مقداد خليل -سوريا
-1-
بحثت وصديقي المحامي -وكان لا يزال طالباً- عن بيتين. تهنا دائماً، وتشتّت نداؤنا.
قصدنا بيتاً في الأشرفية، ركبنا سيارات والتففنا حول جسور، وعدنا إلى نقطة أو موقف البداية.
في أحد بيوتٍ خاليةٍ من الأثاث بضعة أفرشةٍ في غرفتين واسعتين، ولكن الطلبة يتوافدون -السكان وضيوفهم- وأنا ما عدتُ أذكر موعدَ امتحاني. بلا جدوى فتشت عنه، ومضيتُ إلى نزل الطلبة؛ كان الجميع غرباء وما عرفتُ أحداً.. يا لنشاطهم ولكلّ أحدٍ صديقة. عشتُ هناك وحولي المشاكل، أكلتُ كثيراً، وأبدلتُ الغرفَ. الفتياتُ في الأسفل منشغلات، وقد ضيَّعتُ مخصصاتي من أسرَّة وتوابعها.
-2-
“ك” يشجعني في منطقة نائية.. بيتٌ ضيق يفضي إلى بابه دهليزٌ، ثمة ساقية ماء فوقها بناءٌ يجتمع على رصيفه فتاةٌ وشاب.
في بيته متدينون مكفهرون لا يتركون لي فرصة للتعبير عن شيء، فأحمل سكين طعام وأخرج. العودةُ من العسر؛ ألجُ ساحة حصيات تصلني بسوق جزارين، وهناك معهدٌ يعلّم الأغنياء الإنكليزية، “ب” لا يوقف سيرَه ليدلَّني، لا يكلّف نفسه عناء أن يدلَّني.. معي فتاة بلا عواطف وعقل ولكنها تبدو طبيعية.
ألتقي “ج” و”ع” و”ر” والفتيات، مروراً بدور سينما لصيقة كلُّ أفلامها خلاعية. وراء صالة معرض “ج” شلالات، شبان وفتيات كثر، متطورون حتى أني لا أفهم حديثهم.
مشيت إلى محل عجيب لبيع الأحذية، جهلتُ كيف أدخله، وثم لم أعرف منه كيف أخرج.
-3-
السريان حي أوروبي، أرض متقوسة، طرق شُقَّت بعناية، محلة أغنياء حيث فتيات يقدن سيارات.
أذهب وممو إلى كوباني، فأحفظ لساني.. نعبر حوض ألغام، نسمع أزيز طلقات، نرى رجالاً ببناطيل مخططة بأبيض وأسود. وتتفسّخ هناك كجثثٍ الطمأنينةُ.
ألتقي أناساً في كراج صغير مائل ووعر، أجد فتاةً متعلمة فقيرة ببنطال كحلي وقميص أبيض، أودَّعُ داخل الكراج تحت أنظار متوحشة لرجال بشوارب، أو لشوارب وحسب.
-4-
في زور آفا أرضٌ ذاتُ انحناءات، واسعة، سوف تنتهي بعراء.. بيتٌ باحةٌ وحُجرة يتيمة يأمها أبناء وافدون من سنجق خليل، حديثهم الليلي عن استئجار بيت آخر وأنَّ احتفال نوروز يجري توّاً في الأعالي.
في مقدمة طريق رئيسي بيتٌ كبير أبيضُ طلاؤُه، أدخله، حائطه زجاج، ستائره مرخية. بفلاة محيطة يقوم سباق الكرة، فرق كثيرة، وعدد لاعبي كلٍّ منها يجاوز العشرين، في نهارٍ واحد تُنجز الألعاب. لا يبصر بيتٌ أو جدار، أرضٌ بمحدَّبات يختفي من ورائها لاعبون عن الحكام والجمهور. يُطرَدُ فريق بعد عراك، وأفهم بأن الشمس فتاةٌ واهنة عقل.
بحلول الليل ألجُ حاراتٍ بيوتها تراب، وأزقتها متاهات لا أستطيع منها خروجاً. الرجال يلعبون بكراتٍ زجاجية صغيرة، ثلة فتيات يخرجن بأمرٍ من العواطف، شابٌّ طريح. لا أحد يعرف ما الرحمة أو الرقة.
-5-
فندقٌ رخيص وسطَ المدينة، نومُه على السطح فقط. لربّما هنا صهباوات العجم -حرفتُهنَّ الدعارة- في كلِّ حيِّزٍ من الفندق. (كنَّ موجودات حقّاً)، ولكن ضخام اللصوص هم المنتشرون.
الأولمب في السماء؛ مكاتبُ شفّافةٌ تُحاكُ فيها خططُ الجرائم. إلى مدينةٍ حجريّةٍ أنزلُ، وأختفي أعواماً بلا سبب، متنقّلاً من بيتٍ لآخر، كلُّها تسكنها نسوةٌ كهلات، وعجائزُ نظيفاتٌ، ذكيّات وشديدات.
في إحدى الليالي أمشي وحاشيةَ مبانٍ حكوميّة، ثمّةَ جدارٌ أعلاهُ سياج. سيرٌ مديدٌ يفضي بي إلى دخول سجن.
-6-
مداخل مضللة لبيت “ك”. طلبة طب وعلاقات مريبة مع الجوار. استنفرت لأستكمل أوراق تأدية امتحان، زحمة شديدة، كدتُ أنسى من أنا، أو فعلت. زرت محكمةً تعمل بطبيعة الحال بالوساطات والرشى. بيتٌ حجريٌّ قديم من طابقين.. مسيّر المعاملات في حوارٍ مقفل.
-7-
ولجنا منطقةً أثريّةً. صروحُها وثنيّةٌ غاية في القِدم، لا حصرَ لطوابقها، مخيفة، وفيها صالاتٌ وكوىً ومصاطبُ داخلَ محاريبَ محفورة في الجدران يقفُ عليها ملتحون نحاف. في أسقف الصالات تقعُّراتٌ تشي بسطوحٍ مقبّبة، بلاطها برّاق.
أخرجُ منها إلى آثارٍ تحت السماء، رخامُها بنّيٌ. أقضي وأهلي نهاراً هناك نلتقطُ الصوَر. الفتياتُ يرفعنَ قليلاً السراويلَ عن سيقانهن، والشبّانُ لاهون. وهناكَ نهرٌ مستقيمٌ، ماؤه في مستوى ضفّتيه، على الضفّتين أبقارٌ وجواميس، وفي الماء أفراسُ نهرٍ وثعابينُ سوداءُ ضخمة. تضيعُ صوري الأثيرةُ، وعندما أسعى لالتقاطها مجدّداً تتلاشى الأمكنة التي أبهرتني.
نهرٌ آخرُ معوجٌّ، تجد في منعطفاته مياهاً شبه راكدة تجتمعُ فيها أسماكٌ. والجميعُ أشرار: البشرُ، وسواهم.
-8-
أوقن لا بد أن أمضي بجسدي عكس نهرٍ هادر في طريق يصل بين مدن، فأحقق موتي لآمري به.
بيت ميلادي، ليلاً، ننظر إلى مرآة كبيرة شرفة مفتوحة لأجل فتيات ملتهبات بالعواطف. تكشفنا امرأةٌ وتقبض على أصواتنا في الهاتف الأرضي. تعلم الفتاة بأن عاشقها ميت بعد قليل، فتهبه قبلة مثل دواء يائس ودَين.
-9-
مسبحٌ ملحق بقصرٍ شُيّد منفرداً، مياهه باردة وسخة وضحلة. أسبح لأول مرة فأتقن، ولكن أحداً لا يكترث.
داخل القصر صديقي وأخوه. والدته وأبوه يستعدان لسفر.
لقضاء الحاجة ثمة جناحٌ كامل أبوابه تنوف عن العشرين.
في المعسكر خنادق.. أرمي طلقاتٍ أم لا؟. أقرر أن أغادره دون رجعة، وأحمل شعور العجز والجبن.. فما هي ذريعتي كذبتي لأهلي هذه المرة؟.
-10-
بغرفة خاوية من الأثاث نفكُّ لبناتٍ في جدار لنلجَ سراً حجرةً أخرى. “ب” يعينني أن نخلع لبنتين إضافيتين، نسمع أصواتاً من الباحة، فيوجهني أن أبدو كالمعاين أنحاءَ الغرفة لإضفاء ديكورٍ عليها. فأسأل داخلي لمَ إقامتي سرية ها هنا فيما الضابط مرحَّبٌ به كثيراً.
-11-
رأسها غافية بعناية فوق مخدة بيضاء. بين خصلاتٍ مسترخية رقطاتٌ وردية من عصير رمان.
دلفنا من بابٍ خلفي الخيمةَ مباشرة، كان “س” خبيراً فهذا حيُّه، هنا تجري سباقات خيول ورهانات.. جرَّنا صياحٌ لرؤية ما يجري بالداخل. أرضٌ شاسعة تربتها صخرٌ. لم نر خيولاً تتسابق. شبان أشقياء وحيوانات هجينة ذكورها تلحق إناثها دون محصّلة. حصانان ضخمان هائلان في ارتفاع فيلين برزا من بعيد كمقاتلين تترصدهما نبالٌ ورماح. خلل محاربين لقيتُ شاباً يعيش في الميدان المغلق منذ سنين، مشمراً عن ساقيه ويديه بثياب العمل. سعيداً بي صافحني بخفر.
هذا الميدان غير بعيد عن قلب المدينة. هو بداخله مثل سر.
التعليقات مغلقة.