تُكرر الأسطورة نفسها ولكن في المرة الثانية تتحول إلى يقين، تُعرف ملابساتها وما تخفيه تحت رماد انفجارها المجنون، تسقط عنها صفة الغيبية وتتحول إلى واقع ربما كان أليمًا وربما كان مُمَتَّعًا.
طُفنا طيلة اليوم حول مقر اجتماع العماليق الجدد، حيث نكون في الساعات الأولى من الصباح قد حزنا رجل جديد على رأس الطاولة. تغير العالم في السنوات الأخيرة بحدة جعلت من تداول السلطة التي شغرت تَوًّا أَمْرًا جُبرنا على أن يكون محصورًا في طبقة جديدة من الرجال. كانت وفاة الرجل وكأنها مفاجأة انتظرها الجميع ويأس من حدوثها الجميع إذ ضربتنا جَمِيعًا تلك المفاجأة فترنح سكان العالم كما يترنح ملاكم من جراء خطافية متقنة أنهت المباراة .
كان قد تخطى المئتي عام على حسب أكثر التقديرات قربًا من الدقة، اكتملت سطوته وصنع أسطورته مع تطور الأجواء على الكوكب. كان قد وصل إلى مركزه هذا بطريقة شبه اعتيادية في ذاك الزمن قبل العام الحاسم بشهور قليلة طور أماكنه الخاصة على خلفية تلك التحذيرات بأن الهواء اقترب من التلاشي، فعقب صعوده المبارك هذا، تسارع معدل تآكل الغلاف الجوي الناتج من نشوب الكثير من الحرائق في الغابات حتى اندثرت فانخفض معدل الأكسجين في الهواء.
كان من بين مقتنيات خَبأتها عائلتي في كل هجرة هاجروها، هاتف جدي الخامس، المتوفى بمرض “نقص التاكسج” المنتشر منذ قرن ونصف تَقْرِيبًا، وجدت على ذاكرته الكثير من الصور للرجل وجزء من قصة صعوده إلا أنه كان يجب عليّ أن أتناسى هذه القصص وأترك الهاتف راقدًا في أمان كمان أحب صاحبه، واستقرت العائلة على أن يكون ميراثنا هو الحقيقة التي ربما تحسنت الأوضاع وجعلنا نمتلك زمام الأمر، لكن ها أنا أقف بين العامة والدهماء ومشردي العالم الحديث منتظرًا، متى سأصبح من بين الوقود البشري الذي يسوق به الساسة المجتمعين بالداخل باقي العالم.
كثرت المياه على الكوكب واختفى الثلج تمامًا ونهائيًا، حتى ثلاجات الأرض لم تعد تفلح بصنعه، اضطر السكان للهجرة إلى المرتفعات التي لن تصلها المياه أصبحت قمة (ايفرست) لا ترتفع عن سطح الماء سوى ٩٠ مترًا على الأكثر فكان من الطبيعي أن يحدث تناقص حاد لعدد السكان إذ أن المعيشة على المرتفعات أصبحت تتطلب شروط خاصة جدًا، فظهرت الطفرات على البشر وعاش السادة في طائرات، منهم من حلق لأربعين عامًا متواصلة لا يهبط إلا في مكان به مهاجرين، يغتصب طعامهم ويعاود ارتفاعه ثانية.
أصبح الرجل الأقوى هو من تضخم قلبه وعملت رئتيه بكفاءة لاستخلاص الأكسجين أكثر، حتى أن الرجل الأول قرر أن يستعين بمجلس مؤلف من عشرة أشخاص ممثلين لكل الأعراق المتبقية على الكوكب، ليساعده في التحكم في البشرية التي تنشأ.
أصطلحنا نحن العامة – ممن لم تكتمل الطفرات في عائلاتهم مما جعلنا في الدرجة السفلى من سلم البشريه، أغلبنا قارب على الإنقراض – أن نسميهم مجلس العماليق.
انتهى إنعقاد المجلس تَوًّا مصدرًا التعليمات الأخيرة لسكان الأرض من الرجل الجديد، والذي اخْتِيرَ بناءً على معطيات مختلفة، فقد كان هذا الرجل الوحيد المتبقي من سلالة حكمت نهر الأمازون إبان تآكل غاباته بفعل الحرائق، وكانت قد بدأت أزمة الكوكب من هناك حينما اختار المتوفي أن يستغل كل تلك المساحات من الأرض في التنمية المالية فكان أسلاف “أواغا” هم أول من دفع الثمن، وجناه الآن هو.
لم يكن هناك الكثير لعمله للمتوفي إذ ستغلق عليه حجرته التي لم يبرحها أبدًا وتصنع فوقها قبة حديدية تضمن أن تكون باردة دومًا لدرجة قد تمنع تحلله، أما الأمر الأهم فكان تجهيز نصف مليون فرد من المتواجدين على الكوكب للهجرة إلى مجرة أخرى عبر سفن فضاء تقوم كل منها برحلة ذهاب بلا عودة، وترك الباقين هنا لعلهم يستطيعوا استكمال التطور ليتكيفوا مع الأرض فيسير الإنسان في خطين للتطور قد يلتقيا من جديد، فكان عليّ أن أخفي هاتفي جيدًا حتى أستطيع أن أورثه لنسلي مرة أخرى.
التعليقات مغلقة.