رئيسية. وقد رأى الكثير من الباحثين في ذلك التطور العلمي سلطة متعسفة بالفن، أفرغته من مضامينه الفكرية والشعورية لصالح الفن كعمليات ذهنية نقية خالصة، ما قوض من هدف الفن كإقناع، ووسع من فجوة التواصل بين المرسل والمتلقي، من خلال ما طرح أمام المشاهدين من أعمال فنية اتسمت بالسطحية والتكرار الممل، أعمال فنية هدم فيها المعنى، وتفتت الصورة بحجة مواكبة الحداثة العلمية وروح العصر. يرى المتشائمون في موت الفن أو نهايته من جانب آخر، أن العلم أفقد الفن صلته بمهارة الفنان اليدوية وجمالية الصنعة، فلم يعد الفن نتاجًا ليد الإنسان، بل لأدوات الإنسان العلمية»[6].
على كل يمكننا القول بأن هيغل -الذي كان معجباً بفنون عصره- لم يعلن عن موت الفن، بل عن ميلاد الفن الحديث وللجمالية كعلم للفن، فضلاً عن ذلك، وبخلاف ما هو سائد، لم يستعمل هيغل كلمتي “نهاية و”موت” الفن ولكنه استعمل كلمة “انحلال” (Die Auflosung) التي تعني أن حقيقة الفن تنحل عبر التفكير الذي يجب أن يكون يعد ذلك ملازماً بالضرورة للإبداع الفني[7]. والفن اليوم، لم يعد له ارتباط بالأشكال الماضية لقد تعددت آلياته وآلاته، وبات مرتبطاً بالتقانة وما يرتبط بها من جمود عاطفي، فصار هشاً أو ما يصطلح عليه إدريس كثير بـ «هشاشة الفن المفرطة»، هذه الهشاشة التي يسهل تفتيتها لعدم تماسكها، فــ «الملاحظ أن الثقافة الحديثة تبدو غريبة عن الفن الحقيقي. ذلك أن الفن، حسب إدريس كثير، لم يعد له تلك المكانة والحظوة التي كانت له سابقاً. تلك العظمة التي امتلكها أيام اليونان.
أصبح فن المجتمع الصناعي خاضعاً للتجريد والقاعدة التعميمية والقانون المقنن لأهواء الناس وميولاتهم. بات دونكيخوتي الفارس الرومانطيقي غريباً عن المجتمع الحديث، هو الذي كان يدافع عن الأرملة واليتيم، وهكذا اندحر الفن»[8].
لقد جاء إذن موت الفن موازياً للثورات العلمية التي شهدها العالم بشكل متسارع إلى جانب اتساع رقعة العقلانية في الأعمال الفنية. إذ تم اتهام الفن أنه انسحب من العاطفة الإنسانية نحو الجمود العاطفي ما جعله لم يعد يحمل «أي أثر للإنسان فيه». فموت الفن عبارة لا تعني تجاوز الميتافيزيقا ونهايتها، كما يخبرنا كثير، بقدر ما تعني استسلام الفن لها ولقبضتها المصيرية النهائية. «موت الفن» ليس مفهوماً يمكن تجسيده في هذه الحالة أو تلك، إنما هو «حدث تكويني» لفضاء تاريخي أنطولوجي عارم، حيث لا يستمر الفن كظاهرة نوعية إنما يغدو جزءا ضمن نظرة استطيقية معممة للوجود».
وإن كان «الفن أقل الصيغ المعرفية كمالاً» كما هو الحال بالنسبة لهيغل، فإن شيلر يرفع الفن إلى درجة أنه «يلغي الحقيقة وروح الوجود وتثبيته بشكل ملموس». إذ يذهب هيدغر إلى القول بأن الفن أحد «الأساليب التي تحدث فيها الحقيقة». فإن ماهية الفن هي التي تجعل الوجود يظهر والحقيقة تشع وتلمع. فالفن «انكشاف لحقيقة الوجود». فالفن عند هيدغر يَتَوَفّق فيما فشلت فيه الميتافيزيقا، بل إن نيتشه ليعتبر الفن بديلاً عنها وتعويضاً عن خيباتها. فيكون الفن صيرورة لا تنتهي عند الموت بالمعنى البيولوجي بل تتولد عنده كلحظة ميلاد جديدة.
[1] إدريس كثير، هشاشة الفن المفرطة، منشورات مقاربات، الطبعة الثانية 2016، ص 13.
[2] المرجع نفسه، ص 8.
[3] جاءت هذه الأسئلة في مؤلف: عبد الكبير الخطيبي: الفن العربي المعاصر مقدمات. ترجمة فريد الزاهي، منشورات عكاظ 2003، ص 111.
[4] مارك جيمينيز، الجمالية المعاصرة، الاتجاهات والرهانات، ترجمة كمال بومنير، منشورات ضفاف 2012، ص 85.
[5] إدريس كثير، هشاشة الفن المفرطة، ص 9.
[6] مازن عصفور، إشكالية موت الفن: “دراسة ظاهرية”، دراسات، العلوم الإنسانية والاجتماعية، المجلّد 38 ،العدد 3 ،2011.
[7] مارك جيمينيز، الجمالية المعاصرة، ص 32-33.
[8] المرجع نفسه، ص 10.
التعليقات مغلقة.