- محمد الشغروشني
كاتب وناقد مغربي
إذا كان اللعب التمثيلي جزءاً من غرائز الكائن البشري وشغبه الطفولي الغير منظم بطبيعته، فإن مسرح الطفل هو ذلك اللعب الركحي والتربوي المرتب وفق خصائص قيمية وتربوية وتقنية، تبتغي تحقيق متعة جمالية وفنية، تتناسب مع آفاق التنشئة الاجتماعية، وتحفز الطفل المتلقي على التفاعل والمشاركة، لا مع الفعل المسرحي التخييلي زمن العرض فحسب، بل مع قضايا عصره، بتلاؤم تام مع عمره الزمني والعقلي، وقد تعدى المسرح التربوي هذه الغايات والأهداف فغدا وسيلة علاجية لمجموعة من الظواهر النفسية والباثولوجية كالحبسة اللغوية”La phasie ” مثلاً.
ولذلك يقتضي الإبداع المسرحي الموجه للطفل المعرفة بالمواصفات النفسية والعقلية للفئة المستهدفة، بالإضافة إلى امتلاك الثقافة المسرحية، بغاية إقداره على فهم الرسالة الفنية والثقافية واستثمارها حياتياً وواقعياً.
وبما أن الفنون المشهدية الموجهة للطفل عموماً، والمسرحية خاصة، هي الأشد ارتباطاً بالتنشئة الاجتماعية والمقومات الثقافية المميزة لكل مجتمع، فإن استيراد هذه الفنون من ثقافات أخرى، بهدف تقديمها للطفل العربي أو المغربي هي مجازفة ذات أبعاد سلبية متعددة، بالنظر لحمولاتها السوسيوثقافية، والتي غالباً ما لا تتناسب مع عادات وقيم المجتمع المستوردة له، إذ المسألة لا يمكن تقييمها من وجهة نظر اقتصادية، لجلب مستورد أو منتوج فني بأرخص الأثمان، بل يكون المعيار الأهم هو العائد التربوي والقيمي بالدرجة الأولى.

لذلك يبقى مطلب التأليف والإنتاج المحلي الخاص بفئات عمرية طفولية ملحاً وذا أهمية قصوى، لا سيما في ظل هجمة العولمة وتذويب الهويات الوطنية؛ وهي المهمة التي يتحملها الكاتب والدراماتورج العربي، بما أوتي من إمكانات شحيحة، متمثلة في ضعف الدعم المادي والمالي، وضمور الملتقيات والمهرجانات الخاصة بمسرح الطفل.
في هذا المضمار جاء إصدار الأستاذ عبد المجيد باقاسم الموسوم بعنوان “دعونا نمثل”، متضمناً لثلاث نصوص مسرحية موزعة على مساحة ورقية من 106 صفحات، بالإضافة إلى تقديم وافتتاحية.
وبالنظر إلى أن النصوص الدرامية الثلاث متنوعة من حيث الصيغ والتقنيات الدرامية والموضوعات المهيمنة، فقد أمكن مقاربتها وفق الخطاطة التالية:
“الحطاب” أو دراما المتوالية الحكائية:
ينبني النص الدرامي “الحطاب” على حكاية الأميرة المختفية وسط الغابة، والتي تم تحويلها إلى شجرة، بعد أخذ نضارتها وجمالها من طرف الساحرة العجوز؛ وتمثل هذه الحكاية الرئيسية في النص إطاراً لمتوالية حكائية، منها حكاية الرجل الحالم بالغنى والثراء، وحكاية الساحرة مع الأميرة .
وفق هذا البناء الدرامي الخطي للأحداث، بدءاً من العقدة/اختفاء الأميرة وتحويلها الى شجرة، وصولاً إلى الحل/استعادة كينونتها البشرية، عن طريق فك الحطاب لطلسمها السحري، يستهدف المؤلف استدماج المتلقي/الطفل في لجة الأحداث الدرامية، ليستمتع بلذة الحكي على المستوى الجمالي، وليتلقى رسائل الخطاب المسرحي، متمثلة في قيمة العمل مقابل الحلم، حيث يقول الحطاب مخاطباً أمه بصدد حكاية الرجل وجرة السمن:
” أم الحطاب: رجل غير محظوظ
الحطاب: بل قولي رجل ضحية حلمه الزائد، المهم لا وقت لدي، فأسي تناديني والغابة تتمنى وصولي”.[1]
وقيمة الغطاء النباتي/ الغابة كرئة للعالم، والذي تعتبر فيه الشجرة كائنا حيا وأميرة النباتات، وجبت المحافظة على حياتها، لذلك فقد توسطت الأميرة لدى أبيها السلطان لتبرئة الحطاب من تهمة خطفها، وليمكنه السلطان من عيش كريم وسط الغابة دون قطع أشجارها: “إنه لا يستطيع ترك الغابة، أُأْمُر له ببيت وسط هذه الغابة هو وأمه، واجعل له معاشاً حتى يبتعد عن قطع الأشجار” .[2]
“دعونا نمثل” أو تمارين في الارتجال:
انطلاقاً من أن الطفل ليس متلقياً عادياً، بل كائناً قادراً على الإبداع التمثيلي، بما يمتلكه من مكتسبات وقدرات على التشخيص، يقترح النص الثاني “دعونا نمثل” مرتجلة، تقوم على تدريب الأطفال ابتداع أفكار ووضعيات ولعبها ركجياً.
” المقدمة: سيداتي ..سادتي.. ضيوفنا الأعزاء يؤسفنا أن نقول لكم (بالدارجة) المسرحية ما كيناش
الممثل 1: او أشنو المعمول، نبقاو جالسين هكذا ” .[3]
ومن ثم تتخذ فرقة التمثيل الحياة المدرسية موضوعة للعب المسرحي في قالب كوميدي، يوزع الممثلون خلالها الأدوار بينهم، ويعبرون عن مواقفهم اليومية من البيت والمدرسة بأسلوب هزلي، ويستعرضون مهاراتهم التشخيصية، قبل أن ينتهي المشهد لتدخل الفرقة في دورة ارتجالية جديدة:
” الطفل/المعلم: صافي ما بقيت لا أستاذ ولا حتى حاجة، شوفو ليكم شي لعبة أخرى، هاذشي غير التخاريف التخاريف
طفل: (ينادي أصحابه) هي..هي..لدي اقتراح (يتحلق الجميع حوله) لماذا لانمثل فلسطين ,,تلك الأرض السليبة…” .[4]
وبالتالي فإن المرتجلة تتناوب بين الكوميديا والتراجيديا، يتولى الأطفال/ الممثلون داخل أحداثها وخارجها تنظيم فوضى الركح، والتعبير عن قدراتهم التخييلية، ومعارفهم المكتسبة حول كل موضوع مقترح.
“رحلة أحمد” أو دراما المكاشفة:
يشتغل النص الدرامي “رحلة احمد” على موضوعة التسرب الدراسي، بوصفها أحد أسباب التشرد الذي يصيب أطفال تلك الفئة الاجتماعية الرازحة تحت أثقال الفقر والهشاشة، الشيء الذي يجعل أطفالها ضحية للإهمال واللامبالاة.
فالطفل أحمد كما يعرضه النص، هو نموذج اجتماعي للطفولة المحرومة من حقوقها الإنسانية في التعليم والرعاية التربوية والاجتماعية، سيُرمى به لاحقاً في حيرة أشد ايلاماً، وأكبر من عُمْرَيْه العقلي والزمني، لقد وقف أحمد أمام اختيارين أحلامها مر، بين مطلب المدرسة ولامبالاة والديه:
” أحمد : (حوار داخلي) أنا نكولها لبا.. أنا نكولها لو.. كيف ندير.. لا لا لا.. ديك المرة كلتها لو، حلف ما يجي معايا للمدرسة وقال لي: أنت عارف أش درتي، دبر لمحاينك(…) ولا مشيت للمدرسة بلا با، ما غاديش يخليوني ندخل …او أشنو المعمول..أشنو المعمول” .[5]
هذا السؤال الحائر للبطل أحمد، لا يعكس مظاهر اللا توافق واللا تواصل بين الأجيال وبين المدرسة والمجتمع فحسب، بل يفتح سراديب المهانة وعمالة الأطفال، ويدفع للبطل إلى أن ينضاف لقوائم الموتى أو المفقودين عبر تفكيره في الهجرة السرية .
لقد اعتمدت نصوص المجموعة الدرامية “دعونا نمثل” على استلهام المؤلف لمرجعيات ثقافية وفنية متنوعة، سواء على مستوى الموضوعة أو الصيغ الدرامية وتقنيات التمسرح وإنتاج الفرجة المسرحية، من خلال توظيف المخزون الحكائي العالم والشعبي، وتثوير أغاني الطفولة، كما يتضح من أغنية “أشتاتاتا أوليدات الحراثة…”؛[6] وعلى المستوى الجمالي والتقني باستثمار صيغ الكتابة الخطية تارة، والتغريب البريختي بتوظيف الراوي والاستعراض الغيري تارة أخرى، بالإضافة إلى الاستفادة من تقنيات الارتجال والكوميديا دي لارتي واللعب بالأقنعة.
إن التنوع الموضوعاتي والجمالي في المجموعة، يضع القارئ المفترض لها، سواء كان دارساً أو مخرجاً أو متلقياً، أمام مساحة من الاختيارات النصية والمسرحية، تبوئها ميزة القيمة المضافة في المشهد المسرحي الموجه للطفل تلقياً وإبداعاً.
[1] عبد المجيد باقاسم: دعونا نمثل، مسرحيات للصغار، إصدارات أمنية للإبداع والتواصل، الطبعة الأولى، 2018، ص 26
[2] عبد المجيد باقاسم: المرجع السابق ذكره ص 43
[3] عبد المجيد باقاسم: المرجع السابق ذكره ص 50
[4] عبد المجيد باقاسم: المرجع السابق ذكره ص 59
[5] عبد المجيد باقاسم: المرجع السابق ذكره ص 88
[6] عبد المجيد باقاسم: المرجع السابق ذكره ص 83 و 84
التعليقات مغلقة.