ماجدة جادو تكتب: صفحة من كتاب الموتى

تركني في السوق اتبضع وحيدة، ركب سيارته وغادر المكان. كانت مساحة السوق ضيقة وبرغم ذلك رأيته على البعد الفسيح يغادر ولم ينظر إلى الخلف ولم يعرني انتباهه.
سرت مسافة طويلة في محاولة الوصول للمنزل، ويال العجب وجدتني أسير بكل سهولة وأجد المسافة أقصر مما تخيلت برغم من بعدها الحقيقي عن المنزل، ففي الأحوال العادية لم أكن لأستطيع قطع كل تلك المسافة سيرا على الأقدام بل لابد من أن أستقل الترام الذي يقطع المسافة في حوالي النصف ساعة، والتي كنت أيام الشباب أقطعها تقريبا يوميا سيرا على الأقدام جيئة وذهابا. في منتصف الطريق وجدتني في ساحة كبيرة أعرفها جيدا، وجدت أماكن يجلس بها بعض الناس يتناولون طعامهم.
مناضد خشبية تتوسط المكان وبعض المقاعد البلاستيكية يجلس عليها إناس غرباء لا أعرف منهم أحد. في أحداهم رأيت رجلين في أواسط العمر بينهما فتاة في مقتبل العمر وهم يحاولون إطعامها من خلال فتحة تحت الإبط. كان الرجل يمسك بملعقة صغيرة بها شيئا ما يحاول سكبه من خلال فتحة الإبط.
تقدمت منهم في محاولة للمساعدة، فنبهني الرجل إلى ضرورة وضع السكر الذي كان بالملعقة قليلا تحت الإبط قبل سكبه لتتكون فيه الدهون الضرورية للتغذية، حاولت أول مرة فانسكب السائل على جسم الفتاة دون أن ينفذ من الفتحة تحت الإبط.
وقفت الفتاة في منتصف الساحة بين الناس، وخلعت حرملة كانت ترتديها فوق أكتافها، فتكشف رداؤها الداخلي عن سروال قصير وصدرية تكاد بالكاد أن تصل إلى منتصف خصرها، وأخذت تثرثر بكلام غير مفهوم عن الحرية وضرورة السكر الساخن كغذاء مفيد للصحة والنمو.
فجأة وجدتني في مكان قفر خال إلا من رمال صفراء قاحلة، وجنازة مارة بجواري، سارعت برفع الغطاء عن النعش فوجدتني مسجاه داخله، جريت نحو المشيعين أصرخ بلا، لا، أنا هنا ولست بالداخل، لكن أحدا لم يسمعني، وتخطوني كشبح لم يعره أحد أي انتباه.
القوا بي في حفرة ضيقة وأهالوا عليّ التراب ووقف المعزوون يقرأون الفاتحة وبعض آيات القرآن ومضوا إلى حال سبيلهم.
تهللت أمي وجميع أقاربي ومعارفي حين رأوني وهتفت أمي “كنتي فين، أتأخرتي ليه “وأنا في أشد الحيرة أتلعثم في الاجابة ولا أجد ردا، صوتي يخونني فأفتح فاهي وأغلقه دون أي صوت، أنظر حولي فأجد كل من فارقوني معي، ممددين بجواري، أخي الذي سألني عن زوجته وأبناؤه، خالاتي، عمي وعمتي، أعز الأصدقاء، جارتي التي سألتني عن زرعها الذي تركته أمانة في عنقي.
قامت أمي لتعد لي الشاي وبعض الطعام لأنها علمت أن معدتي خاوية، وأنه تركني في السوق منذ الصباح الباكر بلا طعام.
وتذكرت أبي، أين أبي؟ ناديته وكان نائما، وما أن رآني حتى هب واقفا صارخا بعلو صوته “ما الذي أتي بك إلي هنا؟ هل أخذت ثأرك أولا ممن خانك، ومن هجرك، ومن أساء اليك؟ ومن حول حياتك إلى جحيم؟ “وركلني ركلة شديدة أطاحت بي وقذفتني خارج المقبرة.

التعليقات مغلقة.