جورجيو موراندي: النسخة والأصل – أحلام الطاهر
أحلام الطاهر
قدح ماء، قرنفل، قفة توت، أرنب ميت، حجل، نارنج وبرتقال.. ما الذي يوجد في النسخة ولا وجود له في الأصل؟ ما الذي يحضر في الفن التصويري ويغيب في الواقع؟ لماذا نعجب بالنسخة ونستحسنها في لوحات القرابين التي تصور طعاماً يقدَّم للآلهة في الفن الفرعوني ونقوشاً وزخارف هندسية في النسيج والأباريق النحاسية في الفن الإسلامي؟ نقف أمام لوحات كارافاجيو وفيلاسكيز وموراندي مثل ذلك المسافر الذي قرع ذات ليلة باب قصر شبحي وإذ الباب يُفتح وإذ هو يُدعى إلى الدخول إلى إيوان كبير تدفئه نار الحطب ويتوهج بضوء الشموع وقد تجمع الضيوف حول المائدة في وليمة رائعة.
لو كنا نتقن النظر لما كنا في حاجة للرسم، إذ العالم والأشياء كافيان. ولا بدّ أن شاردان كان متفقاً مع هذا الرأي وإلا فلماذا كان يرغب في “أن تتعلم العين رؤية الطبيعة”؟ لماذا يتأسف كون جلَّ الناس “لم يشاهدوا قط الطبيعة “؟ ذلك لأننا لا نجيد النظر. نحسن فقط الترقب والترصد والتفحص وإصدار الأحكام. نبتغي العثور خلف الأشياء على سرها وحقيقتها ومعناها. نخلط بين النظرة والتساؤل، بين الرؤية والتأويل، لا نكتفي بالمعرفة، فنتطلع للفهم. نحن في حاجة لذلك من أجل التصرف والتحكم.
في إحدى محاضراته في السوربون قال الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل إننا انفصلنا من تلقاء أنفسنا عن كل الأشياء. انفصلنا عن الواقع بالفكر، عن الحقيقة بالمعرفة، عن الحاضر بالتمثّل. أضحى العالم بالنسبة إلينا عائقاً، ظلاً، كأنه مشكلة أو خدعة. لقد غدونا جميعنا أفلاطونيين على وجه التقريب، وإن لم نقرا أفلاطون، كانطيين دون أن نطلع على كانط، سجناء الكهف، ما دمنا نعتقد في ذلك، لنقل صرنا مثاليين، نتعلق بالخرافة، متعطشين لشيء ما، لدلالة ما، لتعالٍ ما، مقتنعين جميعنا بوجود واقع يختفي وراء العالم، ماهية وراء المظاهر، كمفتاح لغز، كمخرج، كحقيقة أصدق من الواقع.
ثم إذ بنا بعد كل هذا، نعاين أمام لوحة لجورجيو موراندي الأشياء اليومية التي يمكن العثور عليها في أيّ مطبخ، مثل الجِرار والزجاجات والأباريق والأطباق والكؤوس والأواني الخزفية… فنتوقف فجأة عن البحث والتحري. لأن الحقيقة هنا ماثلة أمامنا. حاضرة. منكشفة. بادية للعيان في اللوحة؛ نعم في اللوحة، وفي كل مكان من العالم.
تعتبر أعمال جورجيو موراندي (1890 – 1964) الذي ولد في بولونيا بإيطاليا، من أفضل ما أنتج الفن الإيطالي المعاصر لما فيها من ذوق مرهف في التنسيق والبناء. ويقال إنه كان يمضي أسابيع طويلة يفكّر خلالها في تحريك الأشياء وتغيير أماكنها كي يحصل على “أفضل طريقة لوضعها في مكانها المناسب”. ولو كان على قيد الحياة لطلبت منه إيكيا أن يرتب الأواني والزجاجات والعلب الفارغة لأفيشاتها الدعائية.
لا مكان للعاطفة والانطباعات في عالم موراندي، فتلك الإنشاءات والتكوينات مضبوطة وفق إيقاع مدروس وصارم. ومن الواضح انه كان يكرّس كلّ جهده ووقته لفنّه. حيث عاش حياة منظمة في شقة صغيرة مع شقيقاته العازبات الثلاث. درس الرسم في مدينته وزاول التدريس في إحدى مدارسها ولم يكن يسافر كثيراً، لكنه حضر الدورة التاسعة من بينالي البندقية (1911)، واكتشف لوحات سيزان ورينوار. كما زار فلورنسا في نفس العام، وانبهر بالكنائس التي تحفل بأعمال جيوتو وماساتشو وأوسيلو. كان يميل إلى التكعيبية والمستقبلية، لكن ولاءه بقي راسخا لموضوعات الطبيعة الصامتة التي رسمها كل حياته بعيداً عن الأنظار في غرفته.
وليس لمتأمل أعمال موراندي إلا أن يجد نفسه عالقاً في غواية غامضة. تلك الرؤية النقية للشكل.. المختارات التي استضافتها مؤخراً غاليري Karsten-Greve في باريس، هي بمثابة بانوراما لملامح عامة في تجربة سيد الطبيعة الصامتة. هذه المستلزمات المنزلية لا تحمل سمة محدّدة، فهي ليست من الكريستال أو الفضة للتتفاخر والمباهاة مثلاً. مظهرها مسطّح ومملّ تقريباً. كما أنها تفتقر إلى انعكاسات أو أيّ درجة من اللمعان. والعديد منها مرسوم بأقلّ قدر من الظلال أو الضوء. لذلك تحبط فينا كل تعليق وتأويل و ثرثرة.
يفتننا فن موراندي التصويري بحقيقته التي تخصه وحده فقط، ثم يحيلنا على العالم الذي يحتويها. ما الذي نبحث عنه إذن؟ إنها الحقيقة، ليس ثمة شيء نخمنه، و نفك شفراته ونؤوله. لا وجود لشيء نتملكه. الرؤية تكفي. فيديريكو فيلليني كان محقاً بإظهار لوحات موراندي في خلفيات فيلم “لا دولتشي فيتا” ما جعلها أكثر قابلية للإدراك واللمس، كأنه يقول لنا: لا يمكننا الاستسلام للحياة إلا إذا توقفنا عن إضفاء معنى عليها.
التعليقات مغلقة.