عزالدين بوركة
(شاعر وباحث مغربي)
“ثمة اختلاف بين الضجيج العادي وضجيج الكلمات. الضجيج هو عدو الصمت؛ إنه النقيض إلى الصّمت. ضجيج الكلمات لا يكون مجرد نقيض فحسب إلى الصمت: إنه يجعلنا ننسى حتى إذا إنه كان هناك دائماً شيء كهذا مثل الصمت على الإطلاق”[1].
1
الصمت رديف بالعصر الكلاسيكي والفترة الرومانسية وحتى العصر الحديث… إنه دلالة وعلامة على الخشوع والبطولة والمكابدة… وكل تلك المفاهيم التي تعلقت بتلك العصور. نقول يعاني فلان في صمت، أي إنه يكابد ألمه بصمت وفي صمت… إنه بالتالي يقوم بعمل بطولي، بينما من يعاني في صراخ وبالصراخ (بضجيج) فهو ضعيف، لا يستحق شرف ما يعاني من أجله، وإن كانت أوجاعه نتاج حدث بطولي، غزو العدو ومحاربته مثلاً… إذ إن الصراخ (الضجيج) منسوب إلى النسوة، بينما الصمت منسوب إلى الشجاعة وإلى كل ما هو رجولي… إنه فعل بطولي. بالتالي فالصمت مقدس، والضجيج مدنس!
ولأن الرهبان رجال… أو على الأقل اقتصرت الرهبنة عليهم حتى عصرنا هذا… فهم مقرونون بالصمت، يقول ماكس بيكارد “إن الصمت لا يزال موجوداً كصمت حقيقي لدى الجماعات الرهبانية. كان صمت الرهبان في العصور الوسطى لا يزال مرتبطاً بصمت آخرين خارج دير الرهبان”، بينما كما يضيف: “الصمت في أديرة الرهبان اليوم معزول؛ إنه يعيش بالحرف الواحد فقط في اعتكاف رهباني”[2]. فصمت الرهبان تخشعٌ وعبادة وتقربٌ إلى الآلهة. لا بد أن نصمت في حضرة الآلهة، هي الوحيدة التي عليها أن تتحدث، وإن تحدثت ففي صمت، علينا أن نستمع وننصت لذلك الصمت. فأدنى ضجيج وأقلّ صوت هو تدنيس للفضاء. لكن عصرنا الحالي هو عصر اللا رهبنة، عصر ما بعد الأديرة، وما خلف أسوارها، حيث لا نكف عن إحداث جلجلة وضجيج وصراخ، وأي غياب للكلام “إنه يشبه فحسب عائقاً تقنياً في التدفق المستمر للضجيج”[3].
2
وحتى التاريخ فقد ظل مقروناً بالصمت، في العصور التي سبقت عصرنا… إنه في أعمّه صمت عن أحداث كثيرة، عن أغلبية الأحداث… لم يقل لنا التاريخ ولم يسجل ولم يؤرخ سوى لأحداث قليلة ونادرة، أحداث موسومة بالبطولة والانتصارات. التي كانت في الغالب في خدمة للآلهة، حروب مقدسة أو تطهير عرقي باسم الرب ومحاربة الكفار ومطاردة العبيد… إنها أمور من أجل السماء. وكل ما هو دنيوي (أرضي) وجب السكوت عنه وإعمال الصمت تجاهه، فلا يجب أن يكتب أو يسجل. و”ربما يكون السبب لوجود تاريخ مسجّل بصورة قليلة جداً في العصور المبكرة من تطور البشرية هو أن الصمت كان لا يزال قوة كبيرة في حياة الإنسان –الصمت الذي منه انبعثت كلّ الحوادث التاريخية وإليه تعود”[4]. وإن “العديد من الحوادث التي لم يذكرها أو يسجلها التاريخ لم تكن، كما تصور هيغل “من دون مبرر”؛ إنها حوادث معروفة بالأحرى للصمت فقط”[5]. والصمت كما يتصور بيكارد كالضجيج جزء من التاريخ. إلا أن عصرنا الحالي هو عصر الضجيج بامتياز… عصر انتهاك حرمة المقدس وفضائه، حتى التاريخي منه.
لقد أحدثت الصحافة شرخاً في فعل التأريخ، بل قلبته رأساً على عقب. وذلك لاهتمامها باليومي، والعابر والزائل واللامقدس. بل إن الصحافة الالكترونية تخزن في اليوم الواحد أضعاف ما سجله التاريخ في كل العصور السابقة. إننا بالتالي نحدث ضجيجا وصخبا مرعبين.. إننا نحطم قدسية الصمت ونعيد الاعتبار للضجيج. لم يعد هناك شيء ليمنعنا من القيام بذلك. إننا نثرثر أكثر مما كنا سنتخيله قد يحدث. ولم يعد التاريخ يُكتب في فضاء الأديرة والمعابد، ولم يعد حكراً على أحد، فالكل يؤرخ لما يراه ويسجله بلا انقطاع، بل إننا نحمل في جيوبنا آلات التسجيل، الهواتف الذكية تقوم بدور المؤرخ وأكثر… ومستقبل هذه المهنة، أي التأريخ، سيصير أكثر تعقيداً، فلن يكون على المؤرخ أن يسجل فقط بل عليه أن يستعين بالبرمجيات الصاخبة التي ستخبره بما يجب أن يفعل أو لا يفعل، بل قد لا تحتاجه تلك البرمجيات… إنها مؤرخ المستقبل.
سنشتاق إلى الصمت.. أو لعلنا سننساه ونتناساه.
3
لم تعد الكلمة حكراً على أحد بعينه، بل الكلمة التي هي الرب، الذي لوحده المخول له أن يتكلم، لم تعد الكلمة ملكاً له، لقد سرقنا منه الكلمة كما سرق برميثيوس النار من الآلهة، إذ “الله ذاته داخل الكلمة، الكلمة التي هجرها الإنسان”[6]،
وقد ظل الوحي الإله كلاماً صامتاً، ” إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى” (النجم 4:3)، ظل كلاماً خفياً، كلمة لا تسمع إلا للمختارين، نوع من الإقصاء. وحينما أعلن نيتشه على لسان زرادشت بإن “الإله قد مات”، فهو يعلم بشكل كبير أن الموت هو رديف الصراخ والضجيج، لهذا حينما يموت الإله يتحرر العبيد ويصرخون ويجلجلون، إنهم سيحدثون كلاماً كثيراً، فلم يعودوا تحت توجيه الصمت والكلمة.
وإن الصمت ليس رهينا بالرب /الله /السلطة العليا (الفاعل)، بل إنه مرتبط بالمتلقي /المؤمن المخاطب (المفعول به). فحتى فعل “اقرأ” يعد أمراً صادراً عن صوت أعلى أي سلطة مطلقة، وما على المؤمن سوى أن ينصاع ويطاوع الأمر. لهذا فحينما يخرج المؤمن من صمته لا يقول إلا الأمر الإلهي، خطاب مقدس يطلب منه قوله.
وأنت تدخل المعبد، الكنيسة، المسجد… المطلوب منك هو أن “تصمت”، أن تنصت (أنصتوا رحمكم الله) و(من لغا فلا جمعة له)… الصمت مقدس لأنه يدفع المؤمن إلى الإنصات والاستماع وتأمل خطاب الذات العليا. ولأن الله /الرب لا يُكلم عباده إلا بالنص (يستمعون لصوته في دواخلهم) موحى إلى أنبيائه أو من خلال القساوسة والباباوات وحاخامات والفقهاء والأئمة والشيوخ، رجال المعبد وحَفَظَة السر، وأليس السر صمت عن كلام، مقدس في مقدس… فبالتالي فكلام/خطاب الفقهاء على المنابر كلام مقدس ويجب الانصات إليه والانصياع له. والعبد حينما يتحدث /يتكلم/ فهو يدنس المعبد. إن خطاب العبد مدنس، لأنه لا يحق له بأي شكل من الأشكال أن يسأل (لا تسألوا عن أشياء….) لا يحق له الكلام ولا أن يصدر خطابا… على العبد أن يستمع فقط. إن الخطاب سلطة فلا يحق للعبد أن يمتلكها، لأن الرب لم يمنحه إياها، فلم يرتق بجسده إلى درجة الفقيه، ولم يمنح سلطة الخطاب.
إلا أننا بالثرثرة اللا منقطعة، بفضل التكنولوجيا التي تربط العالم شبراً شبراً، نشهد خرقاً لكلمة الرب، ونعزل الصمت. لقد استبدلنا السماوي بالدنيوي، وحررنا الإنسان حينما أعدنا إليه حرية الصراخ، فالطبيعة صارخة، لا تحب الصمت، نولد ونحن نصرخ، نحدث ضجيجاً.
4
يتعلق الصمت دائما بالإيمان، وبالمقدس إذن، بل هو علامة رضا وقبول وانصياع وخضوع، ويوجد الصمت أينما وُجد المقدس، لا كلام في ومع الصلاة في المعبد: كنيسة، مسجد… وفي المقابل يوجد في الكلام تدنيس، أمر دنيوي، أمر غير مقبول إلا مؤطراً، فالكلام في حضرة الراهب والشيخ والإمام والقس دناسة للمقام، و “من لغا فلا صلاة له.” وحتى الإله في ديانات التوحيد لم يتحدث إلا قليلاً، وحينما تحدث لم يصدر كلاماً، بل وحياً، إنه كلام موحى أي خفي، وهنا أيضاً يرتبط الأمر بالصمت، فالإله لا يصدر عنه كلام، فهو مفارق للدنيوي ولا يسمع صوته إلا في حدث واحد، حديثه مع نبيه موسى، ولكنه كلام قليل ويرتبط بمعجزة لم تتكرر، كلام من خلال الجبل و الشجرة، وليس مباشراً !. يقول ماكس بيكارد “هناك رابط حميمي بين الصمت والإيمان. فمجال الصمت ومجال الإيمان ينتميان إلى بعضهما. الصمت هو الأساس الطبيعي، الذي يقوم به الإيمان فوق الطبيعي”[7]. وهذه الحميمية تفقد طبيعتها حين يحضر الكلام والضجيج، بل حتى في عالم الفنون التشكيلية، كما يذهب بيكارد، فعملية خلق العمل الفني تستدعي الصمت، من حيث ارتباط هذه العملية بتقديس العمل والإيمان بقدسيته وعلوه وسموه، فاللوحة موصوفة بالفرادة والوحدانية، من حيث أنها الأصل غير القابل للتكرار والنسخ، لكن مع الفن المعاصر فالأمر يتعلق بالتكرار والنسخ ما يفقد العمل الفني هالته، على حد تعبير والتر بيامين، فالعمل الفني المعاصر هو وليد الضجيج والصراخ، أي وليد الدنيوي (المدنس)، بل فيه يختفي الدنيوي في السماوي (المقدس)، ويختفي المقدس في المدنس، ولا يبقى سوى الضجيج والكلام والحكي ويختفي الصمت… العمل الفني المعاصر مرهون بالخرق لا بالانصياع والخضوع والقبول والرضا.
5
لقد انتهى عصر الإنسان الرومانسي، الذي يقطع آلاف الكيلومترات مشيا على الأقدام أو ممتطياً صهوة الجياد، الفارس المغوار، في صمت رهيب… صمت يسبق العاصفة. ليغزو العدو أو يحارب في التخوم أعداء يهددون موطنه. لا يصرخ إلا وهو يندفع بقوة ليرتكب “عملا مدنسا” لا بد منه / القتل. لقد انتهى ذلك العصر. وحلّ عصر الصراخ، عصر الضجيج، عصر القذائف والصواريخ المباغتة وبعيدة المدى، الصواريخ التي تصم الآذان وتحدث ضجيجاً وصخباً مجلجلاً، صخباً قاتلاً وحارقاً. بلا أن يلتقي الجيشان…
6
انتهى عصر الصناعة اليدوية، الصناعة الصامتة، والفلاحة والزراعة في صمت، حيث كانت “القرية… تنهض جدران البيوت من الأرض بحياء، كأنها تنهض أو تدريجيا، وببطء أفقياً، من ثم إلى الأعلى قليلا، بتأنٍ، في الهواء، كما لو أنها خائفة من اللقاء بشيء لا ينبغي لمسه”[8]. لقد ولى ذلك العهد الذي كانت فيه النسوة تنسجن وتَحِكن في صمت، وينتج الرجال محاصيلهم في صمت. إذ كانت “حركات الفلاح بطيئة، بحيث تبدو كما لو كانت النجوم تتحرّك معه، وكما لو كان الفلاح والنجوم يقطعان دروب صمت أحدهما الآخر”[9]. صمت الفلاحيين المقدس لم يعد له وجود. ولم يعد الفلاح منحنياً، إذ “انتصب الإنسان من سطح الأرض: على هذا النحو انبعثت الكلمة من سطح الصمت” إلا أن الفلاح لوحده فيما سبق عصرنا الرقمي (عصر ما بعد المزارعين)، وحده الذي كان “لديه هذه الأرض المستوية من الصمت في داخله”[10].
إننا ننتج آلات ضخمة ومحركات هائلة، ومصانع مهولة، لا تكف عن العمل ليلاً نهاراً، بلا توقف ولا تكلّ ولا تملّ، آلات تغدو روبوتات أكثر ذكاء وفاعلية، إنها في ضجيج مستمر… آلات لا تعرف سوى العمل ولا تقدس ما تنتجه، ولا يهمها سوى الإنتاج والإنتاج.
لقد انتهى عصر الصمت…
[1] ماكس بيكارد، عالم الصمت، ترجمة قحطان جاسم، دار التنوير للنشر 2018، ص 159.
[2] المرجع نفسه، ص 194
[3] المرجع نفسه، ص 193
[4] المرجع نفسه، ص 86.
[5] المرجع نفسه، ص 87.
[6] المرجع نفسه، ص 91.
[7] المرجع نفسه، ص 198.
[8] المرجع نفسه، ص 122.
[9] المرجع نفسه، ص 125.
[10] المرجع نفسه، ص 127.
التعليقات مغلقة.