يوميّاتُ رجلٍ ميّتٍ – د. عبد الله سرمد الجميل

ها قد مِتُّ إذنْ؛ لم أتوقّعْ أن يكونَ بهذهِ السهولةِ والسرعةِ، هذا الذي أرّقَني وخوّفَني التفكيرُ بهِ.. أنا الآنَ مضطجعٌ على أحدِ أسِرَّةِ المستشفى، حولي أٌناسٌ يبكونَ ويصرخونَ، بينَ لحظةٍ وأخرى يكشِفُ أحدُهم الغطاءَ عن وجهي مُحَمْلِقاً في عينيَّ المُغمضتينِ وبؤبؤَيْهما المُتَّسعينِ للمرّةِ الأخيرةِ، يرفُضُ الطبيبُ تسليمَ جثّتي لأنّ عُمري – أنا المُتوفَّى – صغيرٌ؛ فعليهِ يجبُ تحويلي إلى مَشْرَحةِ الطِّبِّ العدليِّ لمعرفةِ سببِ الوفاةِ، يقشعرُّ بدني الباردُ وتنتابُني نوبةُ هلعٍ، أنا الذي خرجْتُ من الدنيا بلا نَدَبَةٍ واحدةٍ، كيفَ أقبَلُ الآنَ فتحَ غرفةِ قلبي؟! ثُمّ أهدأُ فأنا ميّتٌ أصلاً فلمَ الخوفُ؟! يتوسّطُ أبي عندَ طبيبٍ صديقٍ وأخرُجُ من المستشفى. أحدُ المُنظّفينَ في الردهةِ غافَلني؛ الملعونُ سرقَ جوّالي المخزونَةَ عليهِ دواوينُ لم تُنشرْ بعدُ، الملعونُ سوفَ يَطبَعُ اسمَهُ عليها وقد يفوزُ عنها بجائزةِ نوبل، ساعتي ال (Omorfia  ) أيضاً سرقَها.. مهلاً مهلاً، ما حاجتي للشهرةِ والوقتِ؟ ألسْتُ ميّتاً؟!

شعورٌ لذيذٌ بالاستلقاءِ في حوضِ السيّارةِ الخلفيِّ. قبلَ موتي ركِبْتُ العديدَ من السيّاراتِ، غيرَ أنّي لمْ أفكِّرْ ولو لمرّةٍ واحدةٍ بالنومِ في الخلفِ. يُوضَعُ المرءُ مرّتينِ في الحوضِ الخلفيِّ، كلتاهما بغيرِ إرادتِهِ؛ الأولى حينَ يكونُ طفلاً، فيشترونَ لهُ كرسيّاً خاصّاً لتتوالى عليهِ المشاهدُ من النافذةِ بثغرٍ مدهوشٍ. الثانيةُ حينَ يكونُ ميّتاً مثلي.. لكن إلى أينَ يا بشر؟ اللعنة، إلى المَغسَلَةِ. إنّهُ لَمِنَ الضرورةِ أن يُحدِّدَ الإنسانُ في وصيّتِهِ اسمَ شخصٍ يضطلعُ بمهمّةِ تغسيلِهِ. على مِصطبَةٍ مُخشَوْشِنةٍ سكبوا فوقَي الماءَ، اسْتَحْيَيْتُ من عُريي بادئَ الأمرِ، ثمّ تذكرْتُ أني ميّتٌ..

اليومُ الأوّلُ في القبرِ، لم يحدثْ شيءٌ جديرٌ بالذكرِ، فانتفضْتُ لأذهبَ إلى عزائي بعدَ أن رحلَ الجميعُ سوى صديقٍ أطالَ المكوثَ والبكاءَ، المسكينُ فَزِعَ منّي وماتَ في مكانِهِ. لم يُعجبْني العزاءُ؛ فالقارئُ الذي استأجروهُ ليسَ قارئي المُفضَّلَ، كما أنّهم نَسُوا قنانيَ ماءِ الوردِ، رأيْتُ حمقى يضحكونَ ويتكلّمونَ بصوتٍ مرتفعٍ، شتمْتُهم وخرجْتُ.

في اليومِ الثاني، استمتعْتُ مع صديقي الميّتِ جديداً؛ الذي أخفْتُهُ البارحةَ، فقد حفروا قبرَهَ جنبي. نتسكّعُ ليلاً في المَقبرةِ، نُكوِّنُ صداقاتٍ جديدةً بنشرِ الذعرِ بينَ الزائرينَ فيموتونَ ويُدفنونَ قُربَنا. صِرْنا عِصابةَ أشباحٍ؛ فغادرَ الناسُ المناطقَ المُجاورةَ وازدادَتْ مِساحةُ مقبرتِنا. حَزِنْتُ لمّا لمحْتُ مكتبتي محروقةً في حاويةِ النُّفاياتِ وعانقْتُ دخانَ الكلماتِ.

في أحدِ الأيّامِ، بينما كنتُ أتهيّأُ للخروجِ، بدأَ جسدي بالاضمحلالِ إلى حدِّ اللامرئيِّ، وإذا بي أنقذِفُ وأصطدمُ بغرفةٍ معتمةٍ. بقِيْتُ فيها تسعةَ أشهرٍ ثُمّ رأيْتُ الضوءَ وصرخْتُ..

التعليقات مغلقة.