نفذت أشعة الشمس إلى عينيه الشاحبتين وتغلغلت في مفاصله التي أصابها الصدئ. تمطّى كقط ثم التفت نحو الباب الحديدي الضخم، حدجه بنظرة حارة تعلن الرحيل. مشى خطواتٍ باحثاً عن سيارة أجرة. أومأ بيده فوقفت إحداها. سأله السائق :
” ما هي وجهتك؟”
أجابه:
” البيت”
ضحك السائق ساخراً ثم قال له:
” عفواً، لا أعرف حضرتك حتى أوصلك إلى البيت دون أن تعطيني العنوان. أرجوك قل لي ما هي وجهتك؟”
حدّق طويلاً في المعبّد وهو لا يعي بحركة الأشياء من حوله ثم قال للسائق:
” في نهاية حي البنفسج، شارع رقم ثلاثة وعشرون نهج رقم أربعة عشر المنزل رقم أحد عشر بعد الألفين”
قصد السائق الوجهة المطلوبة. مرّ على تلك الساحة التي لطالما وقف فيها خاطباً ومحرِّضاً على التمرّد و العصيان. كان لا يتوقف لسماعه إلا ثلة من الرفاق والأصدقاء. لكن سرعان ما ينقض عليهم رجال البوليس ليعتقلوهم إن استطاعوا. لقد تعودوا مثل هذه الملاحقات، استنبطوا أساليب عدّة للفرار، أحياناً تصيب وأحياناً أخرى تخطئ. هذه الساحة اليوم مزدحمة بالناس. الذين يرفعون لافتات. البعض يبكي والآخرون يضحكون. نساء بجلابيب سوداء وبنية. وأخريات يلبسن سراويل وتنانير. رجال يلبسون القمصان البيض والآخرون ببدلات إفرنجية. أشعره ذلك المشهد بكثير من النصر والانتشاء. رفع كتفيه وشمخ بأنفه. تنفس بعمق كأنه يستنشق عطراً ما.
وصل إلى البيت. طلب من السائق أن يتوقف. حدّق في العداد فوجد أنه لا يشتغل. فصرخ في وجه السّائق:
” لما لم تشغل العداد ؟”
أجابه:
” لما قد أفعل؟ أجرتي خمسة عشر ديناراً… هيا غيرك ينتظر!”
صدم من سلوك السائق. فقال له:
” ويحك! لمِ كل هذا المبلغ؟ ليس من القانوني ألَّا تشغل العداد وتستغل الناس وتفعل ما يحلو لك و…”
مازال لم يكمل كلامه حتى أحكم السائق قبضته على عنقه وهو يصرخ:
” اسمع يا هذا هات النقود وإلا قضيت عليك! لا أحد سينفعك الآن. اذهب واشتكي للشرطة إن وجدت أي مركز للأمن مفتوحاً ههههه”
سمعت زوجته الصراخ من داخل البيت فخرجت مسرعة وأعطت السائق المبلغ الذي طلب وفكت أسره. حاول أن يرتب هيئته قبل أن يستقبله الأبناء. أما زوجته فحذرته من أن يتحدّث عن الماضي وأن يكتفي بالسؤال عن أحوالهم وعن دراستهم. دلف البيت وجلس على الأريكة التي تغير غلافها أثناء وجوده في السّجن. كذلك هي حال أغلب الأثاث. نادت الأم على الأبناء فجاءوا مسرعين:
وقفوا أمام والدهم مذهولين من تغير ملامحه ومن الثلج الذي وجهه ورأسه وذراعيه.
مريم الابنة الكبرى أصبحت امرأة جميلة . وجهها الملائكي احمرَ من فرط ما بكت فزادها ذلك تألقاً.
ماهر ارتمى في أحضان والده ويعانقه. كان عناق رجولة بدأت تنضج وتشرف على الحياة بحمل ثقيل يجذبها إلى الوراء ورجولة تخرج من قبو مظلم ولا تعي بتغيّر كيمياء الوجود.
أما ريم البنت الصغرى والتي تركها في بطن أمها عندما دخل السجن، فقد انفجرت بالبكاء وازرقَّ وجهها من الخوف عندما حاول أن يحتضنها. أخذت تصرخ وهي تقول:
” من هذا الرجل الغريب يا أمي؟”.
التعليقات مغلقة.