أحاول أن أكون طبيعيَّة – نوال العلي – يوميات

نوال العلي

**

ثمة من يعيش معظم حياته منفرداً، السنوات الجيدة، بالنسبة للمنفرد، هي أن يتمتَّع بشيء من العافية والقدرة على العمل وتصريف معيشته دون الحاجة إلى إنسان آخر. المنعزل لا ينعزل من تلقاء نفسه، ثمة أمور تحدث، ثمة قوة قديمة، عادة ما تأتي من الماضي، تدفعه إلى قبوٍ يسقط فيه، وقد يطول سقوطه لسنوات. أصوات من الخارج تصله كأنها رصاصات بعيدة ومتقطعة. في العيش الانفرادي يسيطر التفكير على كل شيء، التفكير في طريقة ترتيب الأطباق، الكبيرة في الخلف والصغيرة في الأمام، التفكير في كم حبة بازيلاء في الصحن، وإن كان هناك من عدد مثالي. في العيش الانفرادي، لا شيء سوى أن تفكر، أنت تكبر مثل نبتة تكرهها الشمس، نبتة تنمو بين الجدران، أنت لم تحس بجسدك منذ زمن، “جسدي هو أن تنمّل قدمي، قدمي تنمّل إذاً أنا موجود”. أنت شاطر في التفكير، أنت مجرد رأس. ثمة شيء يمنعك من الخروج من رأسك ومن بيتك ثم من غرفتك، مع الوقت تتقلص إلى هذا الشيء العاجز، كل شيء يتقلص، ذكاؤك، عقلك، رغباتك، معرفتك بالدنيا، أنت في عالم تجريدي من الاشتباكات المشوهة. ستقول لنفسك “أنا بحاجة أن أموت”، لكن ثمة حبل سرة لا يرضى أن ينقطع مع الوجود. ربما لم يقطعوه حين ولدت. تحاول تذكر وجه أمك، أن ترسم لها صورة، لن تستطيع أن تراها، حتى أنك ستتساءل إن كان لك أم أصلا، أو إن كنت أتيت من رحم ما، أم أن مخيلتك تعبث بك من جديد، تجادل وتقسم أنك تشعر في قرارة نفسك أنك قابلتها، أنها كانت موجودة يوماً ما، لكن ذاكرتك لا تعطيك أي شيء يسعفك، أنت اليوم بلا براهين، ذاكرتك تتلاعب بك. أنت نبته ولدت من عفن الجدران، وعشت بينها وستظل هكذا حياً ميتاً.

**

من مدة أترك للعصافير على طرف النافذة لبَّ الخبز مفتتاً، أتركها قبل أن أنام، اكتشفت الأمر بالصدفة ثم أصبح عادة، لاحظت أنني صرت عامل الكانتين الصباحي بالنسبة إليها، وأنها بدأت تأتي كل يوم، حسنت خدماتي وأصبحت أضع الماء. تفطر العصافير مع أول لحظات الضوء، الفطور السعيد يتخلله غناء، رفرفة، عصفور منهم يلقتط فتفوتة ويبدو كما لو أنه واقف يلتهم فطوره في الهواء. أحياناً تعود خلال النهار، لكن الكانتين يكون مغلقاً. فكَّرت ألا أضع الخبز ليوم وأرى ردَّ فعلها، لكن قلبي “ما طاوعني” ، “كله إلا الأرزاق”، أقول لنفسي وأضحك.

**

أستطيع فعل الكثير لكني لا أقوى على القليل. ضقت ذرعاً بنفسي. ينبغي لهذا الضيق أن يتحول إلى شيء ما، لا يجوز أن يظل الضيق ضيقاً، لا بد أن ينقلب إلى ضفدع والضفدع إلى غابة والغابة إلى سلحفاة والسلحفاة إلى لا شيء.

**

أفكِّر أنه من الجيد أن اللغة قناص ترتعش يده في اللحظة الأخيرة، ماذا لو قلنا ما نعني تماماً من المرة الأولى وتساقطت الكلمات مثل الطيور التي يمنع صيدها؟ ماذا كنا سنفعل لو أصابت وقتلتنا المفردة الطائشة بدلاً من أن تجرحنا؟.

**

انتهيت من قراءه كتاب.. وكان هناك صحن وملعقة في الحوض.. سأغسلهما قلت لنفسي. سأعد كاساً أيضاً قبل أن أخلد للنوم.. ها هو الصحن في يدي غسلته عشر مرات ولا أدري ما يبكيني.. هل لأنني انتهيت من كتاب حلو أتألم هكذا؟ كل كتاب حلو لئيم.. يبكيني أن في قلبي بضع شلنات ترن فقط ولا يمكنني أن أشتري بها شيئا لا الحب ولا الموهبة.. ولا ربع موهبة أجرب بها حظي. أغسل الصحن فيتفلت من يدي كأنه سمكة.. يبكيني أني دخلت بساتين كثيرة ولم تطأ قدمي بستاني.

**

في شتاء 2013 قضيت وقتاً طويلاً في إحدى المستشفيات في بريطانيا، ومن شدة الملل بدأت في كتابة رسائل إلى نفسي من وقت إلى آخر:

“نون،

سأظل ممتنة للتوليب الذي طلبته ووصل منذ يومين، يمكن للإنسان أن يعود نفسه. أنا بخير، لكن أمس ساءت حالة “بيث” كثيرا. التقط الطبيب شيئا غريبا من نظرة إلى لعابها، سمعته يقول لها: ابصقي أريد أن أرى. كنت رأيتها في الصباح متورمة كأنها ميكروب كبير. لكني لم أقل شيئا. أخبرتها أنها تبدو بحالة جيدة. واستغربت حين سمعت أنها ستخرج، “نِك” ابنها الضابط ترك مأمورية وجاء كي يرافقها إلى المنزل. هذه الحركات تخيفنا في كوكب السقم، يخرج أحدهم قبل موعده، يختفي أحد من سريره، ينقل آخر إلى غرفة وحده، تهرع ممرضة في الكارادور تتبعها أخرى، وما إلى ذلك…

أما أنا، فقد مررت بيومين مزعجين فعلاً، لكن أظن الأسوأ انقضى. أقرأ ما تكتبين من وقت لآخر ويؤسفني أنك لا تكتبين سطرا واحدا من دون خطأ. البارحة أنجزت صفحتين في الكتاب، لن أدخل في التفاصيل، لقد وجدت عكازا أستند عليه للعشر صفحات القادمة لكني لا أعتقد أنه سيكون مفيدا لكل العمل. أتوقع أن أخرج غداً، أفتقد شرب فنجان شاي بالقرب من النافذة.

نون،

كل ليلة أحفر جيداً بحثاً عن النوم، فيرميني انفجار مفاجئ إلى فوق، أرتطم بسقف كهف، لكني مثل عمَّال المناجم …وها أنذا سأعاود الحفر.

المرضى هنا يحبونك، الممرضات بين بين، أما الأطباء فبالكاد نراهم. إنهم كالآلهة التي لا نعرف إن كانت غاضبة منا أم علينا أم أن مزاجها متعكر والسلام…” مشفى سنغلتون/ 14 سبتمبر 2013

**

أحاول أن أكون طبيعية، غير أن التظاهر ليس سهلاً. لا يكفي أن تقف على حافة فلا تنظر إلى الأسفل، أنت تعرف أنك تعرف، وألا شيء سواك والجرف، فتهوي. تسقط مثل ثوب كان معلقاً على مسمار. بينما المرأة الأميركية تتحدث، كتبت لها رسالة على واتساب ونحن في غرفة واحدة. طلبت منها المغادرة، توقفت فجأة عن الكلام وتركت الشقة وأغلقت الباب خلفها بشويش، بعد قليل كتبت إلي “طلب الغفران أسهل من طلب الإذن، أخذت شيئا ولن أعيده إليك”. أخبرتها من أول لقاء: لا أحب أميركا، هكذا قلت جملة عملاقة من ثلاث كلمات. من بلادك أحب الموسيقى وبعض الروايات وغينسبيرغ. أنا سرحانة ومشمش مريض، الطبيب يقول Tumor، كأنني لم أسمعه، أرد عليه: لا مجرد صداع. نعود إلى البيت، نانا تمشي خلفي وأنا أحمل مشمش وأنظر إلى ظلالنا، ثمة مجهول يمشي معنا نحن الثلاثة. أعرفه، لكني أخاف أن أسميه. أنا مجرد أم خائفة على كلبها. الوقت لا يمر، كل ما أعرفه عن الوقت غلط. أريد أن أهرّب شيئاً حلوا إلى حياة مشمش، كأن أضع له رسالة حب في سوتيانتي وفي الليل أقرأها له همسا. نعم، في الأول التراجيديا ثم المهزلة، أردت أن أقول: بحبك يا مشموش، وبدا لي أن صوتي في الهمس يشبه الحف بورق الصنفرة. في 2015 عثرت على مشمش منسيا في قفص، فذكرني بنفسي، كان ذلك في اليوم الذي حاولت فيه أن أضع تعريفاً لليأس. حين عدت إلى البيت كتبت: ما اليأس إلا كلب أعمى ومحبوس وجوعان وبردان، ما اليأس إلَّا إنسان جرفه داخل ذاته، سقوطه منه وفيه. اليوم قرأت عبارة كيركجارد “وأن اليأس هو المرض حتى الموت”.

**

بعد أكثر من هروب، وصلت إلى فرنسا، ومثل كل البنات أصبح عندي قصة حب وأنا أدرس تاريخ الفن فيها، تعرفت إلى شاب عربي “مثقف”، وارتبطت بقصة حب أطلقت عليها صفات تناسبني “مجنونة”، و”عظيمة”. قررنا الانتقال إلى العيش سويا، وفي اليوم الأول من وصولي إلى شقته، دعى رفاقه لنتعارف، فاقترحت إعداد بعض الأطعمة الخفيقة قبل وصولهم (الطهي غرامي)، حاولت تشغيل الغاز، فكانت نيرانه بطيئة جداً ثقيلة وجميلة ومتمايلة، تركت المطبخ، وعدت إلى الغرفة وقلت له: نار غازك.. ممممم.. وئيدة. في خيالي كل ما هو بطيء ومتثاقل ومتمايل هو “وئيد” بالعربية، أصبحت لغتي في فترة ما مختلطة بين الفصحى والعامية, الأمر ربما يعود إلى شهور الصيف وأنا مراهقة، كانت عائلتي تمنعني من الخروج من البيت، وكنت أجد السلوى والرفقة في ثلاثة كتب في بيت عمي: “الشعر والشعراء” لابن قتيبة، و”مروج الذهب ومعادن الجوهر” للمسعودي، وكتاب آخر سيقلب حياتي رأسا على عقب لاحقا وهو “شمس المعارف الكبرى” والنسخة التي كانت لدينا مكتوب عليها “لسيدي عبد القادر الجيلاني” (مسألة متشعبة أريد أن أتناولها لاحقاً)… المهم أن كلمة وئيد مصدرها بيت شعر هو “مال الجمال مشيهن وئيدا، أجندلا يحملن أم حديداً” ولا أعرف لماذا تأثرت باكراً بكلمة وئيد ففيها اختصار بديع لحركة الجمل (عشت طفولتي مع ناقة وحوراها)، المهم قلت كلمة وئيد أمام “حبيبي” آنذاك وانفجر بحالة ضحك هستيرية: “من وين هالكلمة” أو “أنت من أي عصر؟” وأنا كنت أضحك مثله لأن الأسئلة غريبة علي وغير مفهومة بدا لي هو من عصر آخر. وحين حضر أصحابه كان يقول لهم “نوال تقول نار الغاز وئيدة” واستمرت حالة الضحك، بل زادت أكثر وأنا أشرح لهم عن جذيمة بن الأبرش الذي قيل له هذا البيت، واسترسلت كعادتي، جذيمة الوضاح، كان أبرص وكان ملكاً فابتكرت له العرب لقب “الوضَّاح” لكي لا تلقب ملكاً بالبرص، كنت أقول هذه الأمور مثلما كانت تبهرني علاقة اللغة بالسلطة والخنوع، ثم الجمال في كلمة وئيد، والتمايل والبطء في كلمة واحدة، كنت أجعل من نفسي أضحوكة ظلَّت مستمرَّة لوقت طويل، إلى أن قلت شيئاً آخر بدا أكثر إضحاكا آنذاك. الحب نفسه بدأ يصطدم باللغة عندي، كنت حسَّاسة بطريقة غير مريحة للكلمات، كنت أراقب المفردات وما حولها بحذر وتخوّف وحرص لأنني كنت مؤمنة تماماً بـ “قدرة الكلمات على الفعل”، وهذا ما جعلني وحيدة إلى اليوم وحتى أموت.

 

بوستات فيسبوك تمّ جمعها بعد الاستئذان من الكاتبة.

 

التعليقات مغلقة.