*كُتيّب أوديب *تلفيق: محمود عوّاد
“الحواس سطل نفاية لمخلفات الجسد ، من هذا أصنع فني”
أنيميك سينما .. مارسيل دوشامب
أَنْ تَكتُبَ هُو أَنْ تَخُونَ خَيالَكَ قَـبلَ أَنْ تُفكِّرَ بِخِيانَةِ الكِتابَةِ، ولَا يَتحقّقُ ذّلكَ مِن دُونَ تَسليمٍ كَامِلِ أَعْصابِكَ للعَرْبدِةِ الحُلْمِيَّةِ، التِي سَتكُونُ فِي النِهايَةِ مِرآتُكَ الأَبديَّةَ، إذْ الفَنُ وَالأَدبُ هُمَا اسْتجوابٌ للمَوتَى المُتوَارينَ فِي ظِلالِنَا، فمَنْ لَمْ يَمتصّْ شِفاهَ تلكَ القُبلَةِ المَلعُونَة،ِ مُؤكَّدٌ أَنَّهُ سَيُدرَجُ فِي لاَئِحةِ الخَوْنَةِ الفَاشِلينَ، فَسِرُّ “الإسخريوطي” يَكْمنُ فِي خِيانَتِهِ النَادِرةِ.
*طلسم ذبائحي للبصيرة
للقسوةِ قلب
للغيرةِ قـلبٌ
للرعبِ قلبٌ
للموتِ يدٌ
الفنّ يدُ الموت، هي كما الصلاة ممدودةٌ في الظلام، تريد لمس جزء من النعمة لتتحوّل إلى ريحٍ..
بليك ــ كافكا
مشهد: رواق، خارجي، نهار
رواقٌ مليءٌ بإطارات صور فارغة ومن دون زجاج، الشمس وقد وقعت في حضن الغروب قليلا، حيطان الرواق البيضاء ملّطخة عشوائيًا باللون الأسود.
مشهد 2: حجرة، داخلي، نهار
مرآة كبيرة تتدلى من منتصفها، كفٌ تبدو للناظر منفصلةً ومحلقةً في الهواء. بين الفينة والأخرى يتصاعد نباح كلب في الخارج، كلما خمد النباحُ تحركت الكفُ وكأنها تُحييه ليتصاعد من جديد.
مشهد 3: شارع، خارجي، نهار
سوق مكتظٌ بالناس والحيوانات، مظاهر العربدة والهرج تشي بكرنفال رابليهي. ثمة رجلٌ يرفس بين أقدامهم دون أن يعيروه اهتمامًا، وكأن شيئاً لم يحدث.
*سيرة طقوسية لتكبير صورة العرض
(عربدة البغل) فماذا نقول، أنبقى في الخطيئة
حتى تفيضُ نعمة الله؟ كلا!! القديس بوليس
أمحو حدودَ الذنبِ بالسؤالِ الدائمِ عن جرائمي القادمة. عند هبوطي من الرحِم، هجت القابلة من ثيابها، فور نظرتها إلي، ناصحةً أمي بأن تُسرع في أنّ تعرضني على عراّفةِ الحيّ. في الحال، هرعت بي أمي إليها، برعبٍ رفعتني العرافة بيديها، فاتحةً عينيّ، فأُغمي عليها وابتدأت بالهذاء.. الهي من أية سماء قذفت بهذا المسخ؟ فجسده مختوم كلهُ بشفاه يهوذا. يبدو لي أنه ابنٌ لتمثالٍ وثني ، وأنَّ مصدر نطفة تكوّنه، دمعة سوداء سالت على خد الزمن من عين حمار، روحهُ قشرةُ صرصارٍ كهل، جسدهُ اختارته بِنتا نوح سريرًا حينما لاطا بأبيهما، لحمَهُ صُرّةُ الأساطير، نظراته أرضة في تابوت العالم، شبحٌ لعجلِ السامري، منحلُ العزلة، معدنٌ نادرٌ، حمامٌ ذهبيٌ، يتطهّرُ فيه “أوديب” من دنسِ الأقدار، مُزدحمٌ بغلمانٍ مقطوعي الرؤوس، عند سماع اللحن يهزّون رقابهم إعجابًا.. يغمسون أصابعَهم في نحورهم كأن دلوًا قد هبط في بئرٍ، جاعلين منها مدادًا يدوّنون به أسفارَ أنوثتهم على الحائطِ المنبوذِ في هيكل الغفران، يرسمون ميوعة أيورَهم وهي تلوّح للسماء مثل عصافير موثوقة الأرجل، لَوحةٌ أخرى لكاهنٍ يمصُ الليل بفتيلةِ فانوسٍ مُزيّتٍ بالمَنّي. الليلُ في مُنحدرِ القوسِ، يرهزُ للنجومِ المذنَّبةِ وهي تندسُ في فرج الجنيّة “دنيا”؛ فيعتكف المكانُ في الجسد، موتى تلفظهم قبورهم إلى الخارج ليموتوا من جديد ، فالذي يموت أكثر من مرّة ، يُبيّض بشرة السماء بمنيّ البغل الراتع في عروق أسلافه، جنونٌ يلوطُ بالرؤيا، نسيانٌ في فرنِ الدمِ يتهجى تذكّرهُ بصيحةٍ: “لقد قَتل ماكبث النوم”، طَيوزٌ منفيٌ في متاه الأزباب، البابُ كبشٌ الظلام العائد من توهج ظله ،عارفٌ يصيحُ من تراب صمته: خمس مساميرٌ في الحائط، يا للجسد المسكين، يا للجسد الغافل، نساءٌ يقتعدن البسيطة بفخذين منفرجين، يضعنَ تحت فرجوهنَّ آنية من فضة، يجمعنَ بها دماء الملائكة، فروجهنّ تُحفٌ فخار فرعونية، في رأسِ حفّار قبورِ الشعراءِ، تداعبنا الشمس بهيأة بوم معميّ؛ فيتذكر الليل نسيانه، عندها يأتي لقلقُ الدّنسِ يجمعُ كل مائة رأسٍ في رأس واحدة، ويزربُ بيضته الموعودة، آنذاك تفتح الحكمة فخذيها على الرغم من علمها بأنّ “بوذا” عنينٌ، كلما وخزته دبابير الشهوة، استدركُ الزهد في مقامات جسده كاشفًا عن أيره الصغير، بيده حصاتان إحداهما أكبر من الأخرى، يضع أيره على الحصاة الكبيرة، يمسك الصغيرة بكفٍ كمن يقبض على خنجرٍ. المشهدُ يُذكّر بِكَبش إبراهيم، بتسابيح الأسماك، يرجمُ بوذا أيره؛ فينزّ الدم إلى وجهه، ثم يلف الحصاتين بخرقة ويدسهما في فرج حكمته، “بوذا” يعلم أن الفرْجَ عدو العزلة، لذا يفضل التعرّق بين صخرتين، “لقد قتل ماكبث النوم”، الليل ملاكٌ يصبغ لحيته بدم النغل، أعوامٌ والطفيليات ترعى على ظهورنا، دمٌ كأنّه لسانٌ مسموم، مخمُّرٌ بقطران الفحم، في رأس السحرة يتهاوى الظل من جديد، عويلٌ يأكل كلابَه، قطط تدفنُ أسنانها في بطون أجنّتها المتخشبة. ها نحن نسقط في وادٍ شجيراتُه هياكل بشرية، برابرةٌ يتحدَّون جوع الآلهة لأجسادهم بغمسهم الخبزَ المقدّس في آنية المحيض، يبولون في جماجم موتاهم عند تمام القمر، يتكاثرون بأكل أنوف وألسن بعضهم. مفازةُ النيّك تبرقُ في تفاح خدودهم، السماء جسدهم والنجوم نُطف تلمع بالمآثر، يهربون من ظلامهم هروب الجرذ من ذيله في المصيدة، إسطبل لخيول ” إيروس” ملامحهم، صهيلُ السيقان يعلو في شعورهم السارحة في ريح الآخر، قوامهم ملائكة عارية في متحف الأزباب، أفواهٌ تلوك أفواهًا، آذانٌ تمضغ أعينًا، كفوفٌ تكتشف موهبتها بالطعن، معسكرٌ لا بأس به من القمل يستعرض أصناف ما لديه من الدم. لقد فهمت الدمى سرّ الحياة، فاكتفت بتحريكنا لها، لقد قتل ماكبث النوم، لكنه أخفق في دفن الخنجر في جسده، ربما هو يجهل أن سكين الخيانة إن لم تُدفن فسوف تنبت شيبة خبيثة في رأس الأيام، يومًا بعد يومٍ يصير الزمن ليمونة متعفنة، في تعاظم القداس يخرج الطاووس من الجسد، يقف أمام المرآة، ينقدُ عينيه بمـنقاره فيرى الدم حقيقته، وتُكفِّن “أوفيليا” شبح “هاملت” بالرماد المتطاير من حرق الجنيّ لعانتها. انقلابٌ في “امبراطورية الشمس”، رعبٌ منشور على الخليقة، أير” أوديب” نافورة نمل لا تجف.. نملٍ يتزاور في جثثنا، يلبس طفولة الحواس، وفتوّة الأعضاء لكهولة المُحيّا، حتى الموت لا يستطيع تعطيل نافورة النمل هذه، هَي “جوكاستا”، تقيأئي منيّ أوديب، وابتلعي أيره بفرْجك، علّكِ تُغلقين نافورة نمله الذي نهش العالم.
مشهد 4: حجرة، داخلي، ليل
سريرٌ فارغ ليس إلا من مبخرة في منتصفه، محفوف بالشموع من جميع جوانبه، تحته كلب نائم.
مشهد 5: المعبد، خارجي، ليل
صليب تنتصب في رأسه صورة صغيرة لطفل يضحك، تعلوها شمعة متقدة، فيما تتدلى من كتف الصليب الأيمن سمكةٌ ميتة. أسفل الصليب طفلٌ يلعب بالتراب كأنه يدفن شيئًا ما.
مشهد 6: شارع، نهار
طفلٌ عارٍ بالكامل، تحتل جسمه رسوم بدائية وطلاسم، يجر بيده اليسرى ديكًا روميًا وُثِقت أحد رجليه بحبل، فيثير الأخير جلبة وضجيجًا.
مشهد 7: شارع، ليل
يظهر الشبح من الخلف، يرتدي ملابس غريبة وناصعة البياض، مظهره ملائكي بامتياز، يحمل بكفه اليسرى مشعلا يأكل ظلام الليل بنيرانه، وفي اليمنى يجر تابوتًا يتربع في داخله طفلٌ حليق الرأس، يجلس بمهابة عجيبة، كأننا أمام احدى منحوتات رودان.
مشهد 8: المقبرة، نهار
قبران يتوسطهما عمل نحتيّ لرأس هائل الحجم، عيناه تختلفان في الهيئة والتحديق. يأتي ذلك الطفل المتربع في التابوت، يُقبّل عيني الرأس، ثم يُلبسه التاج ويرحل.
مشهد 9: رواق، ليل
الكفّ العائمة في فضاء المرآة، مبسوطة إلى الأعلى، فيها شمعة متقدة، ثمة كف بشرية أخرى تشاركها المنظر لكأن حوارًا بينهما، فتقوم بحركات دائرة حول الكف الساكنة مع صوت مونولوغي ينبثق من طقوسية المشهد.
إنك تهرب منك إليك، وتبحث عنك. إين كنت اذن قبل أن تدخل في جسدك، أنت اللاوجود، في جحيم بقعتك الضوئية، تتحسس موتك، باحثا عن كمال كينونة مخلوق، إنه الانبعاث، حين يجن الليل .. تحين ساعةُ ولادتك من رحم ملائكة الشر
مشهد10: شارع، نهار
الشمس في ميلان نحو التلاشي مع صفرة سماوية فاقعة. هناك يظهر كهل يتوكأ على عكاز أحمر اللون، محيّاه يقول أنه يهوذا لكنه يحاول أن يخفي ذلك، بحركة درامية يقوم بضرب الأرض بعكازه، فينتج عن ذلك ثلاث إحالات زمنية تظهر على شكل ظلال ليلية مع صرخات تتعالى.
الحركة الأولى
ظل كلب: زمن الموت وظله أنت
الحركة الثانية
ظل امرأة عارية: زمن الظل وموته أنت
الحركة الثالثة
ظل رجل عار: ظل الرب وزمنه أنت
مشهد 11: المعبد، خارجي، نهار
يظهر لنا الشيخ الكهل من جديد، جاثيا على ركبتيه، إلى جانبه آنية فيها سائل أسود. يرمق السماء بنظرة حادة، ثم يدس كفه اليسرى في صدر جبته مستخرجا مرآة صغير مدوّرة، يغمسها في الآنية، ثم يحفر حفرة بمقاس كفه ليدفنها فيها.
مشهد 12: شارع، ليل
( ل ، ق ): قدما الشبح يقفان في طشت مليء بالدم ومعهما سمكة تتحرّك بجنون.
(مونولوغ الخطى)
النجوم دودٌ في جثة الليل، ينهش وجه الظلام بالنور المصطنع، في اسطورة اكاّلي لحوم البشر، ثمة حكاية تقول بأن النجوم هي في الأصل ملائكة حاولت أن تلامس وجه الرب بأجنحتها، فعوقبت بالتحنيط الأبدي على هيئة دود يلمع.
مشهد 13: رواق، نهار
رجل يكشف عورته أمام المرآة بتغنج جسدي يلمس جسده ثم يمسح على وجه المرآة ويباشر الرقص في حضرتها.
تفكير غريب
أن تحلم بنفسك
وأن يتجسد الحلم
كي تكون
من جديد
حلما في
انسان آخر
*إنه حقاً الموت المُفزع، الهائل المٌفزع، ذاك الذي يترصدك، لكنه موتٌ سيُقهر من الموت الذي أتحدث عنه. يجب أن يحدث ذلك كي تجد نفسك. لكن بالنسبة لك لا شيء موجود سوى رقصتك. إن الجسد يتعفن من دون الرقص.
*مُختطف من نص لجان جينيه
التعليقات مغلقة.