حضور الذاكرة “التاريخية” و”الثقافيَّة” في رواية: “هذه الحرب لم تكن حربنا” – الحسن أسويق

الحسن أسويق

مقدمة:

يعرف المهتمون والمتتبعون، من خلال كتابات الدارسين والمؤرخين لتاريخ الحرب الأهلية الاسبانية 1936-1939، أسماء كبار القادة العسكريين من ضباّط وجنرالات؛ لكنهم يكادون لا يعرفون شيئاً عن صغار الجنود الذين كانوا حطب النار في هذه الحرب، والذين أدوا ثمن القرارات الكبرى  التي اتخذها كبار المسئولين بدوافع دينية وسياسية وإيديولوجية، أي الدوافع والأسباب التي تفسر نشوب هذه الحرب ومساراتها ومنعرجاتها.

وبدافع “واجب الذاكرة” وتكريماً لأولئك الجنود المجهولين من الريفيين[1] خاصة، والذين ما زالت أسمائهم  محفوظة في الأرشيفات العسكرية الاسبانية، كتب أمحمد لشقر رواية “هذه الحرب لم تكن حربنا”.

سأحاول أن أبرز حضور “الذاكرة التاريخية” و”الذاكرة الثقافية” في الرواية من خلال ثلاثة عناصر:

  • الكتابة كواجب للذاكرة

امحمد لشقر كاتب ملتزم، أي، بالتعريف، كاتب يكتب للدفاع عن قضية محددة؛ إنها، كما يُستشف ويُستخلص من رواياته الثلاث[2]؛ قضية التنديد بالفظاعات التي لحقت بالريف والريفيين، فرادى وجماعات، عبر مراحل مختلفة من التاريخ الحديث. لا يكتب لمجرد التعبير عن نزوات ذاتية أو تبليغ رسالة كيفما كان مضمونها وكيفما اتفق. الكتابة بالنسبة إليه بمثابة واجب للذاكرة  ومقاومة للنسيان .

صحيح أن كل كتابة هي، من حيث المبدأ، كتابة للذاكرة ؛ لكن “كتابة الذاكرة” عند  امحمد لشقر اختيار عالم، وفعل واعي “يقترفه” عن سبق إصرار وترصد. لذلك نجد أن الذاكرة تحتل مساحة شاسعة في رواياته .

الكتابة اذن بالنسبة لمحمد لشقر واجب أخلاقي؛ لأن “واجب الذاكرة” iهو – حسب تعريف قاموس لاروس الفرنسي عام 2003- ذلك “الواجب الأخلاقي الذي يقضي بالإدلاء بشهادة، فردية أو جماعية، حول أحداث يُعتبر فعل إشاعتها وتعميمها والتعريف بها أحد الشروط الأساسية لتجنب تكرار مآسي الماضي استخلاص العبر “.

لذلك نجده يستحضر هذا “الماضي الذي يأبى أن يمضي” بكثير من الفخر والاعتزاز، بحيث تصبح الكتابة بالنسبة إليه، إلى جانب ما ذُكر، أداة لحراسة الذاكرة الجماعية من كل أشكال الأمنيزي (أعني “فقدان الذاكرة”).

2 – حضور “الذاكرة التاريخية”[3] في الرواية

يستحضر الكاتب في روايته، التي بين أيدينا، حدث مشاركة الريفيين في الحرب الأهلية الاسبانية بجانب الديكتاتور فرانكو ضد الجمهوريين؛ هذه الحرب التي خلفت الآلاف من الجرحى والقتلى والمفقودين ومجهولي المصير يوجد في عدادهم أطفال تقل أعمارهم عن 15 سنة[4]. و إذا كانت الذاكرة، بصفة عامة، آلية لاستحضار التراث المادي والثقافي – الروحي لشعب من الشعوب طلباً للإنصاف والاعتراف[5]، فإن الذاكرة التاريخية ذاكرة للآلام والجراح ، وللأحداث والوقائع التي ترتبط بالعنف السياسي وبالحروب والإبادات؛ كما هو الشأن في هذه الحرب التي تمثل فصلاً من فصول الذاكرة التاريخية الأليمة للريف.

هذا الحدث التاريخي، الذي يتخذه الكاتب امحمد لشقر كمادة للسرد الأدبي؛ لذلك نجده، خلافاً للمؤرخ، لا يهتم بالتاريخ “الكبير” والشخصيات الكبرى والبارزة؛ بل يهتم بالتواريخ الصغيرة وبسرد قصص وحكايات الفاعلين الصغار؛ ضحايا القرارات التي اتخذها الكبار من “الشخصيات البارزة”. يهتم بتاريخ المنسيين والمهمّشين، و “موحند” بطل الرواية ” واحد من هؤلاء.

ومن خلال قصة موحند، يلقي الضوء على قصة آلاف من الجنود ضحايا الحرب الأهلية الاسبانية؛ أبناء  الفلاحين المغاربة من الريف ، الذين اضطروا في عام 1936 إلى مغادرة أراضيهم فارين من البؤس والجوع ، ليقطعوا البحر ويحطوا الرحال في أرض أجنبية للمشاركة في حرب لم تكن تعنيهم ولا شأن لهم بها؛ هؤلاء الرجال الذين تطوعوا لبضعة أشهر انتهى بهم المطاف في نزاع مسلح استمر عدة سنوات. لقد حاربوا في ظروف قاسية، ولكن قاتلوا بشجاعة وكرامة. استخدمهم فرانكو كوقود للمدافع واتهمهم الجمهوريون بالوحشية. وأثناء كل أطوار هذه الحرب المروعة  والرهيبة ، يصدمنا السارد بصور ومشاهد قوية عن أشكال  مختلفة من الرعب والدم والقتل في عالم كابوسي cauchemardesque، وما يصاحبها من مواقف وردود فعل في لحظات الجبن والشجاعة، اليأس والأمل ضمن بنية تخييلية محكمة.

وغني عن البيان، أنه، وطلباً للانسجام بين التخييل وحقيقة الحدث التاريخي، واستجابة لمقومات ومتطلبات “الرواية التاريخية”، يوظف الكاتب تقنية الهوامش التي تتضمن تفاصيل وإيضاحات استقاها من الأرشيفات والوثائق أو الشهادات الشفوية.

( يمكن في هذا الإطار مراجعة الهوامش في الصفحات: 17و18و 29و43و47و77و81و91.)

3 – حضور “الذاكرة الثقافية”[6] في الرواية:

في إطار مراجعة ونقد مفهوم “الذاكرة الجماعية” عمل العديد من الباحثين، من آفاق بحثية مختلفة، الوقوف على “نواقص” مفهوم “الذاكرة الجماعية” كما صاغه وعرفه م.هالبفاتش. ومن بين هؤلاء، وأشهرهم على الإطلاق جون أسمان Jan Assmann الذي اقترح مفهومي “الذاكرة التواصلية” و”الذاكرة الثقافية” لتجاوز تلك النواقص، خاصة ما يرتبط منها بعلاقة الذاكرة الجماعية بالزمن من جهة، وبالسلطة من جهة أخرى.

إن “الذاكرة الجماعية” في نظر جان أسمان ليست إلا ذاكرة تواصلية – تداولية mémoire communicative؛ ذاكرة اليومي une mémoire au quotidien “التي توجه أعضاء المجموعة وفقا لنماذج للفعل المشترك داخل حيز زمني محدود”. ومن ثمة، فإن الذاكرة، باعتبارها “حاضر الماضي (سان أوغستان) أو ” ذلك الماضي الذي لا يريد إن يمضي (نيتشه)، تتغير بتغير الأجيال. وما الماضي إلا ذلك الماضي الأداتي النافع ل”النحن” في الحاضر.

على العكس من ذلك، بي”ن جان. أسمان كيف أن الذاكرة الثقافية تربطنا بماضينا العريق والموغل في الزمن، وتحيلنا على “التاريخ السحيق للذاكرة الإنسانية”؛ والرهان الأساسي لصون الماضي المعرض للنسيان والضياع، والانفتاح على الذاكرة المخزونة في اللاوعي. إنها آلية “للحفاظ على بقاء النوع بالمعنى الثقافي”، وتعبير عن رغبة الذاكرات الممنوعة  والمقموعة، أو السرية حتّى، في الانفلات من سطوة الذاكرة الجماعية المهيمنة ومواجهة خطر “فقدان الذاكرة الثقافية” Amnésie culturelle .

إنها ما يضمن الاستمرارية ويعزز الهوية، ويمنح المعنى المشترك لجماعة بشرية معينة، ويضفي عليها طابع الراهنية بفضل الطقوس والرموز والحكايات، والاحتفالات والمآثر، والعادات والتقاليد، ومختلف أشكال التراث المادي واللامادي المُكونة لمنظومة القيم والرموز التي بفضلها يتم إنتاج صورة حول الذات self- image .

تجب الإشارة إلى أن حضور “الذاكرة الثقافية” في رواية “هذه الحرب لم تكن حربنا” يمنح للنص قيمة مضافة؛ رغم أن هذا الحضور حضور باهت إلى حد ما. ويمكن بيان ذلك من خلال  بعدين إثنين:

1- البعد الإثني:

ويتجلى في التركيز على الريفيين كإثنية وكـ”جماعة ذاكراتية”  « communauté mémorielle »ذات خصوصية ذهنية ومزاجية. وهذا ما نلحظه في صفحات مختلفة من النص، كما نجده حاضراً أيضاً في الروايتين السابقتين للكاتب.

2- البعد القيمي:

ويتجلى في الاحتفاء بالقيم الأخلاقية الريفية الأصيلة كالوفاء والإخلاص؛ يقول الراوي، على لسان موحند، عندما أصيب رفيقه الطنجاوي برصاصة قاتلة: ” ليس من شيمنا وتقاليدنا أن نتنكر لأصدقائنا حتى في حالة الموت” (ص.124). كما يكمن في الصدق Sincérité والشجاعة التي قد تتحول إلى سذاجة  naïveté يستغلها الخصم الماكر. نقرأ في الصفحة 208، في سياق حوار بين البطل وإحدى شخوص الرواية ” أعتقد أن هذه الحرب لم تكن حربنا، ولا تعنينا في شيء. كم أعتقد أن فرانكو استغل صدقنا وسذاجتنا لتحقيق انجاز بدا أنه في غاية العبث والقسوة”.

على سبيل الختم:

بعد عودة موحند من الحرب، مصاباً بأعطاب جسدية ونفسية؛ أصبح يعيش على إيقاع كابوس صور الحرب الفضيعة، ومن ثمة، أصبح النسيان مهمة صعبة ؛ لكن الكاتب امحمد لشكر مصرّ على التّذكّر لمقاومة النسيان ومحو الذاكرة، لتظل جدلية النسيان والتذكّر قائمة، بالنسبة لطبيب جرّاح يسعى لمداواة جراح المرضى وجراح الذاكرة.

 

الكاتب في سطور:

امحمد لشقر طبيب جراح. ولد في 17 ماي من عام 1950 بالحسيمة حيث تابع دراسته الابتدائية والثانوية. في عام 1970 سيلتحق بكلية الطب بالرباط لمتابعة دراسته في الطب. لكنه، موازاة مع ذلك، انخرط في الاتحاد الوطني لطلبة المغرب (أوطم) ضمن صفوف طلبة اليسار الجذري. أعتقل عام 1973، وأمضى، كمعتقل سياسي، عدة شهور في الاحتجاز في الكثير من  مراكز الاعتقال السري كدرب مولاي شريف وكوربيس.

في عام 2010 نشر روايته الأولى “كوربيس: طريقي نحو الحقيقة والصفح” يحكي فيها تجربته الأليمة في الأسر في سنوات الرصاص. خمس سنوات بعد ذلك، أي عام 2015 سينشر روايته الثانية تحت عنوان: “على درب الممانعين” يتناول فيه  الأحداث المؤلمة لانتفاضة الريف عامي 1958-1959 .نهاية سنة 2018، أي قبل بضعة أشهر، أصدر رواية: ” هذه الحرب لم تكن تعنينا في شيء” أو “هذه الحرب لم تكن حربنا”.

كما أنه كاتب مقالات الرأي والتحليل في مدونته في ميديا بارت الفرنسية.

 

الهوامش والمراجع: 

[1] نسبة إلى الريف؛ المنطقة الشمالية للمغرب التي كانت لها دائماً علاقة متوترة مع المخزن (السلطة الحكومية المركزية)، والتي تعيش، مؤخراً على إيقاع  ما سُمي ب”حراك الريف” بقيادة ناصر الزفزافي المحكوم بعشرين سنة.

 أنظر أسفله: الكاتب في سطور.[2]

 http://www.anoual.net/?p=12325 للمزيد، أنظر مقالنا على الرابط التالي: [3]

[4] للمزيد من التفاصيل أنظر كتاب: مارية روسا دي مادارياغا، مغاربة في خدمة فرانكو، ترجمة كنزة الغالي، تقديم محمد العربي المساري، منشورات الزمن، مطبعة النجاح الجديدة – الدار البيضاء، 2006.

 “سياسة الذاكرة  وسؤال الاعتراف”، مجلة روافد (تصدر من الشارقة)-العدد:241/2017، ص.ص. 69-72.[5]

 للمزيد من المعلومات، أنظر مقالنا حول “الذاكرة الثقافية” على الرابط التالي: [6]

http://elmawja.com/blog/%D9%81%D9%8A

التعليقات مغلقة.