واجهة زجاجية للأمس- أكرم قطريب

أكرم قطريب – نيوجرسي

 

ثلج مدينة قطنا

 

ساعة أو ساعتان كل ما أحتاجه من الوقت كي أجلس ثم أحمل سماعة الهاتف وأهذي مع أخوتي البعيدين , وبعض أصدقائي وهنا لا شيء بإمكانك تخيله , تغمض عينيك كي تتذكر كل الخطوط ومفارق الطرق البعيدة , صوت أبي لم يعد كما كان : شجرة ضخمة شاحبة يحط عليها طائر أسود , وفم لا يكاد ينطق . أبي الذي لم أعد أسمع صوته , اختفى وبقيت صوره القديمة وشرايين يديه البارزة , يقف وسط البيت صارخاً مثل ظل أو ضباب مستور وراء حجارة البراري . لم أفهمه في حياتي , فقط عندما كبرت عرفت سبب غضبه وهو يرفع سترته نحو السماء واصفاً لي شكل الرياضيات بلغة بورخيسية وأن الحديد بإمكانه أن يذوب بين يديه , وأنه كان يغتسل ويستحم بثلج مدينة” قطنا ” أيام الشباب , ولا أعرف شيئاَ عما يقوله ولا مقدور لي غير أن أصغي ثم أهرب إلى الحمّام كي أبكي . كان الحمّام محرابي الصغير . هناك كنت أحلم وأدخن وأطير في البراري  مع عصافير لونها غريب . عصافير اصطادناها ولا زغب على لحمها الأزرق . أبي الذي أحمله معي هنا في نيوجرسي , مازال صديقي إلى الآن ,  صداقة متأخرة مع الملاك الشاحب الوجه و الذي منحني اسم أكرم الحوراني .

من نيوجرسي أسأل عنه أمي , أسأل عنه هذا الذي لم يحتمل أن يرى كل شيء يحترق أمام عينيه ولا يستطيع فعل شيء . هذا الرجل المولع بالمشي  والذي إذا رأيته آتياً من بعيد أقفز من فوق الجسر كيلا يراني أتسكع في الشوارع , سقط في البيت , سقط كما هو نحو أعماق الأرض , وفقد النطق. الذي كان ينذرني بأوخم العواقب حين يراني شارداً مثل مومياء. سقط مثل نافذة البيت التي يأتي منها هواء الصحراء . سقط قلبي أيضاً لأن أشجاراً كثيرة احترقت فيه .لا نكهة للحياة بعد اليوم وصرت أؤمن بالأشباح وأرسمها على ورق مقوى . أريد أن أنحت ضحكته الآن . ودموعه التي لم أرها في حياتي . أب لايبكي . يا إلهي أب لا يبكي . لم أعد أسمعه , فقط اسمع ذلك الحنان واضطراب اللسان وقلة  الحيلة , أبواب بأكملها صارت موصدة أمامه ولم يبق سوى الشلل الدماغي و الصوت الذي يتهدم على مهل .أسأل عنه أمي , وأمي شاردة مثل من ينتظر القطار في صحراء , شمس قوية لا تحب الفراق , تشرح لي أن المدينة بلا كهرباء , لكن ضحكته تضيء البيت .

****

سكايب

 

انهمكنا في الحديث أنا وأخي عبر سكايب . هنا ليس من السهل تذكر حماقات طفولتنا وتدبر أمر الحياة تلك الأيام التي كانت تشبه الجنازة المفتوحة ونحن غرقى على أطرافها. غرقى دون أن يكون هنالك بحر مدسوس في الخريطة

فقط بيت وحديقة خلفية كان الأب يزرعها كل صيف بالباذنجان والنعناع وأشجارالعنب و البيت بلا أبواب , يدفعني إلى الهرب بسهولة نحو الحارات البعيدة . تغيرنا كثيراً:  شاشة الكمبيوتر لم تستطع أن تخفي الحزن المتطاير ولا حتى قتامة الصوت ولا الوجهين المتقابلين كأنهما الحطام الذي تراه في فيلم . ثم فجأة نتذكر رب المنزل وهو على عجلة من أمره ونضحك .

ونتذكر كيف سافر واحد من أخوتي إلى ليبيا ولم يكن يتجاوز السادسة عشرة من عمره , مجرد حلم على دفة مركب أو جناح طائرة . كان يجب أن يذهب أحدنا إلى مكان ما في العماء . كنا نغرق وعلى أحدنا أن يقفز  نحو المجهول كي

نبقى نحن السبعة أفراد على قيد الحياة و بانتظاره وبانتظار حقائبه المحشوة بالهدايا والساعات والقمصان . ولم أره إلا بعد ثلاثة عشرة عاماً و لماماً , ولم أر ذلك الوجه الذي بقي في رأسي خفياً , فقط الغشاوة وبعض حمامات بيضاء وثيابنا التي كنا نتبادلها , والهواء الذي تنشقناه سوية, والخزانة التي علقنا فيها أعمارنا .

 بقيت الذكريات في قلبي مثل أبقار ميتة في مسلخ.

***

البيت

 

 يستحيل البيت في المسافة التي تفصله عن صاحبه إلى غيمة , أو بقايا أسى في عينين حزينتين , أو نوع من التذكر الآسر لبعض الظلال التي ُتركت على حيطانه والتصدعات والشقوق وحبال الغسيل والأبواب المخلعة , البيت الذي لم أشعر بالراحة فيه يوماً, بقي مثل تعويذة أو بقعة ألتقط فيها أنفاسي و لأبدو سعيداً على غير عادتي كنتُ أسقي الأزهار التي على جوانبه وأرى طيوراً غريبة تمر فوق سطحه ومن هناك سأقفز قفزة بروسلي الشهيرة وأهوي على ركبتيّ محطماً من الألم  , ولن يظهر في الصورة التي التقطها لي أحد أبناء حارتي  بكاميرته الجديدة  سوى جزء من كاحلي وأنتين التلفزيون المائل  . صورة بالأبيض والأسود ستضيع فيما بعد , وسأترك كل شيء هناك وفي جيبي ما يعادل تذكرة سفر إلى دمشق .

    ***

الألم

يا معلمنا الوحيد .

***

التعليقات مغلقة.