- بوَّابة:
______
المقال خربشة في هوامش المتون القصصية المنظومة في مجموعة: «تيجان الحكي»، للقصص القصيرة التي قام الأديب السوداني محمد الخير حامد بجمعها من جيوب عشرة مؤلفين للقصة، ومؤلفات. قبسات لثلاثة نصوص باهرة الوهج، وبارعةً في توسُّلِها الحكائي لقارئها من كل قاصٍّ وقاصّةٍ. وضع مؤلفوها أصابعهم على عدة قضايا، ووزعوا عبر جسورها الإحالات والإشارات هنا وهناك عمَّا يلامس الذات، المعيش والراهن. في غِلالات أنيقة، مبتكرة، من نسج الأخيلة. وغنِّيٌ عن الذكر أن تعدد المؤلفين أسهم في تنوع الرؤى والمضامين، فخرج من بطون هذه المحكِيَّات شرابٌ مختلف ألوانه.
«النصُّ المفتوح ونثر الدلالات»
_______________________
- أحمد أبو حازم:
_____________
يمتاز أسلوب أحمد أبو حازم في القصص الثلاث التي انطوت بين دفتي هذه المجموعة بالغرائبية، وضغط النصِّ المشحون بالتكثيف، وتقطير الدلالات بكثافة فتبدو العبارة ذات امتداد خارج السطر؛ مع فتح النصِّ دلالياً على اتساعه بحيث ينتهي النص بدون أن يضع المؤلف نقطة النهاية في ذهن المتلقِّي؛ الشريك في كتابة النصِّ، بخلاف المتلقِّي المستهلك للنصوص المباشرة. وهذا الامتداد الدلالي للحكاية توسَّل فيه المؤلف بتطويع اللغة ونحت العبارة الفضفاضة وتقديم الأسئلة مع قبض الأجوبة. وصنع متاهة داخل الحدث الواحد بالتساؤلات التي تحوم داخل الحكاية وتشوبها بالغموض حتى آخرها؛ مُحالةً هكذا إلى ذهن القارئ الشريك في صنعة الحكي كما أراد له المؤلف. كما أن اختيار المؤلف لعتباته إلى نصوصه (العناوين) يدلُّ على اشتغالٍ عليها كأدلة، وكشَّافات، للمضامين. مستخدماً فيها: الإضافة والنعت والعطف؛ مما مكَّنها كما النصّ أن تغطِّي مساحة دلالية أوسع.
- «نثار الهواجس والظنون»
_____________________
يوظف المؤلف لقطاته في قصة «نثار الهواجس والظنون» في نقل الحدث المُتخيَّل بلا تفسير أو شرح؛ قابضاً بين يديه من الإشارات أكثر مما قدَّمها للقارئ.
يدلف إلى القصة: «انحناءة رأسه بعمامته الضخمة، وانكبابه على آنية الطعام أمامه، لا يتيحان رؤية وجهه.. يده تذهب وتجيء بين فمه والآنية، مثل رافعة قديمة، انحنيتُ ووضعتُ طعامي بالجهة المقابلة له، على الطاولة الوحيدة بالمطعم».. المسرح الغريب للحدث يلفت الانتباه، المطعم ذو الطاولتين. «غسلت يديَّ وعدتُ إلى طعامي، جلست قبالته، فصرنا كقوسي كتابة». يتصاعد الحدث متنامياً بغموض أضفاه المؤلف على شخصية المقابل للبطل «وسوست بخاطري ظنون عارمة، ملأني الشك بأن نثار عطسته المجلجلة، ربما أصاب طعامي، وكلما رفعت وجهي لأتملى وجهه، يصطدم وجهي بالاستدارة اللولبية لعمامته الضخمة، رغبة جامحة تدفعني لأرى تقاطيعه، ربما تخبرني ملامحه، لأية خارطة من الأمراض ينتمي».
ورغم محاولة البطل أن يبدد هواجسه وظنونه برؤية وجه ذلك الجالس بمحاذاته فقد ذهب الفشل بالمحاولة أدراج الريح «متحايلاً رجوته أن يمدَّ لي علبة الملح من جواره، قال: إنها فارغة، ولم يكلف نفسه عناء رفع رأسه ناحيتي.. غمغم بكلمات مبهمة، ثم ضاعف انكفاءه المريب».
يستمر الطرق على ثيمة إخفاء الوجه: «ثم نهض بطريقةٍ مباغتة، واستدار بخفة العناكب، ليوليني ظهره، لم يمنحني فرصة التمعن في قسمات وجهه، لقراءة ملامحه، والتعرف عليه عن قرب، مشى صوب المغسلة، نهضت وتبعته». ويتكرر الأمر مثيراً لدى بطل القصة مزيداً من الظنون «حين حاذيته في حوض المغسلة، كان مُكباً على وجهه، قرب الحنفية، مثلما كان يفعل قبل قليل على طاولة الطعام، كان منشغلاً بمضمضةٍ لا تنتهي، حاولت مضايقته بحيل مختلفة، فوطئت على نعاله الأفطح تحت المغسلة، اكتفى بسحب قدمه من النعال، فصار الحذاء مثل ضفدع نافق، رفعت صوتي بكلمات اعتذارٍ فخيمة، ولم يعط اعتذاري المفخَّم ذاك أية درجة من الأهمية، استأذنته بأن يناولني قطعة الصابون التي بين يديه، مدَّها من فوق عمامته اللولبية، ممعناً في انكفائه، ومضى يمسح شيئاً كأنه وجهه».
ثم تنساق القصة في رواق المفاجأة حين يخرج الرجل الغامض من المطعم، فتستمر محاولات البطل ولكن في اللحاق به والعثور عليه هذه المرة «مُقتحماً الجموع، أتلفتُ في الجهات كلها، بحثاً عن وجهٍ مفقود، تحت عمامةٍ لولبية ضخمة، غاص في الخِضم، واندغم في الغياب، ثم اختفى».
ويستنهض التساؤلات المثيرة متساوقة مع حركية الحدث «ما الذي يبتغيه الرجل الغريب من هذا الغياب؟ هل انحنى على كتف الظل، ثم فتح جبَّته للريح وطار، أم انشقَّت به الأرض وابتلعته في جوفها النهم السحيق؟ ومن منَّا باغت الآخر ثم اختفى، وصار وشماً ضئيلاً في شبق الأفول؟ أظلُّ أبحث عن أجوبة تهيض أجنحة الشك، ولكن شبكة من الأسئلة المعقَّدة تلتفُّ حولي مثل التفاف نباتات (السلعلع) المتسلقة على الجذوع، وتجعلني كمن يسأل حرث البحر حصاداً من رغوةٍ ورذاذ».
وبعدها يحاول البطل الانتحار بالقفز من مكانٍ مرتفع، قبل أن يرى الرجل الغامض وسط الجموع فيواصل في متاهة البحث عنه من جديد. إلى أن تأتي قفلة القصة بتجواله في الشوارع، يحدِّث نفسه ويسأل عن صاحب العمامة، يشيَّعه وصف المارة له بالجنون.
- «صفير الجماجم الخاوية»
_____________________
أما في قصة «صفير الجماجم الخاوية» فقد طرح المؤلف آثار الحرب في قالب الرسالة، حيث عُرضِت القصة في رسالة موظفة بمكتب إقليمي في منطقة ملتهبة أرسلتها إلى زميلها قبل أن تنتهي القصة بتساؤله عن اختفائها.
يصف المؤلف أجواء الحرب وآثارها «عبرتُ غابات الجماجم المشقَّقة، والأضلع المكسَّرة، والهياكل المحترقة، ونثار العظام الآدمية المهشمة، باحثة عن دارنا بين ركام الرماد وأنقاض الحرائق، لم يكن الأمر بهذه السهولة، توقفتُ برهة، أُنقِّبُ في خبايا الذاكرة، عساني أستدلُّ بعلامة تقودني إلى ما أُريد».
ثم تحكي البطلة في مشاهد تراجيدية تصفية أخويها على أيدي الميليشيات لأتفه المبررات «حين احتشدنا في المكان، جيئ بشقيقي الأكبر، مُصفَّداً بأغلال غليظة، وحُكم عليه بالإعدام رمياً بالرصاص أمام الأهالي، ليكون عبرةً لمن يعتبر، بحجة أنه ينتمي للطرف النقيض، لا لشيء سوى أنه كان يعتمر قبعة عسكرية استعارها من شقيقنا الأصغر ليواري بها جرحاً غائراً سببه رصاصة طائشة». ويتكرر المشهد بنصِّه مع الأخ الأصغر «وحين احتشدنا في المكان، هذه المرة، جيئ بشقيقي الأصغر…». أما التهمة هنا فكانت «أنه يوالي الطرف الآخر، فقط لارتدائه حذاءً عسكرياً، كان قد استعاره من شقيقنا الأكبر رحمه الله، بعد أن أصابته شظية تائهة ذات معركة هوجاء».
وبعد انتهائه من قراءة الرسالة يتلقى زميل الموظفة مكالمة من المسؤول الأول بالمكتب الإقليمي ليصعقه بخبر اختفاء الموظفة في ظروف غامضة، وهنا يهِبُ المؤلف التساؤلات الدائرة في خاطر الموظف مُسنِداً إليه ضمير المتكلم «ما هي الظروف الغامضة التي أخفت هذه الزميلة المثابرة؟! ما هي ملابسات هذا الاختفاء الغريب؟! ولماذا تحوَّلت القرية إلى كومةٍ من رمادٍ تتلاعب به صغار العواصف؟! تعودُ أسئلتي خائبة إلى صدري المتخشِّب، رماداً كالحاً من آثام الحريق، تذروه رياح طفيفة، وزوبعة هامسة تدخل عبر تجاويف الجماجم الجاثمة فوق الركام، ثم تخرج في صفيرٍ حزين يصمُّ الآذان ويملأ المدى».
- «عبق الأصابع الآبقة»
__________________
ثم يضع المؤلف (حالة) وجدانية متوازية مع الحدث في قصة «عبث الأصابع الآبقة» التي تحكي عن تفاعلات وجدانية يصفها الراوي بضمير المخاطب «وحدك الآن ترتشفُ صمتك المستبد، ثم تغوص في سديم أُمنية تأبى أن تتجسَّد في طفلٍ يحمل اسمك، ليغسله من غبار الزمن ودرن الذكريات البغيضة». خط القصة (كافكاوي) بعض الشيء، مأساوي. وبدون شرح للقارئ لأسباب اختياره لضمير المخاطب وهذا الخطاب بين الراوي والمروي له، والمعتاد هو استخدام أحد الضميرين، الغائب أو المتكلم. ولكنها خبطة بارعة «ها أنتذا ترتِّب عنادك النحاسي الأجوف، حين تنفض المدينة نعاسها الفضي، وتنفث ضجيجها اليومي في مسامِ الأرجاء، تترك ضميرك خلفك، وتخرج».
(الأصابع) في العنوان مُسقَطة في مدخل القصة مباشرة «تزجي الساعات الطوال، وأنت تشاهد تطبيقات الفيديو على هاتفك الذكي، لتتابع انثناءات أصابع عازف الكمان وهي تنقر الأوتار، لتستلَّ منها الأنغام ناعمةً وشجيَّة، تُقلِّد الحركات السريعة لأنامل ضارب الإيقاع، حين تتقافز برشاقة مدهشة على السطح الجلدي المشدود، لا تشدُّك الإيقاعات برزيمها المنتظم، ولا تجذبك الموسيقى بدفقها الأخَّاذ، إنما تحاكيها لتدرب أصابعك على الخفة والمرونة، فتستطيل وتتلدَّن مع الزمن.. قبل ذلك كنت تركن لسوانح الأوهام، وجنون الفراغ المقيت، تمارس عاداتك الغريبة مثل جنِّيٍ منبوذ».
وتبدو الأصابع في القصة مثل (شخصية) لها دورها في الأحداث «تبعثر ما جادت به الغفلة على طاولة عرجاء.. أوراق نقدية بأرقام مختلفة.. مذكرات صغيرة بخطوط متعرجة.. عناوين وأرقام هواتف.. صكوك مصارف.. بطاقات شخصية، وقوائم لمطلوبات يومية مختلفة، تعزل العملات النقدية عن كل هذا اللميم المتنافر، تحصيها بدقةٍ متناهية». وتتكشَّف القصة عن وظيفة الأصابع التي بوأتها منبر العنوان «سنوات وأنت تراكم وهمك الأسود دائماً، لا يكبح جماح تصدُّعِك الوجداني إحساس بالشفقة على من تفتك أصابعك بجيوبهم، ولا يرتِّق دواخلك المهرَّأة شعور بالعطف حيال المنكوبين بخسِّتك المفرطة، ونذالة فعلك المذموم».
وهكذا بعد أن كشف الراوي عن طبيعة المخاطب ودور أصابعه في القصة. تنداح الحكاية في تفاصيله الاجتماعية التي حدت به إلى هذه الزاوية من الحياة. يقفل المؤلف قصته بعد أن عرض الحالة، والحدث. تاركاً التقدير للقارئ، فالراوي لم يطلق الحكم القطعي على بطل القصة وإنما اكتفى بالوصف من ناحية أخرى، أو هكذا قرأت «ها هي مراميك تخيب وتتبدَّد، تتراكم طبقات الصدأ على وجدانك الكسير، وعلى صدرك يتحشرج بكاءٌ صامت، وينزُّ وهنٌ حامض على مفاصلك، تجدِّف في الهواء بقبضتيك تلعن القدر، ولكن شيئاً حارقاً يتدفق على كفيك، تفتحهما، وتمعن فيهما بنظرةٍ مرتعشة، ترى رؤوس أصابعك تنطف بالدم نُطفاً تتوالى، مثل بهيمةٍ منحورة تورق في خاطرك لحظة حرَّاقة تشي بأن سقمك الذي تعاني منه الآن، لا يدانيه انجرافك القديم، ولا هذا النواح المستبد الذي ينحر وجدانك الخاوي إلا من رمل الأوهام، والرغبة المستعرة لعويل الفراغ».
- كلمة قبل النقطة:
______________
اللغة التي يكتب أحمد أبو حازم بها القصة لوحدها قصة.
التعليقات مغلقة.