نصفُ كأسك فارغ بأيِّ لغةٍ تكتب لأسمِّيك جزائرياً؟ – خالد بن صالح
خالد بن صالح – الجزائر
تحت عنوان “أدب الجزائر” في الموسوعة الحرة ويكيبيديا تطالعنا عبارات من قبيل أن الأدب الجزائري تناول موضوعات جوهرية عبر تاريخه، وقدَّم كتاباً ذوي شهرة عالمية، وأقدم رواية في التاريخ تعود إلى المنطقة وهكذا، قبل أن ننتقل إلى الأقسام الأخرى وتاريخ الأدب الجزائري قديمه وحديثه، لتُواجهنا عبارة: “هذا القسم فارغ وغير مكتمل”. لا تسعفنا صورة ألبير كامو بجانب هذه المعلومات المتواضعة في تدارك شيء أو استجداء نهر الإبداع أن ينتفض ليكشف ما يخبئه من أسرار.لعلني أتبع هنا حدسي لالتقاط بعض جزئيات “الصراع اللغوي في الكتابة الإبداعية الجزائرية” متنقلا بين ضفة وأخرى بحُرِّيةِ من تستهويه دلالة الجملة الواحدة. عملياً لا تعتبر الموسوعة الحرة مرجعاً نقيِّم من خلاله ذاكرتنا الجماعية حول موضوعة ما سواء اتفقنا حول ما جاء فيها من معلومات أو اختلفنا، لكنني حين وقفت عند مفترق الطرق أمام غابة فروست العظيمة وقعتُ على هذا التوصيف التقني: “القسم فارغ وغير مكتمل”. لأتساءل بلا براءةٍ: أليس جديراً بمن يمتلك الخيار أن يجرب الطريقين معاً؟ وربما كانت هناك طرق أخرى خفية، بدل أن تظل الريبة والندم والحسرة ماثلة أمامه كأشباح تملأ الغابة الغامضة؟
***
لا شك أن اللغة لا تمنحنا خيار الحياد، وعلاقة المبدع باللغة ليست هادئة فهو يصارع أصواتاً مقيمة فيها من أجل أن يحفر له صوتاً يعكس حداثته الفكرية والأدبية، ولعل الامتياز الذي تتيحه الممارسة اللغوية يكمن في التغيير والتأثير المتبادل ضمن مشروع ينبني على رؤية المبدع الفردية للعام والخاص. يذهب عبد الفتاح كيليطو إلى اعتبار “الكتابة بمثابة رسالة حبّ، حبّ اللغة”. كما لو أنها ممارسة حميمة تؤكد أن علاقتنا بأي لغة، أسروية أليفة كانت، أو تالية مستعارة، داخل الجغرافيا الواحدة، يكمن في المساحة المتاحة لنا لارتكاب “ما ينبغي” من الأخطاء.
في فترات سابقة خاصة في العشرية الأخيرة من القرن الماضي وصل “الصراع” بين من يكتب بالعربية ومن يكتب بالفرنسية إلى درجة القطيعة والتخوين، وتجاوزت القضية المُعطى اللغوي، إلى صراع إيديولوجي وفكري، سياسي واجتماعي، وغيرها من الثنائيات المحتدمة. مما جعل اختلالات التاريخ تطفو إلى السطح وتزرع الشك في النص الأدبي كألغام غير مرئية في مساحةٍ كان لها أن تكون مضاعفة من الإبداع، بدل انقسامها إلى نصفين.
هناك أدبٌ جزائري فقد نصفه الآخر، إن كان يجوز مجاراة الحسرة إلى آخرها. بقيت أسماء مهمة ونصوص قوية في الذاكرة الجزائرية دون ترجمة إلى زمن قريب. وإلى اليوم فإن الجسر الذي يصل بين ضفتي النهر، أحادي الطريق، يذهب من الفرنسية إلى العربية في الغالب ونادراً ما يعود بالاتجاه المعاكس. لأنَّ فعل الترجمة جاء متأخراً وبإرادة فردية لا علاقة لها بأي مشروع ثقافي جاد. كما أننا لم نقتحم أكاديمياً مجال النقاش حول مفاهيم عديدة كالهوية والانتماء لإزاحة اللّبس والغموض حول مثل هذه القضايا، خاصة وأن خلفياتها تعود إلى فترات بعيدة، إلى ما يزيد عن قرن وربع القرن من الاستعمار الفرنسي، والخلل اللغوي الذي لم يعالج بالطريقة الصحيحة في فترة ما بعد الاستقلال. ناهيك عن الهوة التي زادت اتساعاً بسبب الوصاية ومركزية التداول وغياب الشجاعة لمقاربة الإشكالية اللغوية في الجزائر.
***
لن أذهب أكثر من هذا في الحديث عن الجذور التاريخية للصراع الأدبي، والذي احتدم عبر الصحافة وفي مختلف وسائل الإعلام في زمن التسعينيات، ولم يخل الموقف من اتهامات تجاوزت حدود الكتابة الأدبية في ظل “العشرية السوداء” التي كانت تعيشها الجزائر آنذاك. ولم يكن الروائي الطاهر وطار وحده من الكُتّاب الذين يكتبون بالعربية من دخل حلبة الصراع مع من يكتبون بالفرنسية، بالتشكيك في هوية النص والتساؤل حول مدى جزائريته؟ والرد بحرب إعلامية شنها الفرانكوفونيون في الجهة المقابلة. وبين مقولات عادت إلى الواجهة راوحت بين من يعتبر “الفرنسية غنيمة حرب” كالكاتب المسرحي والروائي كاتب ياسين ومن اعتبرها “منفاه الشخصي” كالشاعر والروائي مالك حداد كما أن هناك فريقاً آخر كتب باللغتين دون عقدة أو محاولة للبحث عن مبرّراتٍ لتبرئة ما يكتبون أمام محاكم التمييز والتفرقة، وإن كانت الكتابة باللغة الفرنسية وما تلقاه من اهتمام نقدي وإعلامي لها أن تمارس كذلك نوعاً من الغواية.
هناك من الكتاب والمثقفين من خلع رداء الإيديولوجياتوصراع الهوية، وانحاز للكتابة عن الذات، بكل انتماءاتها وصراعاتها الوجودية، والعمل على تفكيك المفاهيم ومواجهة حقائق التاريخ في مرايا وإن بدت متشظِّيةبسبب عوامل الانتقالات الحادة في زمن العولمة، إلا أنها تعكس صورة واضحة الملامح عن الأدب الجزائري. حتى محاولات جمع تلك الشظايا لم تفقد بوصلتها في السنوات الأخيرة مع الانفتاح على الآخر سواء في المشرق أو الغرب أو أي جغرافيا جديدة خارج حدود “الوطن”. ولعلنا إذ نمعن النظر عميقاً في جدوى الصراع، نجد أننا ضيعنا أشواطاً لا حد لها كان للأدب الجزائري، رواية وشعراً ومسرحاً وقصة، أن يقطعها باتجاه أفق الكتابة المفتوح. ذلك أنَّ قلة الاطلاع من الطرفين، ومحاولة فهم المضامين الأدبية للنص أيًّا كانت لغته هو المعيار الوحيد لأي تصنيف مهما كان. النص الجيد يتجاوز محمول اللغة التي كتب بها إلى لغات أخرى والأسماء والأمثلة عديدة ولا يمكن حصرها. كما أن هناك من يعتبر هذه الازدواجية معطى ايجابياً بعيداً عن التناول الإعلامي الموجه والحساسيات غير الأدبية، ولا يمكن للترجمة إلا أن تساهم في ترتيب البيت وتنقيته من الشوائب.
شخصياً، أعتبر أن الرهان الحقيقي يكمن في قيمة النص المكتوب أدبياً، أنحاز إلى النص الجيّد، مهما كانت لغته والخلفية التي جاء منها صاحبه. الاستثناء الحقيقي في الكتابة لا تحكمه المعايير التي كرسها هذا الطرف أو ذاك، أحياناً يكون الصراع مفتعلاً لصناعة الشهرة أو الاهتمام الإعلامي الفارغ من كل محتوى. نحن بحاجة إلى مقاربات أدبية لكل الموضوعات، الغاية في ذلك لا تحتاج إلى وسيلة لتبريرها، ذلك أنَّ ما كُتب عن الثورة الجزائرية إلى اليوم غير كافٍ ولم يستطع اختراق “طابو” الحقيقة التاريخية، ناهيك عن طابوهات سياسية ودينية كثيرة أخرى، ما كُتب إلى اليوم عن فترة التسعينيات والحرب التي يصعب تسميتها وخلَّفت آلاف الضحايا، كذلك لم يلامس جوانب ما حدث. لعلنا بهذا الصمت، سنعيد أحداث التاريخ بأخطاء جديدة قد تكون أسوأ من سابقاتها.
***
أستحضر عبارة وربما أقتطعها من سياقها في كتاب أمين معلوف “الهويات القاتلة” تقول “إن نظرتنا هي التي غالبًا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم”. في رواية “بوح الرجل القادم من الظلام” لابراهيم سعدي يباح دم البطل بتهمة لفَّقها لنفسه كي يُنفى إلى الصحراء ونسيها وراء كثبان الرمل والسنين، إلا أنَّ يد القتل كعادتها تحفر عميقاً في تاريخنا الشخصي حين ترغب في ممارسة هوايتها المقدسة. هذه عبثية لا حد لها إزاء كل ما يخالفنا ونختلف معه في العناصر المشكلة لهويتنا ولم يقع عليها اختيارنا في غالب الأحيان. فقدنا منذ وقت وجيز الكاتبة الروائية الشابة ديهية لويز التي استطاعت أن تتصالح مع ذاتها في مواجهة الموت بأكثر من لغة واحدة، كتبت بالعربية والفرنسية والأمازيغية لغتها الأصل، وتألقت في الأخيرة بفوزها بجائزة محمد ديب للرواية العام 2016. الشاعرة والمترجمة لميس سعيدي كذلك تعمل على ترجمة نصوص للشعراء: جمال معمري، آنا غريكي وجان سيناك وغيرهم ونقل نصوصهم من الفرنسية إلى العربية ضمن مشروع شخصي تتضح ملامحه أكثر في رؤية سعيدي و”نظرتها” للمشهد الشعري الأدبي وما يشوبه من نقص وفراغ، عكس تلك المحاولات الفردية التي لم تحظ بكبير اهتمام أو كانت دون المستوى فغمرها الظل ونامت قريرة العين دون مقاومة تذكر. لميس سعيدي ليست لوحدها من تخوض غمار المحاولة الجادة وإن كانت في بدايتها، مما يجعل ما كان فارغاً وغير مكتمل لزمن طويل يحظى بخطوات جريئة، لا تحكمها أفكار مسبقة وخلفيات أيديولوجية تنتهج الإقصاء والرفض وتضخيم الأنا. إنها خفة عبور النهر ذهاباً وإياباً بخوف من يمشي على حبلٍ أنهكته الضغائن والاتهامات، ولكن في الوقت ذاته، بثقة من يؤمن أن عالم الأدب مفتوح على احتمالات لا حصر لها، بما فيها الغرق الذي هو لون المياه كلها على حد قول سيوران.
التعليقات مغلقة.