فصل من رواية ” آرّيس*”للروائية الجزائرية يمينة مشاكرة

تقديم وترجمة لميس سعيدي/الجزائر

*آرّيس: اسم منطقة تقع في قلب  جبال الأوراس _مهد الثورة الجزائرية 1954-1962_  في الشرق الجزائري.

 

انتظرت الروائية الجزائرية  يمينة مشاكرة (1949-2013) عشرين سنة لتُصدر روايتها الثانية والأخيرة والتي تحمل عنوان “آرّيس” ( صدرت  باللغة الفرنسية سنة 1999). تؤكّد ناشرتها أنّ يمينة كانت تحرص في كلّ مرّة على تشديد حرف الراء ليكون نطق كلمة آرّيس سليما وفقا للغة الأمازيغية؛ آرّيس هذه المنطقة الجبلية في الشرق الجزائري والتي تُعتبر مهد الثورة الجزائرية (1954-1962)، حوّلتها مشاكرة إلى شخصية روائية في روايتيها: “المغارة المتفجِّرة” و “آرّيس”، شخصية الابن مسلوب الهويّة والذي تسكنه لغتّه الأمّ دون أن يكون قادراً على التحدّث بها.

تؤكّد مشاكرة أنّها لم تتوقّف يوماً عن الكتابة، لكن الفوضى التي كانت رفيقة حياتها جعلتها تضيّع الكثير من المخطوطات بما فيها جزء من مخطوط رواية آرّيس، مع ذلك فهي لم تضيّع هذه السنوات الطويلة في خيبات وآلام لا طائل منها؛ انشغلت مشاكرة معظم حياتها بأبحاثها العلمية في مجال الطب العقلي (حصلت على شهادة الدكتوراه من باريس سنة1991) وبالعمل كطبيبة في القرى والمناطق النائية في مختلف أنحاء الجزائر، هذا العمل الذي جعلها تقترب من حقيقة الألم الجسدي والألم النفسي واللذان كانا في كثير من الأحيان مصدر إلهام بالنسبة لتجربتها الروائية: “كيف لا أحب البشر،بعد أن غمست أصابعي في دمائهم،  جمعت أحشاءهم،  تنفست رائحة فمهم الكريهة، التقطت نَفَسهم الأخير؟”

تقول يمينة مشاكرة في أحد حواراتها عن رواية “آرّيس” والتي نقدّم ترجمة إلى اللغة العربية لأحد فصولها: ” آرّيس هو هوس البحث عن الجذور الأولى، عن الثقافة الأوليّة، خارج كلّ دين وكلّ لغة، كما في ميثولوجيا “آراكي”. كلّ الأدب الجزائريّ مصاب بحالات اضطراب ذهني تتعلّق بالهويّة. آرّيس شخصية مقتلعة من جذورها لكنّه أيضاً رمز للعناد الهويّاتي خلال الهجرات الجغرافية، خاصة الداخلية منها داخل النفحات الهذيانية  للبحث عن الذات.”

******

أجد نفسي في قاعة هائلة مخصَّصة للرّاشدين، بحجة أنه لا يوجد مكان شاغر في القاعة المخصَّصة للأطفال المرضى. راشدون يصرخون حين يكتشفون قروح الفراش أسفل الظهر والتي تهيّج الألم. آخرون، بقدم مجبَّسة وساق معلّقة في السماء، يئنون؛ البقية لا يقولون شيئا أو يُصلّون. متهيِّباً، أتظاهر بالنوم. لم أباعد بين جفوني تقريباً طوال النهار. من المفروض أن يعتني بي الطبيب غداً. خلال أربعة أشهر، سأتعافى وسيعيدونني إلى أمي الصغيرة.

أصرخ في صمت” أريد ماما!” مدير المستشفى وعدها أنه سيعيدني إليها حيّاً أو ميتاً. لا أجرؤ على الصراخ عالياً.

أنتظر الليل لأفتح عينيّ أخيراً وأحاول أن أكتشف حضور الآخرين دون أن ينتبهوا لذلك.

أغُطُّ أخيراً في نوم يصْحَبه صراخ كلب. أستيقظ فجأة تحت تأثير مداعبات شخص غريب. يعرّيني برفق، يتمدّد بجانبي. يعانقني ويشرع في مداعبة كل جسدي. يركِّز على العضو الجنسي. متفاجئاً بهذا الشكل الجديد للعلاقة الإنسانية، لا أبدي أية ردّة فعل. المداعبات تصبح ملحَّة أكثر فأكثر. ينتهي بي الأمر للاستسلام لها والشعور أخيراً بنشوة جنسية. الجسد، مجهول الهوية، يغادرني مع طلوع الشمس.

في اليوم التالي، أختلس النظر إلى المُرافقين بحثاً عن عشيقي. أشتبه بكل النفوس الطيّبة التي ساعدتني قبل العملية الجراحية لتلبية حاجياتي الأساسية، كالتغوط، سدّ جوعي…

مع حلول الليل، أنتظر عشيقي. وفيّاً، يأتي. أسلِّمه جسدي. يعرّفه بجسده. يأتي بانتظام في ساعة متأخرة من الليل. لا أحاول التعرّف إلى هويته.

مع ذلك، في إحدى الليالي، احتضنني وصَمَت. بدا الزمن وكأنه يتجسّد. بقيت جامداً، متسمِّرا. لا أمثِّل سوى نقطة تجسِّد الكائن واللانهاية.

يضغط بشفتيه على شفتيّ. أشعر أن جسدي يتحلّل. يعود على مهل إلى تلك القبلة الطويلة فأجد نفسي مستيقظاً، معلَّقا بنَفَس عشيقي.

على مهل، ينفصل عني. يُبلغني، بالكثير من الحنان، بأنني زوجته! كان رَجُلي!

ابتداءً من هذه اللحظة، أدين له بالطاعة؛ كانت أمي تطيع أبي، ككل نساء الدشرة، كما يبدو. هذا طبيعي. ليلة زفافنا بائسة. لا يمارس الحب معي. لكنه، يؤكِّد لي على وفاءه الكبير. يقول: “حان الوقت لنتعرّف إلى بعضنا، زوجتي الصغيرة، أنا رجل متحرّر ولا أبدي أدنى اشمئزاز من أن يمارس أصدقائي الحب مع زوجتي…” يودِّعني على مهل، أنا، الذي تخلّوا عنه على مشارف الخمس سنوات.

في الليلة ذاتها، حملوني على نقّالة إلى سرير عشيقي الجديد. بحّار ينتظر على سرير يفوح برائحة الرنجة. احتضنني وضاجعني بعنف من الدبر. استفرغ على كتفي. بعدها، رمى بساقه الخشبية في مؤخرتي. أبداً، ما كان ليصطحبني معه كبحّار تحت التمرين على متن سفينته! كنت سأسبّب الألم للبحّارة! لا أساوي مؤخِّرة امرأة القاعة، شريكة علاقاته الليلية! يدفعون لها فتغمض عينيها أو تتظاهر بذلك. “لا أريده بعد الآن”، يقول البحّار.

عليّ أن أعبر من جديد ممرّات المستشفى، من خلال دروب شبه سريّة. يُفرغونني في سريري كبضاعة.

أندسّ تحت بطّانيتي وأنتظر النهار. في اليوم التالي، يتظاهر الحارس الليلي، قبل أن يغادر، بتغطيتي بينما يداعبني وهو يغمز لي. يغادر تاركاً لي  ابتسامة حمار عالقة بذاكرتي. في ساعة متأخرة من الصبيحة، أنام أخيراً، مغطّى بابتسامات حمار.

يمرّ باقي النهار، رتيباً، تماماً كالأيام السابقة.

في صمت القاعة تُنسج خيوط بُعد آخر للوجود، بُعد ينقص مجال وعيي، الذي كان لحدّ الآن محافظاً، استنساخاً لما يريده الوعّاظ والديماغوجيون. مرضي لا يوحي للبحّار بالثقة. يخشى أن يُصاب به في جزء ما من أعضائه النبيلة.

” غالباً ما كنت أمارس الحب مع الأسماك، تلك التي كنا نسميها سابقاً، حوريات البحر. فقدتُ ساقي في عرض بحر جزيرة ما، بعد أن نهشتني سمكة متوحشة وعاهرة!”

يكتفي تلك الليلة، بأن يخبرني للمرّة الألف بالدوافع الأولى لحبّه للبحر.

كان يصطاد سمك السردين بسلام؛ منتظراً أن يبلع السمكُ الطُعمَ، كان يحب مشاهدة الخطّ حيث تتداخل السماء والأرض.

في أحد الأيام، وهو ينظر إلى الأفق، شرع في تمزيق ثيابه. الجسد عارياً، ألقى بنفسه في الماء وسبح في كل الاتجاهات.

شرع جسده في الحديث عن الآخرة. نام على الرمل ولم يرجع أبداً إلى البيت. كان يتغذَّى على السمك الذي يصطاده بأسنانه. يذهب إلى الأنهار الصغيرة، ويتصدّى للأسماك بأنيابه المائلة الأطراف. كان يغوص في مياه موحلة أو صافية وينهش كل ما يتحرّك، ليصعد بعدها إلى السطح وفريسته بين أسنانه. بفضل تمارين من هذا النوع، اكتسب بجدارة شهرة بحّار المياه العذبة والتي أكسبته ودّ البحّارة العابرين، الذين انتشلوه من الأرض. القِيَم الأخلاقية متحرّرة عند البحّارة إلى درجة أننا لم نعد نستطيع تحديد الأنساب. هكذا كانت مشيئة الإله البحّار. كل بحّار يحمل اسم جيله.

جيل ساق الخشب كان يُسمى…ساق الخشب! ساق الخشب كان ينتمي إلى جيله. في أحد الأيام، علّق ساق الخشب صنارته بثوب الإله البحّار، فوجد نفسه على وجه الأرض، هنا،  في المستشفى.

لا أملّ من الإنصات إليه وهو يحكي الألف واقعة وواقعة من مغامرته.

لكنّ ساق الخشب، قبل أن يصل إلى المستشفى، عوقِب من طرف الإله البحّار القادر على كل شيء. حُبس لمدة ليلة كاملة، في مستودع السفينة إلى جانب سمك متعفن. التعب والأرق جعلا منها ليلة هلع. في اليوم التالي، رشّه البحّارة بالماء الساخن، لم يستسغ الأمر، ثم رفعوه بصعوبة إلى ظهر المركب، حيث قدّموا له فنجان قهوة وشريحة من سمك القُدّ المملّح، وهذا أيضا لم يستسغه.

الآن وأنا أتذكّر هذا الماضي العفن، أتساءل كيف ولماذا انتهى بي المطاف في هذه المستشفى. يشغل بالي أن أعود إليها وأن أفهم من أين أتيت. أمي، أريد أمي!

أين وصلت؟ إلى هذا الموقف المتناقض لصيّادي سمك القرش.

أُسِر ساق الخشب من طرف القراصنة. رست سفينتهم عند شاطئ قاحل وهناك بِيع كل غرام من ساق الخشب. التجّار قاموا بجَرْد كل إمكانياته العقلية والبدنية.

منظومة قيمه كانت خاطئة. كانت تنتمي إلى مرحلة بدائية، مقارنة بمنظومة القيم التي وضعها التجّار. قالوا: “هو بالأحرى جسد”، واشتروه بأبخس ثمن، ليتنازلوا عنه فيما بعد للمستشفى بثمن أفضل.

يجهل أن المستشفى ستبيع  أعضاءه بثمن باهظ جداً.

أخلدُ للنوم، تاركاً ساق الخشب يحكي لنفسه قصة حياته، قصة البحّار المخلوع.

غريب هو مصيري. كان عليّ أن أبلغ خمس سنوات لأنتقل إلى قاعة أخرى. من قاعة الرّاشدين، أجد نفسي في قاعة الأطفال. لم أعد بريئاً: رجل داعب جسدي وساق الخشب ضاجعني من الدُبر. أحتفظ سرّاً بوجعي. أطفال يصرخون تحت صدرية الجبس، آخرون لا يقولون شيئاً أو يحلمون بعينين مفتوحتين. عائلاتهم تعتني بهم جيّداً. آباؤهم يجلبون لهم الحلويات، وجبات يحبّونها، يشجِّعونهم. وأنا، أنا وسط كل هذا؟ لا أب، لا أم، لا أخ، لا أخت. أصبحت الغريب.

التعليقات مغلقة.