الاسترزاق الفني: قراءة في المشهد التشكيلي المغربي

أشرف الحساني – المغرب

في كل لون من الثقافة العربية منزع مرضي يستبد بها فيصيبها  بشروخ وعطب ومرض عضال لا تستطيع أن تبرأ منه، إلا بعد مرور سنوات. وقد يظل الأمر على حاله لقرون لو لم تظهر بعض الأقلام التي تحررها من سلطة الممارسات اللاثقافية والكتابة الغوغائية التي تهتم بالشخص بدل النص أو العمل الفني المنجز .

يعتبر مفهوم “النقد الفني” من بين المفاهيم النظرية المشكلة للحقل التشكيلي داخل البلدان الغربية، سيما فرنسا وأمريكا وبعض الدول الأخرى التي، استكملت حداتثها الفنية فأحست بعدم الرضى عن النتائج التي توصلت بها من المشروع الحداثي، فاضطرت إلى استكمال حداثتها من خلال الولوج إلى مرحلة لاحقة غير منفصلة عن الأولى وهي ما بعد الحداثة من خلال الانفتاح على تجارب فنية وجمالية جعلت من الفضاء المفتوح أو العمومي مركزا لمعانقة رؤى فنية جديدة ومن العابر والزائل سندا فلسفيا وجماليا لها. استطاع الناقد من خلال ذلك أن يجدد لغته وأفكاره عبر انزياحه الكلي من النقد إلى الفكر، الذي يجد فيه الفن المعاصر موطنا آمنا له.

“النقد الفني” المغربي الذي يقارب التجارب التشكيلية، هو نقد عام يحتكم في أصله إلى الشخص بدل العمل الفني، كتابات حين تقرأها تكتشف الطابع العمومي الذي تختزنه، وأن ما يكتب عن فنان ما قابل أن يعمم على الجميع. هذه الطريقة من الكتابة نلمحها بشكل يومي داخل الجرائد المغربية وبعض المجلات الخليجية التي باتت تعين بعض الحراس على ملاحقها الثقافية الشهرية وذلك مقابل غياب بشكل كبير للكتابات النقدية التي تخترق كنه العمل الفني لفك شفراته والإقامة في تخوماته اللامفكر فيها، كتابات يطغى عليها الطابع الصحفي التعريفي والأدبي الذي يشوه العمل الفني أكثر مما يعرف به.

إذا عدنا إلى النصوص “النقدية” الأولى في وطننا العربي سنكتشف أنها عينها لم تكن إلا مجرد انطباعات حول الفن العربي، كتابات يطغى عليها الطابع الاستيهامي (وليس الشعري) الذي لا يمت للفن بصلة، لكن رغم ذلك لا يمكن أن ننكر قيمة هذه الكتابات كمعلومة وكأرضية، يمكن أن ينطلق منها هؤلاء الذين يكتبون عن الفن اليوم للتفكير بجدية في سؤال الفن والدرس الجمالي العربي ككل. لأن ما نسميه اليوم “بالنقد الفني” بعيد كل البعد عن مفهوم النقد، كما تبلور في فرنسا وأمريكا على أيدي نقاد كبار، وبالتالي يجدر بنا إعادة النظر في هذا المفهوم، كما يجدر بنا أيضا إعادة تعريف مفهوم الناقد في ظل هذه المتغيرات السريعة، التي طالت المنظومة الفنية العربية لمعرفة مدى حدوده و طرائق اشتغاله، وهذا الأمر لن يتأتى لنا إلا من خلال أرضية نظرية صلبة وبمجهود مؤسساتي علمي وجماعي وليس فردي.

إذا كان النقد الفني قد استطاع خلال السنوات الماضية، أن يحتل موقعا لابأس به لدى المؤسسات الفنية، رغم محاولات الخنق والتدجين والتواطئات غير الفنية، التي دخلت فيها بعض الأقلام، مازالت بعض الأسماء “النقدية” التي تشتغل اليوم، تحافظ على تعاقدها الرمزي مع القارئ دون مواربة أو تضليل أو تزوير للتاريخ الفني والجمالي المغربي، وأنوه هنا بالمجهود الذي يبذله كل من الباحث موليم العروسي وفريد الزاهي، فضلا عن بعض الأسماء المغربية الأخرى المتفاوتة في درجات الاشتغال بين المقال الصحفي و المقال النقدي- الانطباعي الذي تخصصه المؤسسات الفنية ليكون متضمنا داخل الكاطالوغات الفنية.

الناقد الفني كان وسيظل، ذا حظوة معرفية لدى المؤسسات الفنية، لأنه عينها التي بها ترى الأمور، كما أن هذا “السلاح” قد يستعمل لصالحها من خلال الترويج لأعمال فنانين يعانون من فقر دم الجمال، وهو الأمر الذي يحصل عندنا في المغرب اليوم، إذ ظهرت أقلام تدفع لها للكتابة عن تجربة فنية، ولا يهم قيمة الأعمال الفنية المكتوب عنها، بل الأهم هو قيمة الأجر المدفوع، خلافا لما هو متداول بشكل رسمي في الغرب، بحيث يسند للنقاد أمر الكتابة، لكن داخل مؤسسة فنية ووفق رؤى فنية و جمالية، بل الأهم وفق المشروع الكتابي، الذي يمثله الناقد وليس المؤسسة الفنية…  “الناقد” الفني اليوم مستبعد من الساحة الفنية، لأنه مزعج والمهرجانات والجمعيات الفنية تحتاج إلى ناقد خنوع تدفع له وليس الى ناقد جريئ يعري عطبها الفني والجمالي، وبالتالي يتم استبعاده بشكل كلي…

في المقال الذي نشرناه بالقدس العربي اللندنية ” طحالب النقد ومحنة التشكيل في المغرب” والذي لقي تجاوبا جماهيريا كبيرا داخل الأوطان العربية، أبان عن مكمن الخلل والمرض الذي ينخر جسد التشكيل المغربي، يمثل نموذجا لهذا الاحتقان والجهل والاستبعاد الذي عانيت منه وأنا في زهرة شبابي، لدرجة أن البعض من هؤلاء النقاد وشى بي بسبب المقال لمجلة الدوحة التي أصبحت اليوم ممنوعا للنشر فيها.. لماذا؟ لأنني عريت الواقع وأبنت عن الانحطاط والاسترزاق الذي تتعيش به بعض الأقلام المغربية…

الجمعيات الفنية والمهرجنات التشكيلية باتت مجرد عملية إدارية صرفة ومؤسسات ثقافية فارغة، وإن كان الأجدر أن يسند الأمر لناقد أو فنان تشكيلي أو شاعر أو روائي وغيرهم من المبدعين المنشغلين بالإبداع الفني والأدبي، لأن هؤلاء يملكون حسا فنيا وجماليا يؤهلهم للخوض في طبيعة المنجز الفني المراد تقييمه وفق شروط علمية وفنية مسبوقة في تاريخ الفن العالمي.

ثم أن مثل هذه الوظائف يجب أن تسند إلى الخريجين من شعب الفن والأدب والتاريخ والفلسفة وليس لشعب القانون، الذين تحرص الوزارة على تواجدهم على رأس المهمة وكأن الأمر يتعلق فقط بالتنظيم دون الاهتمام بجوهر العمل الفني وقيمته، بل أن يكون ملما بجميع التقنيات المتصلة بالعمل الفني. فالكثير من المهرجانات الفنية بالمغرب باتت اليوم تتخذ الفن وسيلة ومطية للحصول على المال من وزارة الثقافة، وقد نبهت إلى هذه المسألة في المقال السابق الذكر، لكني بدوت كالأبله حين اكتشفت أني “أصب الماء في الرمل” وأني أنتمي الى مجتمع لا يهمه تاريخه الجمالي والفني، وأن الوجود لم يعد مرتبطا بالفن بمفهومه الأرسطي ، بل فقط بالمال والامتيازات…

الوزارة اليوم لم تعد معنية بالفن المغربي ولا اتحاد كتاب المغرب ولا بيت الشعر، كل هذه المؤسسات الفنية أصبحت معنية بأمور غير الثقافة، لكن أين تذهب ميزانية الثقافة المغربية اليوم ؟

أكتب في هذه اللحظة وأنا أعي جيدااا في ظل هذه الطفرات التكنولوجية والمفاهيمية والجمالية الغنية، التي تشهدها الساحة الغربية، أن التشكيل المغربي دخل إلى ليل الثقافة المغربية، وأن القليل جدااااا مما يكتب اليوم في الجرائد العربية عن التشكيل المغربي يستحق المتابعة والقراءة… والباقي يتم وفق عشاءات فاخرة وقناني باهظة الثمن…الجمعيات التشكيلية المغربية اليوم أصبحت تتخذ من الفن التشكيلي قاطرة لسرقة المال من الوزارة وأن البرامج التي تقدم الى الوزارة للحصول من خلالها على الدعم يتم تغييرها قبيل المهرجان بقليل فيتم السطو على الكثير من المال دون علم الوزارة التي تساهم بشكل ضمني في تكريس هذه العادة.

ما يسمى اليوم بالمؤسسة الفنية ، هي جزء من هذا العهر الذي يمارس على التشكيل المغربي ، لأن تلك التي نظن أنها مؤسسات فنية، هي في الحقيقة عبارة عن قاعات ودكاكين ينعدم فيها مفهوم الجمال، لنأخذ على سبيل المثال بعض قاعات العرض اليوم بمدينة الدارالبيضاء، كيف أن تقييم الأعمال الفنية لا يتم وفق اختيارات دقيقة و بحضور نقاد وفنانين تشكيليين لهم صيتهم العربي، بل يتم ذلك وفق منطق دفع المال و العلاقات والزبونية والمحسوبية ولا شيء يشي بالبعد الجمالي الذي يبشر به صاحب “المؤسسة”، الذي يروج له هؤلاء الكتبة المأجورين وفق عشاء فاخر في إحدى المطاعم الفخمة… عن أي مؤسسة فنية نتحدث هنا ؟ وعن أي منطق اقصاء نتكلم ؟ تصبح عملية تقييم الأعمال الفنية لا تحتكم إلى قيمتها الفنية والجمالية وما تمارسه علينا من سحر وقلق وجودي، بل هي رهينة بحجم التوصيات والزكاوات التي تمنح لصاحب المؤسسة. وما أقوله هنا ليس قذفا أو تجذيفا في حق أحد، إنه عين الواقع بالأساس..

  • باحث جمالي وناقد فني مغربي

 

التعليقات مغلقة.