غيورغ تراكلْ، شاعر الصّمت الذي صرخ انتحارًا في وجه الحرب
أشرف القرقني – تونس
يقول الشّاعر الأمريكيّ دجايمسرايت: “إنّ قصائدَ تراكل لا تُقرأ وإنّما تكتشفُ. إنّها ليست أشياء قد تمّ بناؤها بل أمكنةٌ هادئةٌ عند حافّة غابة مظلمة، حيث ينبغي على الواحدِ منّا أن يجلس هناك طويلاً ويصغي بعناية شديدة. بعد أن يُستنفدَ صبركَ ويبدو لكَ ألاّ شيء في قصيدة تراكل سيهبك معنى مّا، تخرج فجأة كلّ الصّور والأصوات من بين أغصان الأشجار والبِركِ والمروج والطّرق الخالية وتقتحمُك إلى آخرك”.
تبدو أمكنة السّكون تلك قاطنةً في مركز كلّ قصيدة كتبها غيورغ تراكل في حياته الوجيزة والمكثّفة.
وما يبدو لافتاً في هذه الكتابة حسب دارسي تْراكل أنّه رغم العناية الفائقة التي يبدو أنّ الشّاعر قد شكّل بها قصائده فإنّها تبدو خالية من أيّ قانون في البناء الفنّيّ سواء كان تقليديّاً أم حديثاً، كما لو أنّه كان ينتظر بدوره في مكان مّا بعيد حتّى تفصح نصوصه عن نواميسها الطّبيعيّة بمفردها.
“إنّ ورقة قيقب حمراء وحيدة في قصيدة لتراكل هي شيء رائعٌ وثريّ إلى ما لا نهاية، فقط لأنّه كان يملكُ الصّبر الكافي للنّظر إليها والشّجاعة الكافية لمقاومة أيّ إلهاء عنها”. (دجايمسرايت)
ويستخدم هذا الشّاعر استعارات الصّمت ليصف حالات أربعة اعتبرت محاور رئيسة في تجربته الشّعريّة وهي براءة الطّفولة والوضع المقدّس المنفصل لمن لم يولد بعدُ ووضع الرّجال السّاقطين والصّمت الذي يصاحبُ الميّت. يهب غيورغ الذين لم يولدوا بعدُ طابع القداسة لأنّ تلك القداسة قد انسحبت ممّا يؤلّهه الجميع وكان قد استأثر على قلب الشّاعر إذْ كان طفلاً. الآن يرى الشّاعر الأشياء على نحوه الخاصّ ولا يرى مقدّساً إلاّ ما لم يخلق بعدُ. يسقط الرّجال في معارك دامية تحرّكها علل الإنسان المعاصر ويقترن موتهم بصمتٍ ثقيل.
قارئ غيورغ تراكل مدعوّ إلى نفس المشقّة واللّذّة اللّذان أقام فيهما الشّاعر وكتب في أعماقهما قصائده: عليه أن يتعلّم أن يفتح عينيه، أن يصغي جيّداً، أن يكون هادئاً جدّاً وأن ينتظر في صبرٍ الأجسادَ الدّاخليّة للأشياء إذْ تطفو وتتجلّى والأصوات الجوّانيّةَ إذْ تهمسُ له. إنّه الشّاعر الذي يريد شريكاً في المغامرة لا قارئاً متقاعساً متلبّداً. إنّها روح فنّان متّقدة تغمز لمثيلاتها وتسألهم أن يخرجوا من صمتهم صارخين ضدّ أشكال التّوحّش جميعها في عصرنا المعتم.
في البندقيّة
صمتٌ في الغرفة المستأجرة.
الشّمعدانُ يموّجُ نوراً فضّيّاً
أمام النّفَس المدندن
للرّجل الوحيد.
سحابةٌ زهريّة فاتنة.
أسرابُ ذبابٍ سوداءَ
تُعتِمُ المكان الحجريّ
ورأس الرّجل الذي لا يملكُ بيتا
خَدِرٌ من احتضار
اليوم الذّهبيّ.
البحرُ الهامدُ يظلمُ أكثر.
نجمة وسفرٌ أسودُ اختفيا في القنال.
أيّها الطّفل، ابتسامتك الواهنةُ
لحِقتني ساكنةً داخل نومي.
قلبي في المساء
باتّجاه المساء تسمعُ بكاء الخفافيش.
حصانان أسودان مقيّدان في المرج
القيقبُ الأحمر تحفُّ أوراقهُ
الماشي على طول الطّريق يرى أمامهُ الحانة الصّغيرة.
الجوزُ والخمرُ الفتيّ مذاقهما لذيذٌ
لذيذٌ: أن تترنّح ثملا باتّجاه الغابة المُعتِمة.
أجراسُ القريةِ-مؤلمٌ سماعُها-تصْدى خللَ أغصان
التنوب السّوداء
النّدى يتشكّلُ على الوجه.
غرودك
عند المساء، غاباتُ الخريف مليئة بأصوات
أسلحة الموت. الحقول الذّهبيّة
والبحيرات الزّرقاءُ، من فوقها تنزلق الشّمس المُعْتِمةُ
إلى أسفل. يحتشدُ اللّيل في
المجنّدين المحتضرين. تبكي الحيوانات
بأفواهها المتفجّرة.
بينما تتجمّع سحابةٌ حمراءُ -حيث ربٌّ غاضبٌ، الدّمُ المُراقُ نفسه،
يجدُ بيته- في هدوء تهبطُ برودة القمر في شجر الصّفصاف
كلّ الطّرق تؤدّي إلى القالب الأسود.
تحت الأغصان الذّهبيّة للّيل والنّجوم،
ينحلّ طيف الأخت خلَلَ البستان المتقلّص
ليلقي التّحيّة على أشباح الأبطال والرّؤوس النّازفة.
ومن القصب يرتفع صوتُ مزامير الخريف المظلمة.
يا حداداً فخوراً. أيّتها المذابح البرونزيّة،
شعلةُ الرّوح الحاميةُ قد أُطعمت اليومَ
ألمًا أكثر توحّشاً
الأحفاد الذين لم يولدوا بعد.
التعليقات مغلقة.