لا خطوط لا دوائر لا أزهار مرجانية – أحلام الطاهر

خليني شوية.. جوابي الأوتوماتيكي المفضل هذه الأيام. أنطقُ بجملٍ غير تامة وكلام مكسور وتسير الأمور هكذا.. على حافة النسيان. تسألني أمي ماذا أفعل على أرضية المطبخ في الرابعة صباحاً ونقلها خليني شوية.. في المتحف أقف أمام بورتريه جديد وصلنا لامرأة شاردة تُميل رأسها إلى اليمين قليلاً، خلفها أنوار بعيدة تترامى أشعتها وتتبعثر فوق رؤوس الأشجار. أبحث عن معلومات تخصها في الكتالوغ ولا أجد شيئاً فيخفق قلبي. أتيتِ في مثل هذه الساعة، ألا تخافين من الناس؟ عيناكِ حادتان ضاحكتان. نسيتِ أن ترتدي معطفاً في هذه الليلة الباردة؟ أُميل رأسي إلى اليسار قليلاً وأخترع لها عشيقاً أسمر وهجرة نحو المجهول بمغامرة ومقامرة مقصودة أو غير مقصودة، ليس فيها دمٌ ولا غرقٌ في قوراب الموت وليس فيها تشهيرٌ بأحد، تحل بها أعطاب ومبالغات وضياع للتفاصيل، الزائر مدعو إلى تكملتها بنفسه، بلا تواريخ، لا ترتيب لما لا يُرتَّب.. تعالي أقص عليكِ حكايتكِ يا مدام.. تعملين ممرضة في مصحة القلب والشرايين، كبرتِ قرب الشاطئ وما كان ثمة من شيء عدا بعض النوارس والكلاب الضالة وقليلٌ من مراكب الصيد، يخرج منها البحارة ويسحبون الشباك فلا يجدون فيها شيئاً. أحياناً تصادفكِ خيوط الصنارات فتتخطينها بخفة، مُدركةً أن هناك من يراقبها عن بُعد، وينتظر حلول الظلام ليسحبها من الماء فتخرج مئات قوارير الويسكي المربوطة بتلك الخيوط. متى نهضتِ من رقدتك الثقيلة في هذا المستنقع؟ متى أظلم المكان وصار الكلام مستحيلاً؟ هل حاولتِ أن تختلقي مشكلة أخرى تدارين بها مشكلة مدينتك الزرقاء وأهلك الذين لا يكفون عن الضحك وهجاء الناس والتندر بأحوال الوقت؟ ماذا وجدتِ في البحر سوى مراوغات وحلم بالهجرة إلى الضفاف الأخرى؟ ماذا وجدت غير مغص المعدة. لعب الدومينو إلى منتصف الليل. كتابة الرسائل. ترقب عودة المهاجرين. كلام الليل الذي لا يمحوه النهار. المجلس البلدي. الانتخابات. الصداع في الرأس. السخط. الوحشة. اللواط. الندم. الوقوف في وسط الساحة. العيون التي تشبه عيون الموتى. الريح في اتجاه والتجذيف في اتجاه آخر. المصطافون على الشاطئ. المنارة. الشوق للرحيل. بيع الصوت بضحكة صفراء وكلام كاذب. النية وسوء النية. الأحلام. الحمى الباردة. الرفض. التواطؤ. الاختناق الرمادي. البداية والنهاية…. أهذا هو عطاء البحر؟ لماذا تتحاشين النظر إليّ؟
توقظني زميلتي إيميليا وتشير إلى اللوحة بضجر:”من هذه؟” وأجيبها “ممرضة في مصحة القلب والشرايين” فتجرني نحو الباب وتقول إن اجتماعاً مهماً ينتظرنا صباح الغد ولا طائل من العمل فقد يُلغى افتتاح المعرض برمته بسبب تفشي كورونا في هذه المدينة التي حلّ عليها غضب الرب، تُفلت ذراعي كي ترسم علامة الصليب بتضرّع فأهمس لها: معلش عودي أنت إلى البيت وخليني شوية.. ثم أضيف بسخرية: لا تجوبي الشوارع كالغجر، لا تركبي الترامواي.
في المطعم أرسم على ورق الطاولة بعض الصوامع وشبابيك الحديد والأقواس، يبرد أمامي صحن الأكل وتحط على حوافه العصافير بتردد ثم بتردد أقلّ فيطيرّها الغرسون مرتبكاً : “هذا الطعام صُنع بلا حب أليس كذلك؟”..
لا خطوط لا دوائر لا أزهار مرجانية لا بحر في هذا الشتاء القاسي. لماذا إذن أحبطني الماء ولم أصل بشيء إلى شيء؟ أقاوم الغثيان بمواصلة التطوع في قسم الإسعاف في المشفى، رقم الطوارئ الطبية الفرنسي 15 ورقم الاستعلام عن فيروس كورونا 15 أيضاً، تعظيم سلام لصاحب هذه الفكرة العبقرية. الذعر يؤدي إلى إغلاق الاتصالات والنتيحة ثلاث حالات سكتة قلبية لم تتحرك من أجلها سيارات الإسعاف البارحة وأدخل في حالة من الغضب الأعمى قبل أن أفهم أن هذا الإرهاق مُدمِّر و بلا طائل. ليست هذه هي مهمتي.
ماذا أفعل باليقظة؟ أغمض عينيّ. أطفو بمرارة في ظلمة الصمت. أُخرج يدي من الظلام إلى الظلام. أُغرقها في الماء. لا أرى شيئاً بالإمكان إمساكه. لا شيء. الماء بارد يحاصر جسدي حتى العنق، وأسمع صوتاً يهمس لي “تعالي انزلي أكثر، بلّلي شَعركِ، أطفئي حمرة عينيكِ، سترينني” وأعود إلى بيتنا القديم، أتبعُ كريم ابن الجيران بين الدروب الدائرية وهو يذهب في باص صغير إلى مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة. كان ذلك الباص الملوّن المُريب يوصله إلى البيت قبل أن يطلقوا سراحنا نحن من المدارس، أجده دائماً واقفاً أمام الباب متعرقاً تحت الشمس اللاهبة التي تلفح الوجوه، لا يجرؤ على الإتيان بأي حركة، إلى أن تُنقذه الصدفة أو تنتشله يد إلى الداخل. لم يكن كريم يفهم الأبواب. أحياناً كنت أصرخ في وجهه: مالك واقفٌ مثل الزمان! ندفن جثتك كي ترتاح؟ مع أن يدكَ لا تزال نابضة بالحياة ماذا تُفيد العروق النافرة على ظاهر اليد؟ ثم أرفع يده وأدق بها الجرس أو أضربها بقسوة على الباب كي لا ينسى الألم، وفي بعض الأيام كنت أسأله بيأس: ماذا تريد يا كريم أن تفعل بحياتك غير هذا؟ أو أنهار من البكاء أمام العتبة، وكان يقلي: خليني شوية.

التعليقات مغلقة.