الجوائز الأدبية العربية: ظِلال المبدع وبلاط المانحين – نزار غالب فليحان

نزار غالب فليحان

“إن جائزةَ نوبل تشبهُ طوقَ النَّجاةِ الذي يتمُّ إلقاؤه لأحدِ الأشخاصِ، بعد أن يكونَ هذا الشخصُ قد وصلَ إلى بر الأمان و لم يعد عليه من خطر” “إنَّني أغفرُ لنوبل أنَّهُ اخترعَ الديناميت، ولكنَّني لا أغفرُ لهُ أنَّهُ أنشأَ جائزةَ نوبل”.

هذا ما قاله الكاتب الإيرلندي جورج برنارد شو بعد أن رفض جائزة نوبل للآداب في العام 1925. وكذا فعل الفرنسي جان بول سارتر عندما رفض جائزة نوبل في العام 1964 قائلاً:

“حُكْمُ الآخرينَ عليْنا، ما هو إلَّا محاولةٌ لتحويلِنا إلى موضوعٍ وتشييئِنا، بدلَ النَّظرِ إليْنا كذواتٍ إنسانيةٍ”. ووصف سارتر الجائزة بـ “قُبلة الموت” بمعنى أنها – أي الجائزة – ستصبح القيمة التي تتفوق على الكاتب وتحتل مكانته. وقال أيضاً: “ليس الحال نفسه أن أوقع باسم جان بول سارتر أو أن أوقع باسم جان بول سارتر الفائز بجائزة نوبل، يجب على الكاتب أن يرفض تحويل نفسه إلى مؤسسة”.

وفي العام 1958 مُنِحَ بوريس باسترناك جائزة نوبل للآداب عن روايته “دكتور زيفاكو” التي ظلت ممنوعة من النشر حتى بيروسترويكا غورباتشوف.

لكن باسترناك رفضها مُكْرَهاً بعد الضغوط التي تعرض لها من حكومة بلاده – “الاتحاد السوفياتي” آنذاك – و تهديده بمنعه من العودة إلى البلاد حال سفره لتسلم تلك الجائزة،  وهو  وإن رفض الجائزة مُكْرَهاً، لكنه آثر البقاء في وطنه، أي أنه فَضَّلَ قيمة سامية – كما يرى – على قيمة مادية نهاية الأمر، تجلى ذلك حين أرسل إلى رئيس الوزراء خروتشوف خطاباً عن رفضه الجائزة قائلاً : «ترك الوطن يساوي الموت بالنسبة لي”.

أما الروائية الأميركية أورسولا لي غوين فقد انتصرت بدورها للكاتب البولندي ستانيسلو ليم الذي جردته جمعية كُتَّاب الخيال العلمي في أميركا من عضوية الشرف مدعية أنه جاسوس للشيوعية بسبب انتمائه لدولة اشتراكية حين كانت بلاده بولندة تخضع سياسياً لسيطرة الإتحاد السوفياتي أثناء الحرب الباردة بين القطبين السوفييتي و الأميركي.

لذا قررت لي غوين التنازل عن عضويتها في الجمعية و كذلك رفض جائزة “نيبولا” التي كانت الجمعية قررت منحها إياها عن روايتها القصيرة “مذكرات الورد” بسبب التعصب السياسي للجمعبة.

وعلى ندرته في عالمنا العربي، إلا أنه حصل أن رفض الروائي صنع الله ابراهيم جائزة “ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي”  المقدمة من حكومة الرئيس الأسبق حسني مبارك.

وقد علَّل صنع الله ابراهيم رفضه تلك الجائزة بالقول : “أعلن اعتذاري عن عدم قبول الجائزة لأنها صادرة عن حكومة تقمع شعبنا و تحمي الفساد، وتسمح للسفير الإسرائيلي بالبقاء في مصر في حين أن إسرائيل تقتل وتغتصب”.

هذه المواقف تعكس مدى ثقة المبدع برسالته، ومدى انتصاره للمادة الفكرية و الأدبية التي تولد بين يديه، ومدى تصالحه مع ذاته، وتعكس أيضاً قناعة المبدع بقوة موقفه وارتباطه الوثيق بالقارئ كمرآة حقيقة هي الأصدق في تقييم أي منجز إبداعي.

عربياً، وفي الآونة الأخيرة، نلحظ لهاثاً محموماً نحو نيل جوائز تقدم نفسها عبر هوية أدبية بعناوين براقة ومغرية، لكنها تدور في فلك المادة والتثاقف والترف وإضفاء حالة من التميز والتمظهر بمظهر دعم الحركة الإبداعية العربية و المساهمة في تطويرها.

قد لا تعني غايات الجهة مانحة الجائزة و مراميها لمن يسعى باتجاهها من الأدباء شيئاً، لكن ثمة حقائق لا يمكن نكرانها أو التعامي عنها والقفز فوقها، إِذْ لا يكفي مثلاً أن تمنح مؤسسة حكومية جائزة أدبية تكلفها الملايين، لتغسل عار اعتقال شاعر “ارتكب” قصيدة عَرَّى فيها فساد السلطة وبطشها، و لا يكفي أن تمنح مؤسسة حكومية أخرى جائزة أدبية تكلفها الملايين، لتنفي عنها قمع ومصادرة حرية الرأي و إغلاق دائرة التعبير والبوح لتصبح مقتصرةً على ما يدور في فلك التمجيد و الإشادة و التسويق و وقفاً على من يسيلون حبر أقلامهم في هذا الاتجاه.

وحيث أن المبدع لا يجهل هذه البديهيات حين تغريه الجائزة، لا بل إن بعضهم يتحرى عنوان الجائزة و ضوابط منحها، فيقبلها على علة وضعها محاذير و معايير تسلبه حريته و تضعه في سياق لا يخرج عنه قيدَ رأي أو موقف أو حتى مشهد حميمي، فينجز مادته الأدبية على مقاس الجائزة، لينصاع ويخضع بالتالي لإرادة إدارة الجائزة، متغافلاً عن ذاته وعن ما يفترض أن يتحلى به من قيم ومبادئ.

في الأساس، ومن حيث المبدأ، النص هو الذي يمنح الجائزة قيمتها، وليس العكس، والقارئ هو الذي يقيم المنجز الإبداعي بمصداقية أكبر من مصداقية لجنة تحكيم منتقاة بمزاجية مانح الجائزة، اللجنة التي ستقول كلمتها بالمبدع على حدِّ مسطرتها التي تُقصي من تشاء وتُدني من تشاء وفق أهواء شخصية و دوافع ذاتية مؤتمرة بتعليمات أصحاب الجائزة و واهبيها.

إذا كان الأمر مادياً، فما يحدث في عالمنا العربي مخالف للطبيعة، إذْ إن الدعم المادي يجب أن يسبق إنجاز النص، وفق تجارب كثيرة ناجحة، بحيث يعطى الكاتبُ منحةً مالية ليتفرغ بعدها كي ينجز نصه و يشهره دون إملاءات و شروط مؤسسة أو فرض وصاية جمعية أو وضع محاذير سياسية أو دينية أو اجتماعية أو جميعها، من شأنها أن تقضي على الروح الإبداعية لدى الكاتب.

و إذا كان الأمر تشريفاً، فبالطبع لن يكون من مؤسسات حكومية أو شخصيات ثرية هدفها إضافة ميزة جديدة لمقامها على المستوى الثقافي والأدبي كي تجد لها موطئ قدم في فلك الأصالة و العراقة و الإبداع.

هكذا تلعب الجوائز الأدبية في عالمنا العربي دوراً سلبياً ينعكس في تشويه تيمة الإبداع لدى الأدباء العرب الطامحين، حين تُسَوِّق أن جوائزها هي الهدف المرتجى والأسمى، وأن المبدع إنما يبلغ ذروة مناه عندما يحصل على إحدى جوائزها، فيقع فريسة الغرور مرة و العجز عن تحقيق ما هو أفضل مرة ثانية، و لعل الأكثر خطورة يكمن في انفصال المبدع عن الواقع الثقافي و الأدبي والشعبي ليتحول إلى تحفة على رفوف المؤسسات المانحة، تحفة قد تُستدعى يوماً ما للمساهمة في تتويج غيرها، و ليس تسليط الضوء على أعمال بعينها قد تكون على مستوى من الرداءة سوى أحد أبرز مساوئ مثل تلك الجوائز، و لا ننسى حرص الكثير من الجوائز على دعوة اسم من الأسماء اللامعة في عالم الإبداع وحشره في قائمة الأعمال المرشحة لنيل الجائزة كي تضفي جواً من الإثارة عليها و ترفع من قيمتها.

أما على مستوى العامة، فإن الجوائز تلعب دوراً سلبياً من خلال الإيهام بأن الأعمال الأدبية التي اصطفت في قوائم طويلة بانتظار الحكم عليها إنما هي الأعمال التي يجب أن تُقرأ، وتزداد أهمية وضرورة قراءة عمل ما كلما سجل حضوراً على قائمة أقصر.

أما شعار أن تدعم مؤسسات الدولة العربية والمال العربي الحركة الإبداعية العربية، فهو شعار بائس ومخادع، يجمع بين رأس السلطة ورأس المال في ضفة و رأس المبدع في الضفة الأخرى، ففي حين يخضع الرأس الأول لشروط السيطرة و القمع و الإقصاء، ويخضع الرأس الثاني لشروط السوق، ينعتق الرأس الثالث – هكذا ينبغي – من كل قيد و مانع، ليبدو المشهد أقرب إلى الفانتازيا، تجد فيه المبدع على منصة التكريم في حالة من الغربة و الاستغراب و الذهول، فهو للتو كان يحكي لنا عن صحون الفقراء الفارغة و خيام المهجرين التي اقتلعتها الرياح و هدمتها الثلوج وأصابع المعتقلين التي سالت على قضبان الزنازين، ليجد نفسه في قاعة كل شيء فيها يوحي بالأبهة والترف والسطوة، وربما فكَّر أحدهم في هذه اللحظة بأن يرمي الجائزة في وجوه الحاضرين، يُحلِّقُ بعدها بجناحين طليقين يدركان أن الحرية لا تُسامُ و لا تُساوِمُ.

في هذا المقام ربما يجدر طرح أسئلة مثل:

أين رسالة المثقف العربي، إن كان ثمة رسالة يمكن رصدها؟

هل هبط الإبداع إلى درك التكريم الحكوماتي و الشخصاني، في حين يجب أن تكبر الجوائز والتكريمات بالأعمال الإبداعية وليس العكس؟

هل باتت الشهرة والحضور الإعلامي هدف المبدعين، بحيث بتنا نرى العديد من الكاتبات والكتاب في أماكن لاتتفق مع قاماتهم الإبداعية وعلى منابر دون عطاءاتهم؟

هل غزا الاستهلاكيُّ الإبداعيَّ في عمقه وحَوَّلَهُ إلى مادة تخضع لمعايير البازارات السياسية والشخصية و المادية؟

لا بد لكل مبدع سبب لقبول جائزة لا يمكن أن ينازعه عليه أحد كونه سبباً يخصه وقراراً شخصياً نهاية الأمر، لكنَّ أسباب رفض الجوائز سيما تلك التي لا تضاهي قيمة المنجز الإبداعي كثيرة ويتسع نطاقها بحيث تتعدى فردانية قبولها أو عدم قبولها من قبل المبدع وحده، سيما إذا كانت علاقة هذا المبدع عضوية قوية ومتينة برسالته ومشروعه ومحيطه الذي هو في الأساس التربة الخصبة لإنبات إبداعاته.

واللائق أن يكون المنجز الإبداعي طريدة الجائزة، لا أن تكون الجائزة طريدة المبدع، لأن المبدع أولاً والمنجز الإبداعي أولاً، أما الجائزة فينبغي أن تكون آخر الانشغالات، فنحن عندما نقدم الجائزة على الإبداع فإننا بذلك نقر بميزة الجائزة ومانحيها مسقطين من حساباتنا المبدع والقارئ، وفي ذلك إجحاف متعمد وعوار مكين.

مهما كثرت الأسئلة وتعددت الاستفسارات، فإن الكلمة الفصل يجب أن تكون للمبدع، إنما ومن قبيل التمني، ليت المبدع العربي يسحب ظلاله من بلاط الحكومات والشخصيات ذات النفوذ المالي والسياسي حتى لا يعلقها هؤلاء أوسمة على صدورهم “اقتباس من الحاضر أبداً محمود درويش”.

التعليقات مغلقة.