“نيكولاس كيج” في حالة مُرَكّبة ضمن تحوُّلاتٍ كبرى لممثل استثنائيّ-عادل آيت أزكاغ
عادل آيت أزكاغ/ المغرب
انطلقت البداية الفعلية لمعانقة سماء النجومية التي سلطت هالة من الضوء على الممثل الأمريكي الشهير “نيكولاس كيدج/ كيج” (1964/Nicolas Cage)- الذي يصادف أول السنة الميلادية الجديدة المُقبلة احتفاله بعيد ميلاده الرابع والخمسين (07 يناير2019)- بدءًا من العام (1995) حيث تجلى في أرقى حالاته الإبداعية، من خلال مشاركته في بطولة فيلم (مغادرة لاس فيغاس)، الذي اندمج فيه مِثاليًّا مع شخصية “بِينْ” الرئيسية، ومَكَّنته من حصاد جائزة “الأوسكار” و”الغولدن غلوب”(1996) وجوائز أخرى عديدة، بالنظر إلى ما اتسم به تأديته إياها من درجة مرتفعة من التركيز والإتقان والتميّز والاِحتراف والدّقة العالية، في مستويي تقديمه الخارجي والداخلي لها.
عُرِف الفنان نيكولاس بين أوساط النقاد وفي أذهان معجبيه وعيون محبيه وعشاقه، بصورة ذاك الممثل المتنقل بين أدوار صعبة، طبعت تواجده في هوليود بقوة إلى مستوىً يستحيل معه القفز عليه وتخطيه حيال كل حديث عن نجومها الكبار وأهراماتها الشامخة؛ وقد كسب نجاحا باهرا عزز حضوره اللافت كعبقرية تمثيلية وعلامة استثنائية في فن السينما الحديثة- المعاصرة، ليس كما اتهم سابقا بسبب كونه فتى مدللا تربطه علاقة قرابة دموية مع عمه المُنتج وكاتب السيناريو والمخرج العالمي الأمريكي، من أصل إيطالي، “فرانسيس فورد كوبولا”- (Francis Ford Coppola/ 1939)، مُوقّع الفيلم الشهير “العرّاب” بأجزائه الثلاثة، الذي احتضنه في بدايات مسيرته المبكرة وقذف به إلى عالم الفن، بل/ ولكن أيضا، لأن نجاحه كان مكتسبا في واقع الأمر بسبب أدائه المتقن ومهارة تجسيده وتقمصه المباشر الفريد من نوعه للشخصيات الكثيرة، التي يعرض أدوارها المختلفة متحولا فيها من شخصية إلى أخرى في جميع أفلامه، على منوال متجدد ومتغير لا يفسح أي مجال أمام عين المتلقي لرسم صورة نمطية في ذهنه ثابتة ومستقرة عن هوّيته كممثل. وقد كان هذا التحول والانتقال والانسلاخ عن “أنا” ذاته، وظهوره في صورة ذلك “الآخر” المنكبّ كلية في إيهاب شخصياته إلى درجة الانصباب التام فيها والحلول والتماهي الكامل معها، هو الأسلوب المميز لمنهج كيج وتقنية أدائه لأدواره المتعددة والمتنوعة، المتفردة الثرّة والفذّة منها على نحو أكثر تخصيصاً وتحديداً.

هذا الأسلوب التمثيلي الخاص بنيكولاس في أداء أعماله السينمائية المتنوعة التي تربو عن السبعين عملا، كان ربما آخرها الجزء الثاني ل (آل كروودز 2017)، المتقلب في أدواره البطولية بين أفلام الدراما العائلية، والكوميديا السوداء، والكوميديا الخفيفة المرحة، والخيال العلمي، والرسوم المتحركة، وأفلام الأكشن، فالتشويق، ثم الإثارة، إلى أفلام الحرب والسجن والعنف وغيرها؛ هو ذاته الأسلوب الذي استثمره على نحو أجمل وأمثل في فيلم (Laeving Las Vegas- 1995)، الجِرّيء نسبيا (+18)، وبما أنه كذلك، فإنه يتطلب من المتلقي أن يتحلى بمناعة ذهنية ونفسية ضروريتين، وأن يصب اهتمامه في قراءة ما وراء الصورة وتجاوز بعض لقطات الفيلم ومشاهده المباشرة؛ ويهمّنا بالفعل التطرق إليه في موضوعنا باستحضاره أنموذجا نسعى خلفه لاقتفاء أثر حكايته وأحداثه وإبداعية “كيج” فيه، باعتباره من أقوى الأفلام التي لاقى عنها استحسانا كبيرا من النقاد وترحيبا جمًّا من جمهوره، وكرّست حضوره كموهبة استثنائية لامعة، انطلقت سريعا، وشقت سبيلها بنجاح، ثم حازت مكانة مرموقة إلى جانب العمالقة من مبدعي السينما الأمريكية وصُنّاع عالمها ومجدها.
شاركته بطولة العمل باقتدار، النجمة الأمريكية “إليزابيث شو”(1963 /Elisabeth shue)، كما تجلت في العمل أيضا بصمة واضحة لمخرجه ومنتجه وكاتب قصّته (1948/Mike Figgis)، ما حدا بالفيلم ليحقق إيرادات كبيرة جدا من ملايين الدولارات تجاوزت بكثير تكلفة إنتاجه، فضلا عن بلوغ رصيده من الجوائز ستا في التمثيل، وترشحه كذلك لنيل الأوسكار التي آل نصيبها إلى كيج كأفضل ممثل، لتألقه في ذلك الإبَّان فنّانًا بهيجا ضالعا في الفيلم في حالةٍ شاعريّة أخّاذة.
للاِقتراب أكثر من موضوعنا، وللدخول في صلبه، مضينا في سبيل ذلك إلى البحث عن طبيعة المضمون ونوعية القصّة التي يقدمها الفيلم؟ وتساءلنا عن دلالة المغرى الكامن وراء معناها المستتر؟ ثم استفسرنا عن أسلوب بطلها نيكولاس وكيفية تقديمه لدور “بينْ” فيها؟ هذا دون أن نغفل الاستفهام عن دور “سارا” ومنهجها في الأداء؟ بالإضافة إلى الرؤية الإخراجية المتحكمة في توجيه مسار الفيلم بالتركيز على أشياء بعينها وإغفال أشياء أخرى بغاية توسيع الفكرة ومنح المعنى أكبر قدر ممكن من التفسير المختلف، وجعله منفتحا على التأويل العميق المتعدد؟

فكرة قصّة الفيلم:
يحكي الفيلم قصّة استثنائية، لا تُنسى، تحلق خارج سرب الحكايات الشائعة والعادية والمألوفة، حيث تناولها المخرج في قالب فني مثير ومشوق، أبرز فيه ذكاءه الحاد في التقاط المسائل الاجتماعية الأكثر إشكالية، من جانبها الهش والهامشي، ووَضْعِها في حالة تأمل وتشريح واقعي، وإخضاعها طيعة للتناول الخيالي برؤية سينمائية إخراجية حاذقة، تبنّت مشاهدها خلفية موسيقية، مُبتّلة بأغانٍ خفيفة، ومؤثرات صوتية وإيقاعية، لنقل مشاعر الشخصيات مأخوذة بالانفعال خلال حواراتها، كما تتعمد الترميز الذهني، والغموض، والتفكيك الجمالي العميق للفكرة، بدل إظهارها مباشرة في معناها ومبناها، طامحًا إلى طرح مأساة إنسانية بامتياز، لشخصيتين منهزمتين معنويا، وممزقتين نفسيا، بفعل ما تتعرضان له من أزمات في عالم غريب، واقعه قاسٍ لا يرحم.
محتوى قصّة الفيلم:
تتمحور قصّة فيلم (الخروج من لاس فيغاس/ أو مغادرتها- والرحيل عنها) حول قضايا مركزية ثلاث، يتقدمها “إدمان الكحول” المؤدي إلى ظاهرة “الانتحار” التي تأتي كنتيجة نفسية ثانية حتمية ناجمة من الإشكالية النفسية الأولى، وهما مرتبطتان بشخصية “بِينْ ساندرسون” وقام “كيج” بتجسيد بطولتها ببراعة فائقة؛ فيما اتصلت القضية الثالثة المطروحة بظاهرة متأرجحة بين البعدين: الاجتماعي- والنفسي، ممثلة في “الدعارة” التي تدور في كنفها الشخصية الرئيسية الثانية، “سَارَا”، وتقمّصتها بمهارة (إليزابيث شو)، التي سافرت من “لوس أنجلس” إلى “لاس فيغاس”، في نفس يوم إنتقال آخرين مثلما فعل “بِينْ” الذي رحل من بينهم، منفصلا عنهم، وحيدا، من ذات المدينة قادما إلى الأخرى.. رحلا إذاً إلى هناك دون أن يكونا على معرفة سابقة بنفسيهما، قبل أن يُكتَبَ لهما اللقاء فيما بعد.
ليست في مشاهد الفيلم، ما يعطي لمحة عن ماضي وتاريخ وأسباب ودواعي رحيل “سَارَا” إلى العالم الجديد الذي يحتضن مسرح أغلب أحداثه في وقت متأخر من الليل، بين الطرقات، في البيوت، وفي مطاعمها وملاهيها الليلية المليئة صخبا ومتعة وعنفا وضجيجا وغموضا، حيث تعيش حياتها، وتقوي شكيمتها بالصبر، للاستمرار من أجل العيش بعملها ك”فتاة ليل” تقاوم الحياة والبقاء في منزل مع رجل إحدى العصابات ممثلا في شخصية حاملة لاسم “يوري”، التي جسد دورها الممثل البريطاني “جوليان ساندس”- (1958/ Julian Sands)، وعمل على تقديم نفسه على متنها في صورةٍ للآدمي المتوحش، لذلك النوع الاستغلالي من الناس المبتزين المنبوذين، كما يلمح بذلك مواصلته تهديده لها بالانتقام العنيف بلا هوادة، متى تهاونت عن تلبية طلباته المختلفة وتمكينه من مبلغ مالي عن كل يوم، متفق على تقديمه بين الحين والحين، دون أن يلتمس أعذارا رغم ما تتعرض له في مهنتها من أخطار وتحديات، في ظل المغامرات التي تلف مسيرها كل ليلة.
أما “بِينْ” فيظهر سكّيراً، ثملاً على الدوام، استبد به ارتباط غريب ومجنون بالخمر، في وضع نفسي مأساوي، وحالة فوضوية يُرثى لها، محاطا بإشارات خفيفة كان المخرج شحيحا للغاية في تضمينها بين المشاهد وبثها متقطعة بين مقاطع غير متصلة، تستحث من المتتبع بذل جهد للتركيز ونظم خيوطها وعلاقتها بالحكاية، ومن ذلك تلميحات، تبرز صورة يُفْهَمُ منها أنها لأسرته الصغيرة، ويظهر في إطارها مع “طفله وزوجته”، وهي صورة لا تخلو طبعا من دلالة، إذ تحيي فيه الحنين الصادم الممزوج بالشجن والحزن والشوق الأليم لماض لن يعود، لذلك رغب في نسيانه بالمُطلق.. حمل الصورة المتبقية في يده وتقدم بجسد متمايل، ورأس مترنحة، ونفسية منهارة، وخطوات بطيئة وثقيلة، إلى رميها في المحرقة في أوجْ اشتعال ألسنة النار وهي تبتلع مستنداته وأوراقه وكتبه وملفاته، التي أراد التخلص منها كلية بعدما طُرِدَ من مهنته ككاتب سينمائي لقصص وسيناريوهات في إحدى شركات إنتاج الأفلام الهوليودية؛ فَقَدَ عمَله في هذه الأثناء وأحس ألاّ شيء يحُضّه على البقاء في لوس أنجلس، فقرر الرحيل عنها، ثم تخلص من كل أثاث المنزل وملابسه وممتلكاته لأجل ذلك.. لكن طيف الصورة ظل ملازما له، حيث رافقه ومَثُلَ بين عينيه وهو داخل سيارته ماسكا مقودها بيد، بينما الثانية فهي مشغولة بإحكام القبض على زجاجة الخمر التي وثق ارتباطها بفمه مثل رضيع ملتصق بثدي أمه بلا أن يُبدي أدنى رغبة لمفارقته، وإذا تركه لضرورة بيولوجية تفترض عليه ذلك تلقائيا، فإنما ليعود إليه مرة أخرى ليتشبث به بقوة أكبر. مشكلة “بِينْ” الرئيسية هي فقدانه لذة العيش في الحياة، واختياره إدمان الكحول سبيلا للخلاص من ماض سيء يخفي وراءه ذكرى قاسية، خلّف وقعها على قلبه صدمة صاعقة، دمّرت كيانه، وسحقته بالمرة.
ثيمة الفيلم:
الخمْر/ أو حالة الإسكار، الذي يقابله بمنطق المخالفة غياب الوعي، ويعني كذلك إطلاق العنان للغرائز والشهوات لتصير هي المتحكمة بدل العقل، هو الثيمة المُهيمنة في الفيلم، وهو أيضا عنوان حياة “بِينْ” التي أضحى من شعارها لديه، الاستسلام التام لكل العقبات والحوادث والهزات المتتالية الملاحقة له وهي كثيرة، دون أن تصدر عنه أدنى مقاومة ضدها حتى في أشق حالات تعرض فيها للطرد والحرج والرفض والضرب المبرح والعنيف، بسبب تموضعه في حالة الغياب والاغتراب الذاتيين عن العالم الواقعي، وسقوطه الدائم مسترخيا آمنا ومستلقيا في منطقة اللاشعور خارج وعيه. “بينْ” يشرب لينسى، لا يريد أن يتذكر شيئا، لا الماضي ولا حتى وجوده، إلا زجاجات الخمر المعتقة التي يعاقرها بأنواعها وأصنافها متفاوتة الأشكال والأحجام، كما تجدها مرمية في كل ركن من زوايا البيت فوق الفراش وتحته.. بين يشرب باستمرار في جميع حالاته: ماشيا، قاعدا، نائما، سائقا سيارته، بالليل، بالنهار، في كل أوقاته. وإذا خرج من غرفة الفندق ثم البيت لاحقا، فلكي يتجول في الحانات أو يقتني المزيد ثم المزيد من الخمور، ثم يبدأ في الإفراط في الشرب بشراهة والثمالة حتى النخاع، عسى أن يبلغ غايته المأمولة، وهي قتله لنفسه، بطريقة انتحار غريبة تتأرجح بين الموت البطيء والرحيم والعنيف في الوقت نفسه.
هروب من الواقع:
وإذا كانت إحدى الشخصيتين المركزيتين: “بين” تبدو منهزمة، قلقة، فاشلة، متوترة، محبطة، حساسة، سالمة، ومستسلمة تماما لكل الضربات التي تتلقاها في الحانات الليلية وفي العمل الذي طُردت منه، والرفض المتكرر لها في الملاهي والفنادق وفي كل مكان تطؤه، وهي من العوامل الجانبية التي عمّقت أزمة “بين” وعزلته، وأحالته إلى شخصية بائسة ويائسة، عادت به إلى الإدمان على الكحول، وأن يبيت يشرب حتى لا يتمكن من تذكر ماضيه، ويغيب عن إدراك حقيقة الواقع ووعيه الذاتي، الذي لا يحمل استيقاظه غير دلالة الشعور بوخز الضمير، والزيادة من آلامه وعذاباته التي لا فكاك منها؛ إنه يريد أن يظهر فيما تبقى له من أيام، في منظر جثة هامدة، خاملة وخامدة، لا تحس بما حولها ولا تستشعر أي شيء في نفسها، ولهذا السبب يتجلى “بين” راضيا بواقعه، يتقبله كما هو في جميع الظروف وما ينجم عنها من نتائج سيئة في أغلبها. هكذا تتجلى شخصيته حاملة للقسط الأوفر من المسؤولية في حدوث مثل تلك الظروف، عندما يتبدى ماثلا في صورة شخصية مازوشية، تؤذي ذاتها من حيث لا تشعر، وهي تتلذذ بالقتل الرحيم لنفسها، بدفن رأسها في مسبح من خمر، فيتحول هذا الإيذاء للذات إلى نتيجة منطقية تنمّ عن اضطرابه وعجزه عن مواجهة محيطه، ورغبته الجامحة في مغادرته والهروب منه إلى حيث لا يدري (المجهول).
وعلى النقيض منه، فإن الشخصية الرئيسية الثانية “سارا” تبدو رقيقة حساسة، مختلفة عنه نسبيا، وتتشابه معه إلى حد قريب، إذ على الرغم من انهزاميتها ويأسها وفقرها وقلقها، وشعورها بالبؤس والخوف والحزن والاضطهاد، إلا أنها ليست مستسلمة بطبعها، ويبزغ في تصرفاتها لا قابليتها للمهادنة، وتُظهر بين الفينة والأخرى مقاومةً تجاه ما تتلقاه من محنٍ، لكن مع الأسف سرعان ما يخفت مفعول محاولة دفاعها عن نفسها، ثم تفشل وتستسلم تحت ضغط عُنْفٍ طارئ أو ظرفٍ قاهرٍ أقوى من أن تواجهه بضعفها الطبيعي، مما يجعلها مدعاة لاستدرار عطف المتلقي واستثارة شفقته ورحمته عليها.
حُبّ ناشئ بالصدفة:
حدث في أول ليلة وصوله إلى لاس فيغاس، أن تصادف “بِينْ” مع بائعة الهوى “سَارَا” فبادرها باقتراح دفعه لخمسمائة دولار لقاء مرافقتها له إلى غرفة الفندق حيث نزل، وقد اكتفى في ذلك برؤيتها فقط وهي تمنح له الفرصة للتحدث وسرد حكاياته فيما هي منتبهة ومستمعة له باهتمام. في اليوم الموالي اكتشفت أن أمرا مثيرا للغاية يحدث، إذ تذكرت وهي تتلفظ بكلمات متنافرة تعكس حالة ذهنية مشوشة، أنها شعرت لحظة مكوثها معه، ملامستها لحقيقتها الإنسانية، الأنثوية، لأول مرة، وأحست أن شيئا لم تشعر به من قبل يتحرك بداخلها، أحست أن ثمة علاقة نشأت وأن هناك انجذاباً ما وتآلفاً كبيراً قائما بينهما؛ لقد أدركت أنها تحب فعلاً ذلك الرجل، ما جعلها تلف الأرجاء بحثا عنه في الليلة الموالية.
وقع كذلك أن تحركت بداخل “بين” مشاعر مماثلة حيالها، ذلك أنه أحس هو الآخر بأن شيئا فيه تغير، وأن حاله بدأت في التحسن، وصار يشعر بأنه بخير؛ وكما كانت بالنسبة إليه صورة مرآوية حقيقية لأناه الأخرى، يرى فيها الآخر المُضطلع بمهمة التجسيد الحيّ لمعاناته ولإحساسه بالحرمان والضياع والفقدان والغرابة، كذلك تمازجت روحه بروحها، وتضامن معها وأضاف بؤسه إلى بؤسها المشترك. وها هو قد اكتشف أنه يعشقها، وبدت له كما لو كانت بمثابة الدواء الذي يُخلطُ بكحوله ويبقيه في حالة توازن وتوافق وانسجام نفسي مع ذاته، لذلك بحث هو الآخر عنها مثلما بحثت هي عنه، قبل أن يلتقيا مجددا، بالصدفة؛ واقترحت عليه عقب نهاية موعد لقائهما الأول على طاولة العشاء، الانتقال للعيش معها في بيتها المستأجر بدل إقامته في الفندق ليشعرها بالأنس ويملأ عليها وحدتها ويبدد عليها إحساسها بالسأم من عزلتها ونفسها. لمس جدية وإصرارا في كلامها بعد تكرارها نفس الطلب داخل بيتها، فساوره الارتياح، ثم وافق على ذلك، لكن شريطة، كما التمس منها ويريدها أن تفهم، أنه لا يمكنها أبدا.. أبدا، أن تناقشه أو تطلب منه مسألة توقفه عن الشرب! وهو ما وافقت عليه بلا تردد، بل حصل أن أضافت إلى الأمر، إتيانها بهدية عبارة عن قارورة معدنية فارغة صالحة للملء خمرا، كي تظهر له بالتجسيد العمَلي مدى تفهمها لوضعه، وتقبلها لشرطه من أجل البقاء معها.
وقد كان كلاهما مدركاً للوضع، حاجتهما إلى حُبّ الآخر وحنانه- إلى نفسيهما، وكونهما ضحيتين لظروف خاصة أقوى من طاقتيهما المقدرتين، أسبابها خافية وملابساتها ودوافعها غير معروفة بشكل صحيح وصريح، لكنها فرضت عليهما نفسها بالفعل وبالقوة. فكما كانا متفهمين لوضع روح “بِينْ” المُضطربة، وعدم استفاقته من الثمالة الملازمة له، كان كلاهما أيضا على علم ووعي بوضعيتها هي الأخرى ك”فتاة شارع” مُنساقةٌ للعمل بتمثيل دورها بلا مشاعر حقيقية تبديها في أثناء مغامراتها العاطفية. يطلب منها أن تفهم أنه كرجل لا يمانع مطلقا من تقبلها كما هي، وليس معنى ذلك أنه شخص مختلف ولا يبالي، بل معناه أنه يصدق الواقع ببساطة، ويتقبله بموازاة حكمها واختيارها الشخصي في تحديد ما تعتبره مناسبا لأسلوب عيشها في حياتها الخاصة التي تراها، كما تدعوها، جميلة في كل أحوالها، رغم ما يشوبها من حوادث وتحديات، تتلقى فيها الضربات وتتقاذفها الجبهات والأمواج التي تلطمها بالصفع والركل والرفس والشتم، والابتزاز المعنوي، والأذى النفسي، ونهش لحمها الحيّ، والتعنيف المدمي للخد ولمقلة العين؛ مما عمّق أزمتها النفسية وضاعف من إحساسها بالتذمر والمعاناة، وأفقدها كل شعور بالراحة والسعادة واللذة الحقيقية، إلى مستوىً تحولت فيه إلى مجرد آلة تشتغل على نحو نمطي متكرر يعيد دورته كل يوم.
شخصيتا الفيلم الرئيسيتان وأسلوبهما في التمثيل:
1)- كيج في دور”بِينْ”
قبل الحديث عن أسلوب نيكولاس كيج في أدائه لدور “بين” في فيلم “مغادرة لاس فيغاس”، جدير بالإشارة والإضافة إلى هذا الأخير، بوجود أفلام أخرى ناجحة برهن فيها كيج على براعته الفنية في التمثيل وحسن الأداء لأدوار شخصياته فيها، فبصمت تاريخه الإبداعي المشرق كممثل ومخرج ومنتج في آن؛ ومن ثمّ، مساهمتها بشكل مطرد في صنع نجوميته السينمائية اللامعة على نحو من الأنحاء في مستويات عدة وبدرجات مختلفة ومتباينة.. وعسى أن يغدو أفضلها هذه النماذج المُقدّمة على سبيل الذكر لا الحصر: بيردي (1984)، تربية أريزونا (1987)، قلب متوحش (1990)، الصخرة (1996)، طائرة المساجين (1997)، المواجهة (1997)، إخراج الموتى (1997)، الاقتباس (2002)، إله الحرب (2005)، كيك- آس (2010)، موت الضوء (2014)، عداء (2015).
بينما يوضّح أسلوب “كيج” الناجح في تقديمه المتقن للحياة الداخلية لشخصية “بين”، تفوقه في توظيف منهج المحاكاة الطبيعية في الفن، المنبثقة من نظرية أرسطو المعرفية والجمالية في هذا المجال، والتي تتماشى بشكل متطور متناسق ومتناغم مع ما سبق أن نَظَّر له بعده، المؤلف والمخرج والناقد المسرحي الروسي “كوستانتين ستانيسلافسكي” ودافع عنه في مختلف كتاباته النظرية والنقدية، حتى عُرِفَ أكثر من غيره بما اسماه بتيار “الواقعية السيكولوجية” التي ابتدعها في فن التمثيل، وتفترض على المبدع، من حيث المبدأ، أن يسكب شخصيته كاملة، مشاعره وأفكاره، وانفعالاته، في الذات المُمَثّلة، ويتخذها طريقا ومطيّة كي يحقق اندماجا مثاليا مع الدور، لجذب المتفرج وإحداث التأثير الجماهيري؛ ويمثل، في ظني، “نيكولاس كيج” أفضل نموذج تمثيلي لها، بالإضافة إلى انطباق أسلوبه مع التطبيق العملي لفكرة ومنهج “الصدق الفنّي” في العملية التمثيلية، كما تعكس ذلك أفلامه العديدة، ويقدم دوره لبطولة فيلم (مغادرة لاس فيغاس) خير مثال لتجسيدها الحيّ والحقيقي، على نحو بالغ الدقة، الذي لولاه ما استطاع أداؤه الوصول إلى الجمهور، حيث بلغ حلوله في الشخصية واندماجه مع عالمها النفسي وسلوكها الخارجي، ذروة في التحقق الذاتي بالنسبة إليه كممثل، ما يؤكد مدى استغلاله لخبرته الفنية المتراكمة وعثوره على الصورة الطموحة والمأمولة المحددة والمشكلة للملامح العريضة لهويته كممثل فنان.
أمّا الشاهد المؤكد لتصوّر أسلوب كيج، ورغبته الفعلية في الاندماج مع أدواره عموما، ومع دوره في الفيلم موضوع حديثا هنا بدرجة خاصة، فهو المتجلي في اعترافه شخصيا في حوار معه، بأنه «كان يتناول الكثير من الكحول بين المشاهد أثناء التصوير من أجل الدخول في حالة من انعدام الوعي بعض الشيء، ليأتي تقمّص الشخصية المدمنة كحوليا على نحو بالغ الصدق والدقة كي تصل إلى الجمهور»[1].
هكذا منح ل”نيكولاس” أداؤه لدور “بين” هنا، فرصة ذهبية، لم يدعها تضيع بين يديه بسهولة، بل اقتنصها وفجّر فيها موهبته الإبداعية الفذة والدقيقة، فصنعت مجده وشهرته ونجاحه المتصاعد، لاسيما أنه أبان فيه عن نُضج متفرّد وطاقة فنية واعدة وراسخة، كاشفة عن قدرات تمثيلية أصيلة واستثنائية، وتميّزه في الانتقال السلس والمرن، بلا عوائق، من شخصية إلى أخرى، وتقديمها في حلة بهية تتوخى التجديد والخلق والابتكار في عالم فن التمثيل، بأداء ممتع ومبهج، ومهارة خلاّقة، ومهارة نجيبة وآسرة.
وبحكم هذه الدواعي وغيرها، لم يعد بالإمكان استغراب وَسْمِ مخرج الفيم “مايك فيغيس” لكيج بلقب «الفنان العبقري»، كما ليس من الغريب أيضا أن نسمع من صديقه الأعز الحميم الكوميدي الأمريكي الساخر “جيم كاري” وصفا وجّهه إليه، حين قال عنه في دعابة: «بيكاسو السينما»، كذلك ليس من العجيب أن تلتصق به أيضا ألقابٌ أخرى من قبيل «الفنان الشاعر» الذي أطلقه عليه بإعجاب المخرج “مون ستريك”، فضلا عن نعت شخصيته «بالمُدهش دائما حتى وهو طفل صغير» كما قال عنه بمودة ذات يوم المخرج “فرانسيس كوبولا”.
هكذا، سيكتشف القارئ العزيز بأن الممثل صاحب الملامح الإيطالية، المنتمي من حيث الأصل والجذور إلى كل من ألمانيا وبولندا، يستحق بجدارة تلك الألقاب وغيرها، دون قَطْعِكَ النّظر عن براعته كشخصية سينمائية مُلهمة، أحسنت وأتقنت أداء أدوارها التمثيلية، الحديثة والمعاصرة، بجودة وإحكام، والضبط الجيّد لها، وتقديمها في أساليب متنوعة، متباينة التأثير والفاعلية، صعبة ومركبة، معقدة محزنة تارة، ومليئة بالفتنة والظرف والحركة والنشاط والقوّة تارة أخرى. شخصيات مختلفة ومبتكرة، يقدم كل واحدة منها بأسلوبه الخاص الذي لا يُذكر المتلقي على الإطلاق، بأي واحدة سابقة مماثلة لها؛ وهذا ما طبع تجربة نيكولاس كيج، بوصفه ممثلا مبدعا أصيلا، لا يكرر وجوهه المتعددة بصيغة المفرد، وفنّانا يتسامى عن السقوط في فخّ النمطية والاجترار، إلا لكي يرتقي بذاته للغوص عميقا في خبايا نفسه، بحثا عن طريف يلاقي به استحسانا يُرضي طموحه، عندما يصنع منه ملامح مُركّبة تُعرّف بشخصية محتملة جديدة، لا شك سيضيفها إلى مختبره حيث يُجري عمليات تناسخ حقيقي معها، ويحوّلها إلى حالة عجيبة ونادرة، في سياق تحوّلاته الكبرى كممثل استثنائي بارز بين آخرين قَلّ نظيرهم في عالم سينما اليوم.
2)- إليزابيث شو في دور “سارا”:
في مقابل كيدج، تبدو الممثلة (إليزابيث شو) ماضية في تقديمها لشخصية “سارا” عكس أسلوب نيكولاس في التمثيل، إذ نلفيها غير ضائعة تماما في نفسية “سارا” وعالمها الداخلي، ويفصح أداؤها عن مجموعة من الإشارات الملتقطة والعلامات المرسلة والمبثوثة في المشاهد، عمّا يفيد اغترابها عن الشخصية ومراقبتها وأخذها مسافة منها، وبإيعاز منها تطرح تساؤلات، وتقوم باستعادة بعض الأحداث ومراجعة ما تخللها من مواقف توشك على الضياع، وتحاول فهم ما يجري ويحصل فيها، وهو ما ولّد لديها وعيا بنفسها وإيجاد تفسيرات محتملة لفهم حالة “بين” وحالة وقوعها معه في علاقة حبّ. هذه الآلية في تقديم الممثلة لدو “سارا” مكّنت الشخصية الأخيرة من إدراك شيء ما زال حيا في أعماقها الداخلية، يشعرها بأن ثمة ضوء أمل يلوح في الأفق الدامس، قد يفتح لها فرصة جديدة في الحياة والعيش الإيجابي لها، قصد إنقاذ ما يمكن إنقاذه ضمن أشياء مختلفة كثيرة ميتة عندها وضائعة منها.
ولعل أقرب أسلوب موصول بهذه الشخصية، هو ما يسميه المسرحي الألماني “برتولد بريخت” ب “الواقعية النقدية” التي صاغها ضمن مشروع نظريته الملحمية والثورية والتعليمية والجدلية في الفن المسرحي، كمنهج وأسلوب وأداة تؤدي بالممثل إلى تحقيق اغترابه وابتعاده عن ذاتية الشخصية التمثيلية ويكون في مسافة كافيه معها، دون الانسكاب الكلي فيها، ما يفسح مجالها لطرح التساؤل حول واقعها في إطار محاولة فهمه قصد تجاوزه؛ وتهدف هذه الطريقة في التمثيل إلى إحداث أثر التغريب لدى الممثل، ثم لينتقل منه، بوصفه أداة مؤدية إليه، ليصيب الجمهور/ المتلقي، الذي يستهدف عقله وليس نفسيته، بذات التأثير، وتوليد الإدهاش في ذهنه واستثارة مشاعره وأفكاره وأسئلته، التي يُتوقع منها أن تجيء تحليلية ونقدية، مِمّا يدفع به، وفق هذا الأسلوب، إلى تنمية وعيه وإعطائه كفاءته الذاتية للحكم على الواقع واتخاذ موقف منه.. وإذا كان الأسلوب الأول يكبح جماح الذاكرة ويحرر رغبات النفس، فإن الثاني يهذب ميول النفس ويحيي الذاكرة ويحرر العقل من لجامله.
قياساً على ما تقدم، يمكننا القول، أنه إذا كان المنهج المستخدم عند كيج في تقديمه للشخصية في الفيلم، موجها من خلفية فلسفية فكرية وجمالية، من خلال اتكائه على تقنية “الواقعية السيكولوجية” كأسلوب، يسعى إلى تنويم شخصية “بين” وتخديرها والاندماج معها، وتستدعي من المتلقي في الوقت نفسه أن يتفاعل معها كذلك، ثم يقع ضحية تحت تأثير تخديرها وتنويمها المغناطيسي له، كما حدث مع “بين”؛ فإن “سارا” كانت بتقنية “الواقعية النقدية” التي أوكل إليها المخرج أمرها، بمثابة الدواء لحالة “بين” المرضية، فدورها هنا هو إيقاظ الوعي وليس تنويمه، نقد الواقع والانسلاخ منه قدر الإمكان وليس الضياع فيه والتماهي معه.. وقد كان فعل شرب الكحول هنا وإدمان “بين” عليها هو واقعه المحبب الأثير، لكنه واقع مرير في عيون “الآخرين” الذين يرون فيه ما لم يستطع رؤيته عن نفسه؛ أما بالنسبة ل”سارا” فقد كان واقعها مؤلما لكنها سعت إلى مقاومته والتكيف معه بمجرد ظهور “بين” في حياتها، متسلحة باحتمال أن يفتح لها بارقة تفاؤل، تمنح لوجودها معنى في الحاضر المعاش، تطلعا إلى مستقبل أفضل ومأمول.
خاتمة الفيلم ومغزاه:
جاءت خاتمةُ البطلِ جوابا عَمليًّا، يذكّرني بسؤال سبق ل”سَارَا” أن وضعته فوق طاولة عشاءٍ جمعهما في لقائهما الأوّل: «لماذا تثمل؟» أجابها بحسم في ردّ بطيء نسبيا، بعد دهشة وتردد: «بأنه لا يتذكر، وما يعرفه هو أنه يريد ذلك فقط، والشراب بالنسبة إليه مجرد طريقة يريد أن يتخلص بها عن نفسه، أو الرغبة في قتل نفسه بالأحرى هي الطريقة الوحيدة التي دفعته ليشرب». وبالطبع فقد قتلته الشراهة الكحولية فيما كان مستلقيا على سريره بين أحضان حبيبته، فمات وغادر العالم في مشهد درامي، وفي لحظة اختلاج شهقة عاطفية مشحونة بالحب والحزن والدمع والحسرة البالغة، على فقدانه.
يَهْجسُ مغزى الفيلم بمعانٍ ودلالات، منها: أنَّ «الإتيان بالمشكلة ليس بديلا لحل مشكلة سابقة» وأنَّ «الإدمان عِلَّةٌ يعسر الخلاص منها»، وما مؤداه: «طريقة تفكيرك، توّجه سلوكك، وتحددّ مصيرك»، و«الحُبّ دواء، يُسَكّنُ الآلام، ويغيّر للأفضل» لكن «التغيير وليد رغبة ذاتية».
إلى هذا المدى نخلص في النهاية إلى القول، أخيرا، بأن “نيكولاس كيج” استطاع في الواقع بفضل موهبته الاِستثنائية، أن يبرهن بجدارة في هذا الفيلم عن علو كعبه مبدعا متحقّقًا، فذًّا، جذّابًا، خلاّقًا ومتألقًا، من خلال أدائه الاحترافي البارع الذي سخره في أبهى تفتّح وعيه بذاته كممثل مُلهم، اختبر قدرته على التحوّل المتناغم المُركّب والفريد مع أدواره، وأبان في ذلك عن واحدة من أسمى حالاته التمثيلية المبهجة والمؤثرة، قدم فيها شخصية “بِينْ” الغريبة، والمسالمة، الصعبة والغامضة على نحو متشابك ومعقد، إلى درجة يحس معها المتلقي أنه أمام صورة حقيقية تعرض واقعا مطابقا لأَصْل شخصية مريضة روحيا، تعيش بعيدة عن محيطها، لكنها قريبة جدا من ذاتها المُنهارة والمتلاشية، حد الذوبان فيها، فسقطت نتيجةً لذلك، فريسة لصراعها المرير مع مأساتها القاسية وأزمتها النفسية المُدمّرة.
[1] – بمناسبة عيده ميلاده ال 50: أفضل أفلام نيكولاس كيج، عنوان مقال أعدّه ونشره: محمد هاشم عبد السلام، في جريدة (24)، بتاريخ: الثلاثاء: 06 يناير 2015.
التعليقات مغلقة.