الكلام المتآكل – عبدالحي عيادي

كنت أزحف إليك، تراني أتمخض لحظاتي، مشدودا لحصار يشيد غيابي، ما يربطني بالشمس وجع الغروب، كل الوقت أردد كلاما متآكلا يمدني أو يمدكم أو يدمهم بامتلاك زرقة البحر أجدهم و أجدكم و أجدني منهمكا في ترديده باعتزاز ساذج، حين تصفعني تلك الصورة ولا أعلم هل تصفعكم أو تصفعهم أيضا، ثم أصرخ و أصرخ و… وأعلم أن الكل يسمعني ويتجاهلني نظرا للانتشاء بالكلام المتآكل لكني لازلت أنسل وأزحف إليكِ، أتوسل و أتجاهل ذلك الثغر الذي يشفطني يدخلني في دوامة الشك، كأني الصبح في تطلعاته، كأني الليل في رؤيته، أتعامى عن تلك الصورة.

استيقظت هذا الصباح، كان الوقت متأخرا، لم أكن منفعلا كعادتي أو منزعجا، ذلك لأنني تعهدت مع نفسي بأنني لن أردّد الكلام المتآكل مرة أخرى، بل أكثر من ذلك سأحاول أن لا أسمعه من الآخرين حتى لا أُصْفَع من قِبل تلك الصورة التي لا أقوى على تجسيدها قولا.

نهضت من فراشي بتكاسل، كان الصبح نسختا متكررة، دخلت المطبخ، بدأت بتهييء قهوتي، تبادر إلى سمعي صوت مذياع من أحد بيوت الجيران الذين لا أطيقهم ولم أطقهم يوما، كانت المذيعة تثرثر كعادتها، فجأة بدأت أحس بالكلام المتآكل يهرع إليّ، أحسست بوضع الخطر، بدأت أدندن كأني لا أهتم للأمر، لكنه لم يجد نفعا، فهرعت بإخلاء المطبخ ثم المنزل بعدها.

في الشارع كان الكل يغلي حركة هنا و هناك، الأطفال الصغار مشتتون كالجراد، يتدافعون، يتشاجرون، وكلما مروا بشيء يْخلَفْ الله فيه.

كان بَّا السَّرْبُوتْ كعادته جالسا على كرسيّ من البلاستيك يتناول حلوى فليو، ويشاهد زمن المنكر الذي يعجبه كثيرا، ويتمنى لو أنه جاءه في ريعان شبابه، توجهت صوب محطة الحافلة، عند اقترابي رأيت كمال يقترب مني، قلت في نفسي ها هو الطاعون البشري قادم، صافحني قائلا:

– كيف الحال؟

– بخير، وأنت؟

– الحمد لله.

بدأنا نتحدث، تحدثنا في كل المواضيع، تدريجيا بدأ الكلام المتآكل يخرج من فم وجه النَّحس هذا، سيعكر صفو صباحي، قاطعته قائلا: لقد تأخرت الحافلة سآخذ سيارة أجرة، إلى اللقاء، ابتعدت راكضا قبل أن يلحق بي، احتفلت بانتصاري عندما أقلعت سيارة الأجرة.

كنت ذاهبا إلى المكتبة، قلت: كل الطرق تؤدي إلى المكتبة، اخترت طريقا ومضيت، كانت الطرق تعج بالسيارات، كما تعج الأرصفة بالمتسولين و الشمكارا، عند وصولي دخلت وانغمست مباشرة في اختيار الكتب، تفاجأت في لحظة، هنا أيضا زرع الكلام المتآكل؟! وبسرعة اخترت كتابا وخرجت.

في طريق العودة كانت الطرق تنطوي أمامي، كل الفتيات الجميلات بمؤخراتهن المختلفة في وجهي، أكاد أجن، أرمي نظرة لهته، كلمة عذبة لتلك، عند المحطة قلت لإحداهن: ما أجمل ثديَيك! دمدمت قليلا ثم قالت بضع كلمات متآكلة، قلت: يا إلهي هي أيضا؟!

هرعت إلى الحافلة، كنت مصدوما، لم أكلم أحدا و لم أتوقف إلا في المنزل، أغلقت الباب على نفسي، فكرت: يبدو أننا عبارة عن هذا الكلام المتآكل وأنه لا مفر من هذه الصورة التي تلاحق ذهني وتجبرني على تجسيدها في كلام يلغي الوهم، يلغي تبجحنا، و يلغي وصولي إليكِ واعتزازي بكِ، أنا لا أظلم نفسي و لا أظلم أحدا لكن هذه الصورة هي الحقيقة، لا تقلقي إذاً إن أقصيتكِ لكن أناي تندثر، أناهم تندثر، أناكم تندثر، إن الأنا هنا اندثرت.

استلقيت حينها أرضا، أحسست بارتياح رائع، فقد تجسدت الصورة أخيراً ثم ضحكت حتى بانت أسناني كلها.

 

التعليقات مغلقة.