( 1 )
تعاد الأحداث بنفس الوتيرة ,بينما الأصوات تتعالى لتساير تموج الضوء كلما عبر الأغصان. كان عرسا جماليا بحق, و الأربعة الجالسون فوق أحجار الغاب حينها, كانوا مستمتعين باستنشاق ’’السيلسيون’’ من أكياسهم البلاستيكية. ينفخون طويلا في احتجاج واضح, عن قرار الدولة المباغت منع استعمال البلاستيك.
خبأوا ما يكفي من الغراء و الأكياس تحسبا للأوقات الصعبة; ولما قد يمنع في قادم الأيام. كل ما كان يهمهم بحق كان استنشاق هذا الغراء العجيب, وتأمل علبته البرتقالية ليخرجوا من بعد مرئي لتردد لا أرضي.
سفر طويل ينصهر فيه إدراك الزمان والمكان, والشعور واللاشعور. كنت واحدا منهم وقد اتخذت لي الصخرة الوسطى مكانا للجلوس, وجلس قبالتي رضوان الملقب ’’بلاكوست’’ صديق صعلكة قديم. أما العجوز والشاب الأسود المتكئ قربه, فلم نكن نعرف كليهما إلا أنهم كانوا هناك لنفس الغرض.
شكلت عادة استنشاق ’’السيلسيون’’ شبه عزاء لي (على الأقل), عن كل الندوب التي لم تندمل يوما بروحي. جف الكيس البلاستيكي, أخرجت العلبة وسكبت أكثر.
( 2 )
انه الربيع أو لعله الخريف لم يكن تحديد الفصل سهلا, الكل متسخ بالفحم لسبب جهلت كنهه ويجري في كل صوب في شبه انتفاضة. الأضواء تمارس لعبة الهلوسات القذرة, يدخل ضوء أبيض من شق ويخرج; ورديا أو أحمر من مكان آخر. وعشيقة من زمن مضى ترقص عارية وسط كل هذا الجنون, في شبه نقاء قديسة.
السؤال الذي ظل جاثما على وجداني حينها, كان معرفة إن كان ’’لاكوست’’ و العجوز و الشاب الأسود و رجال الفحم المتراقصون. يستطيعون رؤيتها كما أفعل, ليجيبني صوت الغاب, وكأنه استطاع بقدرة قادر قراءة افكاري:
- قم و ارحل .. إنهم يسمعونك كما أفعل, انهض بحقك, أنت تتحدث بصوت مرتفع,
تجاهلت الأمر فقد أدركت أنني في حالة هلوسة, يسميها أشباهنا من الصعاليك المتشردين بطلاتهم البوهيمية ’’بالرامبو’’. لم أفهم يوما سر التسمية, وهل يعود أصلها للفيلم الأمريكي ’’رامبو’’.
لم نكن شجعانا كما هو حال ’’رامبو’’ بعضلاته المتعرقة, على شاشات السينما. طقم رشاشاته, لكنته الأمريكية, وبسالته وهو ينقذ شقراء من انفجار غواصة. لم نشبهه في شيء , إلا أنه كما هو حال السينما كانت لدينا ملكة الهرب نحو الخيال.
الضوء ما زال يتحرك في كل صوب, كان صديقي على عكس صوت الغاب و التلفاز كل ما أطلق صوت إشهار. لتليه ضحكات سريعة وتجري الجموع في الشوارع, وتستمر ريم في الرقص. (نعم اسم الفتاة العارية الراقصة, وسط المشهد كان ريم. فتاة أحببتها بصدق أيام الثانوية)
صوت الغاب لم يجبني هذه المرة, وحده صوت أنفاسي و هي تخترق الكيس البلاستيكي كان يسمع. والأمر شابه لحد كبير لحظة خلود, خفت أن أعلق هناك للابد.
( 3 )
نهضت بخطى متعثرة, وخاطبت ريم:
- هذا الخراب ليس مكانك, اسألي الضوء فهو صديق سفر قديم. إن كان هؤلاء الملاعين يستطيعون رؤيتك, لا أحتمل أن تدنس طهارتك بفحم الرعاع و أعين الصعاليك. و هم يستنشقون الغراء كجبناء, أنا أحبك. أعتذر إن لم أكن جيدا بما يكفي, لكنني أحببتك بصدق اسألي الضوء, فهو يعرف كل شيء .
ريم أكملت رقصها وكأنها لا تسمع شيئا, وحده صوت الغاب أجاب بطريقته الوقحة المعتادة:
- الضوء ليس صديقك ,وحده الفحم يناسب أمثالك, لتحترق في الجحيم.
التفت حولي مبتعدا عن الصخرة التي كنت أجلس فوقها, وتجاهلت تلويح ’’لاكوست’’ لي مكملا الخطو في تساؤل عن كيفية وصول ريم لهذا ’’الرامبو’’. فلم نتكلم منذ سنوات طويلة وربما لن تستطيع تمييز ملامحي, إن وقفت قبالتها حتى والحال أنه كنا مقربين في ما مضى. لكن لعلها تزوجت ببائع أواني, خياط او محام … وأنجبت ابنا جميلا, أسمته باسم جدها أو اسم ممثل تركي.
لن تستطيع تذكر عشيق قديم تحول لمدمن, فالزمن كفيل بتغيير كل شيء. قد تعرب عن تقززها باسقة قربي, أو لعلها تشفق في أحسن الأحوال عن الوضع الذي أصبحت فيه. متشردا في الحانات, و الشوارع صحبة الصعاليك.
دراجات الشرطة لا نزعجها في شيء, تمر دون أن تفكر بوضعنا في الاعتقال الاحتياطي. أو ما شابهه من التدابير, لأننا كنا أشبه بديكور يزين الشارع. ليظهر للعالم وجهه في المرآة. فكيف للشرطة أن تعتقل ديكورا؟ أو سينوغرافيا؟
( 4 )
مدخل كبير ’’الشمكارين’’ أبو عباس المكناسي في فهم الرامبو:
الضوء: حلم.
الفحم: خطيئة.
صوت الغاب: هو.
الضوء: أنا أعلى.
( 5)
لقد جئت لهذا الغاب منذ ما يقارب القرن, يبدو المشهد ضبابيا في ذاكرتي. كل ما حاولت استرجاع التفاصيل, كل ما أتذكره بوضوح هو وجه ’’لاكوست’’ الضاحك. و هو يسكب الغراء في كيسي قائلا:
- أبركة, سبعة رجال.
رجال الفحم أعياهم الجري وجلسوا غير بعيد مني, بغية الاستراحة. فكرت في سؤال أحدهم ان كنت قد جننت لكنني عدلت عن الأمر, لفرط ما تبدو الفكرة مخيفة.
لعنت يومها اليوم الذي لاقتني فيه الصدفة برضوان ’’لاكوست’’, السجائر التي دخنتها صحبته وراء سور الثانوية. جعلت أبي بعد ما أخبره الجيران بذلك ككلب سلوقي, يمعن في شم رائحتي كل ما دخلت البيت.
كانت لي دوما حيل لإخفاء الرائحة والتهرب من لائحة أسئلته، أو مراوغته في الإجابة إن تعسر الأمر. لكنه تحول لثور هائج, بعد ما وجد العدة كاملة في محفظتي. علبة سجائر من نوع ’’جلواز’’, ولاعة وقطعة حشيش بشكل قطعة جبن مثلثة.
قبضت بالجرم المشهود ولم يترك لي ذلك فرصة للكذب, تطاير الشرر من عينيه وطلب مني في الحين قائلاً:
- هذا أخر يوم لك هنا أيها ’’الشمكار’’, اغرب عن وجهي ولا تفكر بطرق هذا الباب ثانية.
توسلات أمي الباكية وهي تطلب منه أن يغفر لي طيش الشباب, لم تجد نفعاً في دفعه للتراجع عن قرار طردي من البيت. أخرج حزام سرواله وضربها وضربني موبخا إياها عن سوء تربيتها لي, كما قدر.
لم أتمالك نفسي فوجهت له لكمة أولى, ثانية,ثالثة ورابعة… إلى أن أغمي عليه. حملت علبة السجائر, وخرجت دون أن ألتفت.
أشعلت سيجارة في طريقي بغضب و نشوة مدمن, سابا الجيران, وكل الغرباء الذين لاقاهم حظهم العاثر بي. حتى قط جارتنا الضاوية لم يسلم من غضبي فضربته برجلي, وهو يحاول التودد محتكا بي رفعت رأسي عاليا وصرخت:
– لا شيء يدعو للخجل بعد اليوم, لا شيء يدعو للاختباء.
هوامش
السيليسيون: اسم يطلق على نوع غراء يسبب الهلوسات, عند استنشاقه عن طريق النفخ في كيس بلاستيكي يحتويه.
شمكار: لفظ قدحي, يطلق على الشخص المدمن.
الرامبو: حالة الهلوسة التي يدخلها, مستعمل ’’السيلسيون’’.
التعليقات مغلقة.