غرابة في عقلي – غولاي ظاظا

غولاي ظاظا

 

كنت أقلّب صفحات “غرابة في عقلي” لأورهان باموك وهو يتحدث عن البوظة الآسيوية التقليدية الشبيهة بالسحلب التي كانت تباع حتى نهاية الدولة العثمانية في الدكاكين والشوارع شتاءً.

ما يسرده باموك غير كافٍ. يخيّل إلي وقد قرأت معظم نتاجاته أن لديه حنين محرج إلى الماضي. الحرج يكمن في أن الزمن الذي يتوق إليه باموك أقلّ حرية مما عليه الآن. رغم ذلك يستلذُّ في سرده، وأشعر بنبضات قلبه تتسارع، لهفةً، بين السطور وهو يتحدث عن علاقة البكتاشية بالجيش الانكشاري في الكتاب الأسود، ويتوق لتذوق البوظة العثمانية. توقه إلى ظواهر تاريخية في مجتمع غير متحرر وضعني أمام أسئلة لا اعتقد سأعثر لها على إجابات. مثلي مثله، أتوق إلى زمن تلك البوظة التي تشبه شكلاً “السحلب”، لكن ليس إلى ذاك المجتمع الذي كان ينتجه. التناقض كبير. استمرار ظاهرة استهلاكية ما ترتبط بالمجتمع الذي يوفر له بيئة. هل أنا مع مجتمع الحرملك العثماني؟. الأهم في السؤال الآخر: هل سينجح باموك نفسه في الإجابة؟. دعونا من الاجابات ولنعد إلى البوظة.

أعثر في واحدة من الموضوعات التي تصفحتها على عجل سبب انتشار البوظة بين الجيش الانكشاري بشكل كبير. إحدى التفسيرات أن أحد أهم صناع البوظة قد انضم إلى الطريقة البكتاشية، وساهم ذلك في انتشارها في القرن 13. ولأن البكتاشية كانت كما يقال الأساس الروسي للانكشارية، فقد تمركز استهلاكها بين أفراد هذا الجيش.

في مكان آخر أقرأ ان إضافة الكحول جعلت الصناعة تتركز في أيدي غير المسلمين، بسبب فتوى تحريم صناعتها إسلامياً.

أقرأ وتنهال الأسئلة أمامي على الصفحة. أضع الكتاب جانباً وأبحث عن البوظة العثمانية. أعثر على إجابات تكمل بعض سرديات باموك.

هذه البوظة السائلة المائلة للأصفر تحتوي على الكحول مصنوعة من تخمير الذرة البيضاء، ولها رائحة مميزة جميلة.  لكن عند قيام الجمهورية التركية سنة ١٩٢٣ بدأ يختفي بيع البوظة السائلة في الدكاكين مقابل بديل آخر: البيرا الألمانية. منذ عام ١٩٥٠ تباع البوظة عن طريق بائعين يتجولون في الأزقة الضيقة والأحياء القديمة المرصوفة بالحجارة، وانحسرت شيئاً فشيئاً، وبينما كانت مظهراً لرقي المجتمع في السابق، فإنها باتت ملازمة للأحياء الفقيرة والشعبية في الوقت الحالي.

أورهان باموك يسرد وانا تراودني خيالات: سنوات في اسطنبول دون أن أتذوقها؟. السبب أن عدم المعرفة بالشيء وتاريخه يقللّ من اهميته حتماً. في هذه الأثناء وكي أقتنع ان للصدفة مغزى، وشيء غريب يشبه تحقق أمنية بشكل فوري، سمعتُ صوتاً تحت المنزل في الشارع ينادي بالتركية ” بووزجي”. الله اكبر!. معقول؟؟. رغم اني أقطن في حي حديث وليس تلك الأحياء التقليدية الجميلة.

على الطريقة العثمانية، ناديته من النافذة وصعد الدرج واشتريت كمية بعشر ليرات تركية. وتقصدتُ أن اعطيه نقوداً معدنية من المطمورة لتكن لحظة تاريخية جميلة وذات معنى في الذاكرة.

فرحتي كانت ستكتمل لو كنت أملك سلة أضع فيها نقوداً وانزلها عبر الحبل للأسفل للبائع الذي بدوره سيضع فيها البوظة بالوعاء المعدني، التطور العمراني والمصاعد والأجراس سببُ لنقصان بعضٍ من فرحتي.

هذه الصدفة أعادتني إلى زمن سابق. ما رأيته هناك أني في أكتوبر 1923. كان الجيش العثماني قد تحول إلى “الجيش التركي”. سرت في أزقة بيه أوغلو وانخفضت أصوات الاحتفالات بالنصر الكبير في حرب الاستقلال. هذا الحيّ يعجُّ بدكاكين البوظة. محلات كثيرة مغلقة. سألت مسناً جالساً على كرسي خيزران صغير ويرتشف الشاي من كوب صغير: هل محلات البوظة مغلقة؟. أجاب: انتهت البوظة الحقيقية مع رحيل الأرمن عن هذه البلاد قبل بضعِ سنوات. ما ترينه الآن وما ستتذوقينه بعد 94 عاماً من الآن هي البوظة الألبانية الرديئة.. تلك الخالية من الكحول والبهجة!.

التعليقات مغلقة.