كفر ناحوم – واقع يترنح بين النبوءة والمصير – نزار غالب فليحان

نزار غالب فليحان

على ساحل طبريا ، في “كفر ناحوم”، حيث قضى يسوع إحدى مراحل دعوته العلنية، لم يستطع أن يُدخل الإيمان إلى قلوب أهلها، فتنبأ بخرابها:

“وَأَنْتِ يَا كَفْر نَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَرْضَ سَدُومَ تَكُونُ لَهَا حَالَةٌ أَكْثَرُ احْتِمَالاً يَوْمَ الدِّينِ مِمَّا لَكِ” (متى 11: 21-24 )

و “سَدوم” أرض – وفق الموروث الديني – خسفها الله لأن أهلها ارتكبوا كل المحرمات و فسدوا و لم يخفوا معاصيهم، ليبشر يسوعُ بأن “كفر ناحوم” التي يُسِّرَ لها ما لو يُسِّرَ لـ “سدوم” لنجتْ، سوف تزول و تفنى، فزالت “كفر ناحوم” و لم يبق منها سوى خرائبها.

تقول “نادين لبكي” مخرجة الفيلم، إنها عنت في “كفر ناحوم” أرض الجحيم، المعنى الذي ربما بُني على زوال “كفر ناحوم” وفق ما تنبأ به يسوع في الموروث الديني، لكن “لبكي” لم تذهب عميقاً في هذا المعنى بل ألقت على عاتق المتلقي – عن عمد أو دون قصد – مهمة البحث عن أسباب زوال “كفر ناحوم” البلدة التي لم تتعظ و إسقاط ذلك الموروث على حالة بلدها لبنان، تماماً كما تركت للمشاهد في “كفرناحوم” الفيلم مهمة البحث عن أسباب ضياع الطفولة.

بوستر فيلم: كفر ناحوم
بوستر فيلم: كفر ناحوم

نحو قاع لبنان ، و إلى بيوته الضيقة و زقاقاته الموحلة، حيث يفتك الجوع و يتمكن المرض و يسود التشرد و يبدو البؤس سمة يرضخ لها و يتصالح معها البائسون صاغرين غير قادرين على تغيير واقعهم المؤلم حَدَّ الفجيعة ، نحو قاع المجتمع اللبناني، حيث يُنسى الفقير “ككنيسة مهجورة”، و حيث لا تطأ قدم رئيس أو نائب أو وزير أو ابن عائلة ورث زعامة طائفة أو رجل دين أو حتى فاعل خير ، و ربما لا تطأ قدم عابر سبيل أرصفتها المتكسرة أو زواياها المتعفنة، إلى هناك حملت “نادين لبكي” و فريق عملها معدات و كوادر ليفتحوا معاً هذا الجرح المتقيح في جسد لبنان ، لبنان الذي يبدو لمن يراه من بعيد ناصعاً قشيباً كجنة تجري من تحتها الأنهار ، هناك سلطت الضوء على عائلة لبنانية منسية ، و نسجت حكاية “كفر ناحوم” من لحم حي ينتظر الموت و دم حار يغلي على نار الإهمال و عدم الاكتراث.

في ذات القاع التقت “لبكي” و فريق عملها “زين”، الفتى السوري الهارب من الجحيم إلى الجحيم ، لم يكن مشهداً تمثيلياً دفاعه المستميت عن الفتاة الفقيرة التي عنفها شخص في الشارع، ما جعل فريق العمل يقتنع بأن الفتى “زين” هو ضالتهم، و ما جعله يؤدي دور طفل لبناني بإتقان يبشر بولادة ممثل من الطراز الرفيع.

تحاول “لبكي” توسيع بقعة الضوء التي تسلطها على القاع البائس عبر عرض حالة “راحيل” العاملة الأثيوبية و ابنها “يوناس”، و حالة اللجوء السوري عبر الطفلة “ميسون” بائعة الورد، لتشكل هوية عابرة للعرق و الجنسية و الدين و اللون نحو هوية واحدة عنوانها البؤس الإنساني.

رمت “نادين لبكي” حجراً في بركة ساكنة، بركة آسنة، بدأت دوائرها تتسع لكنها ستتلاشى أو تلاشت على ضفة الصمت عن الفضيحة، و السكوت عن الوجع ، بركة لا تعني لأصحاب القرار شيئاً، لأن أبناءها بلا قيد، لا يمكنهم أن يبيعوا أصواتهم لقاء قتل الجوع، بركة لا يتمايز أبناؤها طائفياً لتُصْطادَ إراداتهم، فهم جميعاً ينتمون إلى طائفة الفقر، التي لا يتشرف أي من أصحاب ربطات العنق الزاهية بالاقتراب منهم، و هم جميعاً سكان الأماكن العشوائية على هوامش المدن، أنباء البيوت الضيقة حَدَّ الاختناق، و نزلاء السجن القبر.

ثمة جرأة في الاقتراب من هذا المسكوت عنه و فضحه، لكن الصورة لم تكتمل، لأن من صفق لنجاح الفيلم غير معني إلا في الحالة الفنية و الإبداعية، و لن يتخذ خطوة نحو انتشال هؤلاء من قاعهم الموحل، و لأن المؤسسات المعنية التي بدت كأنها بريئة من هذا الجرح حين ألقى الفيلم على لسان “زين” التبعة على عدم توقف الفقراء عن الإنجاب، لا بل فاعلة و مؤثرة حين بدا الإعلام مواكباً للحدث.

“كفر ناحوم” “صرخة في وادٍ” ذهبت اليوم مع الريح، فهل ستذهب غداً بالأوتاد؟

يبقى المصير حائراً بين نبوءة يسوع و نبوءة عبد الرحمن الكواكبي.

التعليقات مغلقة.