عزالدين بوركة
(شاعر وباحث جمالي مغربي)
- الصورة والواقع:
قد تكون الصورة في اعتباراتها الأولية تحضر بصفتها محاكاة للواقع ونقلاً له (كما هو عليه!)، إلا إنه وحديثاً عن التلفزيون، يصعب علينا أن نظل نتناقل عن هذا التعريف، إذ يعتبر بودريار كون الصورة في التلفاز ليست ذات أصل محدد، فهي لا تنقل الواقع بقدر ما هي تصنع واقعاً مزيفاً، إنها بهذا ليست محاكاة بل توهيم لواقع. بل قد تصير واقعاً أكثر واقعية من الواقع عنيه، فهي تصنع واقعا جديدا موازيا، واقعا يأخذنا عن الواقع الأصلي إليه، ما يجعل بالتالي “التليفزيون يفتح العالم”، أو كما يعبّر عن ذلك ريجيس دوبري بقوله “التليفزيون يوازي العالم”[1]. أو كما يخبرنا “جون كزانوف”، أن الوظيفة الأساسية للتلفاز، تكمن في تحويل الواقع إلى استعراض استجابة لحاجات الإنسان ولمواجهة ظرفه الإنساني[2]. ولشرح عملية الاستعراض la spectacularisation يلجأ “جون كزانوف” إلى إحداث التماثل مع أسطورة الكهف. فيصبح الإنسان المشاهد مشابهاً لأشخاص أفلاطون المقيدين في كهفهم، الذي يدعو كل شيء فيه للخلط بين الحقيقة والوهم.
فيتساءل كزانوف: أليس المشاهد الجالس أمام جهاز استقبال الصورة والصوت في وضع متماثل لمتلقي الأسطورة؟ لأنه لا يرى الأشياء والأشخاص الحقيقيين، بل يرى عرضاً، والذي رغم أنه ليس بالضرورة أبيض وأسود كالأشباح فوق جدار الكهف، إلا أنه ليس سوى ذلك الذي يمثله. حقيقة لسنا مثل المساجين الذين يتحدث عنهم سقراط، المحكوم عليهم بعدم رؤية سوى هذا اللعب بالأضواء، أو لنقل أطياف العالم الملموس. نحن ندرك جيدا، أننا في جلوسنا أمام الشاشة الصغيرة نرى الأشخاص، والحيوانات، والأشياء، والمشاهد والأحداث التي ليست كلها حقيقية بمعنى من المعاني. لكن، إذا كانت هذه الصور تمثل الخيال، أو الواقع، أي إنها عبارة عن استعراض صُنِعَ من أجلنا، أو عبارة فترة من الأحداث التي التقطتها الكاميرا… فإن المشكل في النهاية هو ذاته طالما أنه في كل الأحوال يقدم لنا نسخة تطابق، بهذا القدر أو ذاك، الأصل[3].
بَيْن كوْنِ التلفاز “عالما موازيا” أو “نقلا لنسخ تكاد تطابق الأصل” أو أشباح أفلاطون، التي ليست كاملة التشويه؛ وبين الاستعراض والمحاكاة، وبين التنقل من الكهف إلى الصندوق العجيب، الشاشة الصغيرة. فإن التلفاز يفتح الحدود ويكسّرها ويزيلها، إنك في إحدى الدول العربية تستطيع أن تشاهد الرئيس الأمريكي وهو يلقي خطابه بشكل مباشر، أو تنتقل من بلاد إلى أخرى، ومن لغة إلى أخرى، من ثقافة إلى أخرى، من الجبال إلى الصحاري، ومنها إلى القطب الشمالي… قافزا على الحدود بفعل عملية “النقر” على أزرار جهاز التحكم، إذ يقدم التلفاز إليك “وهمَ القرية الصغيرة”، وهم أننا نعيش الواقع نفسه. لكن “الإيهام بالواقع” على شاشة التلفزيون هو “خادع” لأنه غير مبرر سببياً. فأمام هذه الصور المباشرة في الزمن، أعيش أنا المشاهد في الجهة الأخرى من الشاشة، أي في الواقع المسجل[4].
- الواقع عن بعد:

فمع هذا الزخم الكبير والتنافسية بين وسائل الإعلام، ومحاولة بما استطاعت لجلب العدد الكبير من المشاهدين، سعت قنوات إعلامية كبرى لخلق نوع جديد من “الفرجة” تعتمد على “الواقع” باعتباره “حقيقة” لشد المتلقي إلى تلك البرامج التي سيتم الاصطلاح عليها بـ”تلفزيون الواقع” téléréalité، حيث يتم نقل الواقع بشخوصه إلى كل منزل. حيث يغيب في هذه البرامج النجوم الاعتياديون، نجوم السينما أو التلفزيون الذين ألِفَهُم الناس. يغيبون ليفسحوا المجال لشخصيات جديدة، لأبطال جدد، أبطال من الواقع، غير احترافيين، أبطال مجهولون، أبطالُ اللحظة، عابرون بهذا المعنى. إذ يتماهى الواقع مع محاكاته، فيغيب الأصل في النسخة وتصير النسخة هي الأصل، ولا نعد نستطيع التفرقة بينهما.
بالتالي ليس، كما يبدو، من السهل اليوم تقديم تعريف دقيق لما نعنيه بـ”تلفزيون الواقع”، إنه الواقع عن بعد كما يحيل المصطلح باللغة الفرنسية téléréalité، إذن هناك شيء بعيد (télé) يتم بثه على شاشة التلفزيون، إنه الواقع réalité!! سيتعرف مشاهد التلفزيون على برامج “تلفزيون الواقع” مع دخول القرن الألفية الجديدة، إذ ستعمد بعض القنوات الفضائية إلى بث برامج “واقعية”، ستعرف نجاحا ملحوظا وسط المتتبعين، من نوع “الأخ الأكبر big brother” وستار أكاديمي وجزيرة الغواية temptation islands و loft store وغيرها.. إذ سيصبح فيها وعبرها المتفرج فاعلا وبطلا، ناقلة إياه إلى عالم الشهرة، كما هو الحال مع مجموعة من النجوم أمثال كيم كارديشن وغيرها. وبالتالي استعراض نجوم قادمين من الحياة العادية، نجوم لم يتم صنعهم في هوليود أو في الأستوديوهات العالمية، وبالتالي يقدم التلفزيون شحنة من الانفعالات التي تتغير مع كل لحطة، ويصير المشاهد والممثل (الواقعي) جزءا من السلعة الاستهلاكية النفسية الوحيدة، حيث يشعر المشاهد بالنشوة وهو يرى أناسا عاديين (أمثاله) وقد صاروا نجوما في لحظة. غير مكترثين بما يتم عرضه، فكل ما تقدمه كارديشن هو جسدها، وكل ما يقدمه آخرون هو حياتهم التي تشبه حيوات المشاهدين، حياة بسيطة (وإن يتم كتابتها ضمن سيناريو قد يكون معداً سابقاً أو خاضعاً لمقص المونتاج). فإلى جانب “فيض اللحم” الذي تعرضه كاردشيان أو عرض تفاصيل الحياة المملة التي يعرضها البعض الآخر، فقد الإنسان معنى الحميمية، إذ بدأ ينظر إلى الحياة الحميمية التي نعيشها، بفعل عرضها على التلفاز، أنها مبتذلة وعادية ولا علاقة لها تذكر مع الخصوصية.
تعتمد هذه البرامج إذن، في غالبيتها على العيش داخل مجموعة، وخلق أجواء من التنافسية والتفاعلية، أو المرور بمراحل معينة من التجارب والامتحانات للظفر بالجوائز المالية أو الشهرة والنجومية. أو تعمد إلى تسليط الضوء على مجموعة من الناس يعيشون داخل تنظيم معين في بيئة معينة، قد تكون في الغالب مغلقة، ونقل تفاعلاتهم وأحداثهم ونزاعاتهم وخلافاتهم وأفكارهم، باعتماد نظام التلصص والتجسس والمراقبة طيلة فترات البرنامج ليلا نهارا، وهنا مربط الفرس حيث تختفي الحميمية وتنعدم، فيُسقط هذا النوع من البرامج آثاره وتأثيراته على الحياة الواقعية.

- وهم الواقع:
توهم برامج الواقع المتفرجين (ما وراء الشاشة) على وجود عفوية وعدم تصنع أو أي تمثيل وتشخيص من لدن الفاعلين (الأبطال) الرئيسيين داخل البرنامج وهم يقومون بأدوارهم بشكل “طبيعي”، كما بعدم وجود سيناريو جاهز ومكتوب مسبقاً، إلا أنه يصعب الجزم في ذلك، وذلك ما دمنا نتحدث عن وجود أشخاص خلف الكاميرا، يتحكمون بالإضاءة والصوت والحركة والماكياج والمونتاج. هذا الأخير الذي يعتمد بالضرورة على تقنية السرد، أي على التخييل والخيال. فبغياب السرد نلج مجال الفوضى حيث يصير كل شيء مبعثرا بلا معنى، وهذا ما يرفضه التلفاز تماما… في تلفزيون الواقع نتحدث عن “حقيقة مدونة” réalité scénarisé والتي تتدرج على طول حلقات برنامج معين. فبرامج الواقع تعتمد على البحث عن معنى متجدد مع كل حلقة، معنى يشد ويجذب المشاهدين… فالأمر شبيه بالأفلام الوثائقية، التي لا تكاد تكون واقعية مهما بدت كذلك، في ظل وجود مؤثرات صوتية ومونتاج وسارد يحكي القصة، وهو الأمر الذي يستحيل وينعدم في الواقع. إلا أنه هنالك فرق كبير بين الأول الثاني، إذ تعتمد الأفلام الوثائقية على خلق ثقافة جماهرية شأنها شأن السينما، بينما تلفزيون الواقع فلا يكترث سوى باستهداف عواطف الشباب والمراهقين، أي يلعب على وثر الاستهلاك وإثارة الرغبات والأحاسيس، والبحث عن تحريك البعد الغرائزي. فبرنامج ستار أكاديمي نموذجاً أو غيره من البرامج الغنائية (التي تعرض الحياة الداخلية للمتنافسين)، يقوم بشكل سنوي، ممتدا لأزيد من شهرين من العروض الأسبوعية على القيام أساساً بتقديم فرصة لأفراد من غير المشاهير، ليحققوا النجاح والشهرة في مجال الغناء. وخاصة فئة المراهقين الذين ما زالوا يشقون طريقهم الصعب، ولم يختبروا الحياة على حقيقتها بعد… إنه يظهر كنموذج حي لتحقيق الطموحات والمستقبل الأفضل بطرق سهلة ومريحة ومربحة لا تعب فيها، كما توفر لهم القدوة أو الشخصيات النموذجية الناجحة (أو التي توهمهم بأنها فعلاً ناجحة) والمفتقدة في واقعهم المعيش. وتعويضهم عما يعانونه من غياب للفرص. كما أنها تعتمد على طرق جديدة وجذابة في إنجازها، كاستعمال التكنولوجيات الحديثة في الديكورات والألوان والملابس والماكياج…إلخ، بشكل متميز ومثير، ما يحمس بشكل قوي كل من المراهقين للمشاركة والجمهور بكل فئاته وأعماره للمشاهدة.
في برامج تلفزيون الواقع لا يكون السيناريو مكتوباً بالشكل الكامل، أي ليس مكتوباً للحفظ والتشخيص، إذ يُترك مجال واسع للعفوية والصدفة. غير أن المشاركين عليهم اتباع مخطط من الأفعال متفق عليها سابقاً من قِبَل المنتج والمخرج. ما يترتب عنه مجموعة من الحلقات تجمع في نسق ما يسمى بـ”سلسلة واقعية” série-réalité.
- استحالة التصنيف
إن مصطلح تلفزيون الواقع لا يمثل تصنيفا قائما بذاته، لكنه يُبرز أنواعا من البرامج الموجودة (لعب، ترفيه، مجلات تلفزيونية… إلخ). فنوع “تلفزيون الواقع” لا وجود له ضمن ما يتناوله النقاد ومؤرخو الأعمال السينمائية والتلفزيونية. بينما يوجد فقط برامج تسمى “تلفزيون الواقع”، برامج تنتمي إلى فئة الترفيه التلفزيوني. فالمخرجون والمنتجون لا يستعملون إلا قليلا هذا المصطلح. لأنه يحمل مجموعة من الاختلاف وعدم الإيضاح ومجموعة من الأصناف الصغرى التي لا تربط بينها سوى كلمة “الواقع”. فهو لا يعتبر إذن تصنيفا محوريا، كما هو الحال مع الفيلم الوثائقي أو السينما وغيرها… بينما يتم الجمع على مجموعة من البرامج المتنوعة داخل هذا التصنيف، وذلك رجوعاً لما تحمله من سمات مشتركة.
- نحو الواقع الافتراضي:
إنّ نجاح برامج تليفزيون الواقع ظل وما يزال رهيناً بالحميمية intimité التي يخلقها بين المتفرج والأشخاص الذين يتم تصويرهم، إذ يشعر المتفرجون بعفوية الفاعلين والممثلين، وهذا أيضا نلمسه بفعل حركة الكاميرات السلسة والتي تعمل عمل فرد داخل المجموعة ما يجعل المشاهد يتوهم أنه هو المتحرك لا الكاميرة. بينما يؤكد البعض على أن تلفاز الواقع يشهد على نهاية حقبة أولى، إذ سينتقل المشاهد إلى مرحلة من البرامج الأكثر حميمية، تضع في الحسبان أكثر قيم المشاركة والتضامن، والفتح المجال للأفلام الوثائقية الواقعية docuréalités. فالمتفرجون يحنون إلى الواقعي والأصلي. ومن جهة أخرى تلفزيون الواقع يشجع على روح الابتكار، إذ تم نقل بعض هذه البرامج إلى عالم الانترنيت، وليس العكس. وتم إحداث برامج خاصة بالأنترنيت، إذ يكفي امتلاك كاميرا وشغف لبثّ مجموعة من الحلقات من “الواقع” على الشبكة العنكبوتية بالشكل المباشر. فهل يمكن تصنيف تلك الفيديوهات (المباشرة وغير المباشرة) على صفحات فايسبوك Facebook ويوتيوب Youtube ضمن خانة برامج الواقع؟ قد يكون ما زال من صعب ذلك من حيث عدم التوافق مع ما استعرضناه آنفا، من حيث السيناريو الواقعي والمونتاج والسرد… الخ، والمتفق عليه سابقا بين المنتج والشخصيات، إلا أنه فعليا –كما يقول الأستاذ الباحث سعيد بنكَراد- قد أقصي الزمن الفعلي من الفضاء العمومي وأودع في مساحات الافتراضي ضمن ما تبيحه الحواسيب واللوحات والهواتف المحمولة.
[1] ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، إفريقيا الشرق، 2007، ص 276.
[2] جون ماري بيام، التلفزيون كما نتحدث عنه، ترجمة نصر الدين لعياضي، منشورات عيون، 1093، ص 86.
[3] Jean Cazeneuve, l’homme téléspectateur, Paris, éd. Denoël, 1972 p. 101-102
[4] ريجيس دوبري، حياة الصور وموتها، ص 283.
التعليقات مغلقة.