“العقاب” لـ الطاهر بنجلون… واقعية خالية من الرتوشات والمحسنات – نزار غالب فليحان
نزار غالب فليحان
لمنصة “رصيف 22″، وفي رده على سؤال حول كيفية تعاطيه مع ذكرى اعتقال دامت ثمانية عشر عاماً في معتقل “تزمامارت”، يقول “أحمد المرزوقي” الضابط الذي تورط في “محاولة انقلاب الصخيرات” التي كانت تهدف إلى تصفية الملك الحسن الثاني في العاشر من يوليو من العام 1971:
(هي ذكريات مؤلمة أعيشها ككابولس رهي ، فكل مرة يأتي هذا التاريخ أفكر في أصدقائي الذين تركتهم مدفونين في معتقل العار، و لغاية الساعة لم ينالوا فرصة الحصول على شاهد يدل على مكان رفاتهم. فهيئة الإنصاف والمصالحة التي ملأتِ الدنيا هديراً بالحديث عن حقوق الإنسان، طبقت المثل السائد “كمْ من أمورٍ قضيناها بتركها”، ذلك أنها وعدتنا بتحديد هوية كل قبر، وبناء متحف في تلك الربوع المنكوبة، وتشييد مدرسة ومستوصف، إلا أنها تخلت عن ذلك، وضربت صفحاً بكل الوعود التي أعطتها. وحتى اللحظة، لازالت عائلات الضحايا تجهل مكان دفن أبنائها. شهر يوليو بغيض بالنسبة لي، يجسد ذكرى ظلمٍ فاحشٍ ما أنزل الله به من سلطان، ظلم انتُهكت فيه كرامة الإنسانية بشكل غير مسبوق، فما عانيناه على امتداد قرابة عقدين من الزمن، لا يستطيع وصفه أي إنسان ولو أوتي بلاغة بني البشر جميعهم. باختصارٍ أقول لك، إن قساوة الإنسان حين لا يردعها رادع، قد تفوتُ في شدتها ضراوة كل الحيوانات مجتمعة.).
كان يمكن أن يكون “الطاهر بنجلون” أحد شخوص رواية “تلك العتمة الباهرة”، حيث كان يمكن أن يكون أحد رفاق “المرزوقي” الناجين، أو ربما أحد ضحايا معتقل “تزمامارت” الذين غيبوا في الصحراء ثمانية عشر عاماً بعد أن زُجَّ بهم في تنفيذ محاولة انقلاب فاشلة على الملك “الحسن الثاني” قادها الجنرال “محمد أوفقير” الذي كان اليد اليمنى للملك في قمع الشعب المغربي وقتل أي حراك معارض والتفنن في التعذيب وصياغة أمثولات ترعب كل من تسول له نفسه المعارضة. “أوفقير” ذاته الذي اعتقله الملك بعد فشل الانقلاب وأعدمه واعتقل جميع أفراد أسرته أكثر من عشرين عاماً.
لكن إطلاق سراح “الطاهر بنجلون” ورفاقه الذين اعتقلوا بعد مظاهرة سلمية طالبت بالحرية مَكَّنه من الإفلات من مصير من سيقوا بعدهم مباشرة إلى معسكر/معتقل “الحاجب” وأقحموا في انقلاب لم يكونوا على دراية به، قالوا لهم إن حياة الملك في خطر و إنهم في مهمة لإنقاذه، أدخلوهم قصر “الصخيرات” وأمروهم بإطلاق النار على الجميع، تحولت حفلة عيد ميلاد الملك إلى مجزرة، نجا الملك، واعتقل المنفذون إلى “تزمامارت” ونفذ حكم الإعدام بالجنرال “أوفقير”، صاروا هم شخوص رواية “تلك العتمة الباهرة” وصار “الطاهر بنجلون” بطل رواية “العقاب” و راويها.
ورغم أن أحداث رواية “العقاب” سبقت أحداث رواية “تلك العتمة الباهرة”، إلا أن الأولى نمت على ضفاف الثانية، لأن “الطاهر بنجلون” تردد في نشر “العقاب” والإفراج عنها خمسين عاماً، وجعل الفصل الذي أسماه “المفاجأة” فيها الحبل السري الذي يربط بين الروايتين.
في “العقاب” تنهج السلطة المتمثلة بالجنرال “أوفقير” نهجاً يدخل الحدث في التباس متعمد بين أن يكون احتجاز الشباب المتظاهرين المطالبين بالحرية إنما حصل لإخضاعهم لخدمة عسكرية إلزامية لم تكن معتمدة حينذاك، أو أن يكون اعتقالاً سياسياً بغطاء خدمة عسكرية يمكن أن يتم من خلاله تصفيتهم في حرب مع الجارة (الشقيقة) الجزائر أو زجهم في محاولة تصفية الملك والانقلاب عليه.
في “العقاب” سيرة “الطاهر بنجلون” ورفاقه في تلك المرحلة من حياة المغرب، حينها لم ينفع تقرير الطبيب الفرنسي في أن يعفي “بنجلون” من أن يساق إلى المعسكر/المعتقل، التقرير الذي يقول أن خصية “بنجلون” اليسرى مشوهة، فيحلقون شعره ليتحول إلى شخص آخر، و يقع تحت سيطرة “عَقَّا” و “اعبابو”، ويقيم في زنزانة وصف ساعة ولوجها أنها (عالم مجنون انقلبت معاييره و كأنه يوم القيامة وكل شي ليس كما يجب أن يكون)، كان أبوه قال له يوماً: (إنه ضل في ميدان ليس له، حين أراد أن يتعلم السياسة أي قيادة الناس لكنه فشل). الفشل الأبوي الذي جعل دائرة الرقابة الذاتية تتسع من الأب إلى عموم الأسرة، لكنها على ما يبدو لم تتسع كفاية أن تطال “الطاهر بنجلون” فتنقذه، فكان أن اعتقل.
كان معتقل “ثكنة الحاجب” ورشة لإذلال الطلاب بدأت بشفرة حلاقة الرأس المثلمة التي تُسيل دم كل رأس تطاله، ومرت في عبث قائد المعسكر الذي يطلب من الطلاب ابتناء جدار ثم هدمه، حتى الخروج في مناورات بالرصاص الحي تسقط ضحايا وتُخَلِّفُ جرحى.
وفي “العقاب” تنتهي مغامرة “الطاهر بنجلون” ورفاقه بإطلاق سراحهم بعد أن يوقِّعوا على وثيقة يقرُّون فيها أنهم تلقوا خدمة حسنة و يشكرون فيها القوات المسلحة، وتنتهي مغامرته الشخصية بأن يغادر بلاد شأنها شأن كل بلاد القمع، بلاد كانت ومازالت بيئة طاردة (تُعَلِّقُ عاشقيها).
روى “الطاهر بنجلون” حكاية “العقاب” بكل بساطة دون أن يُعْمِلَ فيها لغة المبالغة ودون أن يلعب على وتر التشويق، ربما لأنه كان بطل النص، فلم يشأ أن يضع على لسان الرواي – لسانه – إلا ما حصل فعلاً، في اقتراب شديد من الواقع ربما أفقد النص بعض متعة الترقب ليصبح أقرب إلى الشهادة على حدث مؤلم، ولعل صدمة ما جرى في “تزمامارت” “تلك العتمة الباهرة” من فظاعات وتنكيل جعل “بنجلون” يرى ما جرى في “الحاجب” “العقاب” نزهة صائف.
في حديثه إلى موقع دار النشر “غاليمار” يقول “الطاهر بنجلون” عن “العقاب”:
(اتخذت قراراً أدبياً بأن أحكي ما جرى في زمن الحاضر بطريقة واقعية بلا رتوشات أو محسنات. وأن أرويها كما حدثت في وقتها، يوماً بيوم، دون أن يكون لنا أدنى علم بما سيصيبنا في اليوم الموالي).
لكن يبقى ما أدته رواية “العقاب” من توثيق لاعتقال سلطوي عبثي شيطاني كاد يقضي على العشرات من الشباب الطامح الحر عملاً كبيراً يسهم في إحالة القارئ في نصوص كهذه من القراءة والهيام في السرد والحكاية إلى تبني موقف والانتصار لقضية.
التعليقات مغلقة.