منعم رزقي
كيف يعبرني النهر داخل جدران تتناسل متوالياتها وقد رأيتني هباءً تتجلى له نكهة الوصل في الفصل بين صخرتين؟
عبثا.. شحذت الإبرة بأرق العرّاف وقلق العارف، غمست الأداة في عرقِ الحَبْكَة والحَمإ المسنون، نفخت في الدّاخل الخارج أرواحاً من كوابيسي، قلت: فليكن الجن والملاك والشيطان والرّجلُ الطائر. في البدء كان الحبر وفي الحبر كان الجنين الرخويّ يتلمّس وجهه مرتحلاً في تجاعيد الماء، كانت الأرضُ والسماء والله والمعاصي تَلوب في جسد واحد..
خلقت السرير، أسندت أضلاعه بجذوع مكسورةِ الصورةِ والصوت، (واتته وواتاها) زاوجتُ بين العلة والمعلول ومازجت بين كيمياء الخميرة وبين كيمياء التوابل. أضفتُ على سريرة السّرير ما وجدته من شهقات امرأة مشبوقة سال هلام بظرها على جوع الوسادة. ربما غاض الجسُد هنا من حيث فاض هناك، غير أنّ السّرير وهو يُراوح بين مدّ وجَزْر في سِزِيفِيَّة مسكوكة التهلكة لم يكن يسندهُ شيء، خلقتُ للسرير عظاما غير العظام تحتاج لما يسندها، خلقت للعظام كرسيا غير أن الكرسيّ يحتاج إلى سند، خلقت للكرسي معطفا – يشبه معطف غوغول- غير أن المعطف يحتاج إلى سند، كان عليّ التماهي بالمعطف الغوغوليّ لكي أتحسَس نهر القطائع التي تتهتك هناك، حدقت قليلاً إلى وجه تيبّست عليهِ حروب الأزمنة السابقة/اللاحقة. (ماتزال اللعبة في أول غيثها)؛ ربما خلقتُ للمعطف الغوغوليّ تمثالاً غير أن التمثال بقي بلا سند، وضعتُ تحت التمثال كأساً تسندها غير أن الكأس بلا سند، جعلت للكأس رأسا بألف قرن وعين وأذن مقطوعة وأنف وشِدْق ولسان وسخ وظِلْف ككبد الطير غير أن الرأس بلا سند، صَيّرتُ للرأس أغصانا غير أن الأغصان ظلت بلا سند، كان العراء المبلل منشورا فوق حبل السّرة وكانت النطف اللافقارية تتفتت فيه، ترى ملامح الوجوه النبيذية تطفو كبراز نيّء فوق فوهة فراغ هائل، لكن، ما الذي يجعلني الآن أفكر بالأغصان كي تنبت هذه الأوراق الذابلة في شراييني؟ أنا ما أفكر فيه، ما الذي يملي علي أضغاثه اللبونة إذن، وقد كنت بلا أفئدة وصارت لي دمًى وحبالٌ وأصابع؟ أسمع أصواتا كثيرة وأرى ما تكتمه المصابيح، أسمع أصوات الصخب العنيد ترتجف على أسرة الخلائق، أصوات ذائبة تزدحم بداخلي وتتناسل، أصوات رئات تأتي من بعيد وتعبرني، هكذا، فكرت في الأغصان وفكرت في الشجرة، خلقت للأغصان شجرة غير أن الشجرة ظلت بلا ظل وتحتاج لما يُسنِدُها، خَلقتُ تحت الشجرة سمكة وحشيّة اسمها ” بَهَمُوت “، سيّجتُ “بهموت” بفقاعة أشدّ جحيما من عرش في جحيم دانتي، أثثها بهياكل عظمية لقراصنة ماتوا غرقا وجماجمَ كنعانية من البحر الميت. رتبتُ الظلمة والنورَ وعمى الألوان ومتلازمةَ الطقس فوق السّريرِ وفتحت علبة حدس واحدة، ثم قلت: فليخرج الجسدُ كل أعشابه وغلاله. ناديت بأسمائي وأسماء الزبانية التسع، فُتِح الثقب الأسودُ فجاءت كائناتي صفاً.. صفاً:
غراب آلن بو؛ كبش قابيل، هدهد سليمان؛ حصان امرئ القيس؛ حصان طروادة؛ خيل داحس والغبراء؛ ثيران جيرنيكا؛ بومة منيرفا؛ أزهار بودلير؛ حمامة نوح؛ ناقة صالح؛ ماموت السرغيني؛ أحدية فان كوك؛ ملائكة دافنشي؛ زجاجات أبي نواس؛ جرذان بوذا؛ بجع بنطلحة؛ ديك سقراط؛ سيميرغ العطار؛ حمار العُزَيْر؛ قردة داروين؛ كراكي الكرديّ وجنادبُه؛ أسُود كليلة ودمنة؛ جحش خوان رامون؛ براقُ دناسةِ القَصْد؛ بعل آشور؛ نمور بورخيس؛ فيل أَبْرَهة؛ أفعى موسى؛ ديدانُ زَفزاف وسلاحفه؛ حشرة كافكا؛ حوت يونس؛ ققنس بوزفور؛ قوارض السد؛ دبّ ماوكلي؛ ذئب هيرمان هسه وحيوانات الجاحظ..
تلَوْتُ عليهم وصايا احتمالاتي وما اكتشفته سهوا من ألواح حمورابي وحفريات الجسد البائدة،
مزّقت ظلي ومظلتي وطفوت؛
راكمت الأخطاء فوق بعضها..
وفوق بعضها..
وفوق بعضها…
وفوق بعضها.. إلى آخر الأغنية،
ثم تشبث بفراغ كالثور
واستويتُ على جناح ذبابة.
التعليقات مغلقة.