” لم تزلْ إسبانيا أتعسَ أمِّ
أرخَت الشعرَ على أكتافها
وعلى أغصانِ زيتونِ المساءِ المدلهمِّ
علّقتْ أسيافها
عازفُ الجيتارِ في الليلِ يطوفُ الطُرُقاتْ
ويغني في الخفاءْ
وبإشعاركَ يا لوركا يلمُّ الصَدَقاتْ
من عيون البؤساءْ ”
خرج من البار العتيق يردد “لوركا-درويش”، لم يعبأ بالريح التي كانت تعوي كقطيع ذئاب مُنفلِتة و لا بِزَخَات ماء الحياة التي كانت تحملها سحاباتٌ ثِقال تُغطي سماء المدينة مُطمئِنَةً العَطاشىَ فتَقرعُ أرض الشارع كطبولٍ إفريقية. لم يكن يسعي أبدًا للسُكر لكنه كان يسمح لنفسه بكأس أو إثنتين من الفودكا طلبًا للدفء في ليلة كتلك. قَرَر ألا يعود إلي غرفته الرطبة علي سطح البناية العتيقة التي تآكلت جدرانها و إهتَرَئت درجات سُلَمِها فهجرها جميع سُكانها و بقي هو وحده و كلب ضال بائس لا ينبح إعتاد أن ينزوي كل مساء في فراغِ ظلام مدخل البناية. وحيدًا كان بلا حقيقة سوى ذاته و أنفاسٍ لا يعرف عدد ما إنقضى و لا ما تبقى له منها، لم يكن يحصي السنين فلا شيئ يستحق ذكرًا مما مضى و لا أمل فيما هو آت، ينتظر خطوة الرب التالية مُستسلِمًا، كان ينفق جنيهات معاشه الضئيل بين كُتب يجلبها من “النبي دانيال” و بعض من الخبز اليومي و الجُبن و أدوية الروماتيزم و قليل من كئوس الفودكا في ليالي الشتاء الباردة. ليس له إمرأة يدفن رأسه في صدرها و لا عاهرة يقذف بين فخذيها إحباطاته اليومية، لا صديق سوى جاره الكلب الذي كان يحرص علي أن يُلقي له ما تبقى من طعامه اليومي. إبتَلَ تمامًا فقرر العودة، كان جاره الكلب نائمًا، تَعَثر به في الظلام فرَبَت علي عنقه ثم صعد إلي غُرفَتِه مُتثاقلًا، إرتدي ملابس جافة، إلتهم حبة برتقال قَارَبَت علي العَفَن، تَمَدَدَ علي السرير الخشن، أغمض عينيه، أكمَل إنشاد “لوركا-درويش” ثم راح في نومٍ عميق.
لَمْ يَدر كَمْ ساعة غاب، كَمْ ليلة، كَمْ أسبوع لكنه أفاق علي الأرض تهتز كما القيامة فتتمايل البناية كراقصة في ملهي ليلي رخيص، فتح شباكه، لا شمس هناك، كانت الريح مازالت تعوي و السحاب مازال كريمًا لكن ضوء النهار كان أحمرًا، بشرٌ بلا عدد، غازٌ كثيف و صرخات للحرية و الخبز إمتزجت بأصوات سيارات للشرطة و الإسعاف، لم يدر كيف إرتدي ملابسه و لا كيف نزل من غرفته، لم يَر جاره، وجد نفسه وسط البشر و حَسبْ، تحت الأقدام كانت صورة الرجل العجوز مكتوبًا أسفلها “من أجلك أنت” فدَهَسَها مع الداهسين، كان يتحرك بدفع من البشر يميل حين يميلون و يعدو حين يعدون و يجلس علي الرصيف حين يجلسون. مُلقىً علي سريره أنهي يومه فجأة كما بدأهُ فجأة و لم يكن جاره في مكانه المسائي.
علي غير عادته أفاق مُبكرًا، كان مُتيقظًا، شَعَرَ بكل شيئ، حَلَق لحيته، تناول خبزًا وجده إلي جوار سريره مع قطعة جبن جافة، إرتدي ملابسه، هبط درجات السُلم، بحث عن جاره، لم يجده في مكانه لكنه رأى جثته مُتَعَفِنة في زاوية من الشارع لم يأبه بها أحد. في الحديقة التي يشرف عليها تمثال الزعيم كان سُرادقًا ضخمَا يُبنى حاويًا مئات المقاعد و منصة مرتفعة و ميكروفون، دَخَل في صمت، وقف في نهاية السرادق، شاهد من دَهَسوا “من أجلك أنت” جالسين علي المقاعد في مواجهة المنصة التي إعتلاها عملاقٌ ذو لحية يرتدي بدلة سوداء كاملة و قميصًا و ربطة عنق بذات اللون. غَادَر مع الداهسين في طابور بائس عندما إمتلك صاحب اللحية الميكروفون، عَبَرَوا الشارع، وقفوا علي سور الصخر الرمادي، إندَفَعوا صوب السواد اللانهائي و الزَبَد صامتين إلا هو، راح ينشد:
“أجملُ البلدانِ إسبانيا، ولوركا يا صَبايا أجملُ الفتيانِ فيها
يا مُغني النار وَزِّعْ للملايين شظايا
إننا من عابديها”
التعليقات مغلقة.