لعبة المغزل؛ هي الرواية الثالثة للروائي الإريتري حجي جابر، الصادرة بطبعتها الأولى عن الدار البيضاء في المغرب
عام ٢٠١٥م بعد روايتيه سمراويت ومرسى فاطمة.
يقيناً لا أعرف إن كان من حقّ القارئ على ذاته، في الدرجة الأولى ومن حقّ الكاتب عليه في الدرجة الثانية أن يكوّن رؤيةً تمكّنه من التقييم، وإن كانت انطباعية، خاصة أنّه و بعد عملين روائيين يبدأ الحكم على الأديب بوصفه من خاض التجربة.
في لعبة المغزل؛ تبدأ تشابكات خيوط المغزل منذ العتبات الأولى، حيث اختار جابر قول (أليكسيس كاريل – لا يتغير الإنسان دون عذاب لأنّه النّحات والمرمر معاً) ثم يشرع في نسج خطوط حكايته وفق فصولٍ سماها أشرطةً، وفي كل شريط مقطعين اثنين، تبدو للوهلة الأولى وكأنها مشاهد سينمائية مخلصة الإنتماء لبطلة الرواية وراويتها معاً، وهي فتاة جميلة باذخة الجاذبية، مزهوة دائماً بفتنتها، وترى الرجال كمجموعة حمقى يدورون في فلك جمالها. هذه الفتاة يتيمة استشهد والدها في إحدى معارك التحرير، بينما توفيت أمها بعد ذلك بقليل إثر حادث، فتكفلت جدتها بتربيتها، وكانت الجدة سماء مليئة بالحكايات التي جعلت ليل أسمرا مكتظاً بالوهج بالنسبة إلى حفيدتها، ولكن لكثرة تدليلها للبنت، كبرت هذه الأخيرة وهي تعتبر كلّ ماتريده حقوقاً لها.
درست الفتاة في كلية الفنون، ثم التحقت بالعمل في مؤسسة لأرشفة وثائق الدولة إلكترونياً، وهي عبارة عن رسائل ومذكرات مكتوبة بخطّ اليد من قبل رجال وثوار ومقاتلين أخلصوا للثورة، وكانوا شهوداً عليها.
وهناك تبدأ الفتاة بلعبة عبثها الشيقة في وثائق التاريخ، حيث تبدأ بتعديلها وفق حكايات من خلقها، وتستطيع لجمالها وغنجها الوصول إلى الوثائق الأكثر خطورة وهي الوثائق التي تتحدث عن الرجل الأول في الدولة، وتكتشف عملية التحريف التي يقوم بها الرئيس نفسه لبناء تاريخ نضالي ناصع يقصي كل ما هو غائم أو ذميم في سيرته.
تتشابك الأحداث وتتصاعد ذروتها عندما تحصل الفتاة على وثيقة تثبت أن الرئيس اعتدى على أمّها التي كانت مع المجنّدات أثناء الثورة، وأنها ابنته، ثمرة ذلك الاعتداء السافر.
وقد أقدم على قتل الأم وكل من كان شاهداً على عمله هذا وعلى أعمال أخرى مشابهة كتجميد نشاط الأب الروحي واغتيال القائد الكبير… في أثناء عبث الفتاة بالحكايات ومحاولة اكتشافها لما كانت تظن أنه الحقيقة، يصبح كل ما حولها قد طاله الشك بحيث يصير الخلط في الحكايات هدفاً بحد ذاته في رواية حجي جابر هذه، إذ لا انتصار فيها للحقائق ولا هزيمة للمتخيل ليبقى القارئ محشوراً بين هاتين الحالتين في حبكة جابر الماكرة.
تقرر الفتاة الإنتقام لذاتها وأمها من سيّد الزيف، فتخترق الصفوف الأولى أثناء الإحتفال بذكرى الإستقلال وتُقبل على الرئيس، لتحتضنه ويبدأ الرصاص المنهمر على جسدها بعد أن زرعت الذعر في عيني القائد بحكاية جديدة وفق أسس مراوغة مبتكرة.
لعبة المغزل مالها وماعليها:
♦️تفتقر الرواية لزرع الشغف في روح القارئ، فقد امتد السرد برتابة فاترة وعادية حتى تجاوز الثلث الأول من الرواية، وهذا يحتاج إلى قارئ صبور،أمَّا القارئ الباحثُ عن الشغف وبريق الحدث فلن يجازف في إكمال أشرطتها.
♦️احتفى جابر بخلق المتاهات التي أضاعت القارئ في بعض الأحيان خاصة في نهاية الرواية وبعد عرضه لمقطع يحمل عنوان كنز الطبيب، باعتقادي كان ذلك على حساب الحدث الذي راوح مطولاً في مكانه، وكأني به يقدم الأسلوبية على الموضوع، فبدا ثوب الرواية بالغ الأناقة على جسد لا يناسبه.
♦️لعلّ الرواية سيف ذو حدين، هي تشبه التاريخ الذي سعت الرواية جاهدة لكشف مخاتلته، لكنها فقدت يقين قارئها.
♦️زرع جابر شخصية الطبيب الذي جاء صوته ناطقاً بجرحه، وأعدّ نزالاتٍ بينه وبين الفتاة في سياق نفسي وفلسفي جميل للمناظرة بين القبح والجمال فبدا كلّ منهما امتداداً للآخر.
♦️يحسب لجابر في هذا العمل أنه وفّر وسيلة تعليمية جديرة بالإهتمام لكل من سيعتنق الكتابة وزوده بنصائح تصنع روائياً حصيفاً من خلال بذره الأسئلة على لسان الفتاة لجدتها الحكّاءة وكان قد اعتمدها هو نفسه في روايته الغريبة هذه :
“- ماذا ستفعلين لو فاتكِ حدث ما؟ كنتُ سأضع حكايتي الخاصة عنهُ.
-المغازل المعقوفة تشبه الحكايات ولا مغزل دون نهاية حادة.
-شطبتُ كل الكلمات المباشرة، واخترت عوضا عنها تلك التي تتسلل بهدوء حاملة المعنى نفسه.
– الحكايات لا تأتي من الخارج، حتى لو كانت تخصّ الآخرين.
– الحكايات الجديدة لا تأتي إذا بقي إحساسنا على حاله
-المهم ألا تتركي فضيلة الحكي.
– ما من دواء للحكايات إلا الحكايات نفسها”
لعبة المغزل رواية عميقة بأبعاد نفسية مجتمعية وسياسية وتاريخية بالغة الأهمية ، يمكن إسقاطها على كل النماذج المتورمة للدكتاتوريات العربية كُتبتْ بلغةٍ مكينةٍ، واقتحمت سكينتي كقارئة دون أن تدلني على: (كيف أحمي نفسي من الحكايات).
التعليقات مغلقة.