عزالدين بوركة
(شاعر وباحث جمالي)
- الفن والدهشة:
يعرف عالم الفن البصري اليوم قفزات مذهلة ومدهشة، يقف أمامها المتلقي في حيرة تتراوح بين صعوبة فهم العمل الفني وامكانية اعتبار الأغراض المعروضة أعمالا فنية من عدمها (أي مجرد أشياء). كل هذا يرافقه التقدم والتغيّر الحاصل على مستوى الأعمال الفنية عينها والتيارات التي تنتمي إليها. بل إن الفن في صيغته المعاصرة بات يطرح إشكاليات جد معقدة وملتوية ومتعددة، تخص الأثر وخاماته وطرق انتاجه وزمنيته (مدة بقائه)، في ظل الحديث عن الزوال والاندثار والهش والعابر.
وإن تاريخ الفن عموما هو تاريخ القفزات والقطائع والدهشة، ولنا أمثلة عدة في ذلك متعلقة بما أنتجه الانطباعيون الأوائل من كسر لقواعد العمق أو ما أنتجه التجريديون والوحشيون والسرياليون… ويبقى فنانو الفن المعاصر هم الأكثر قطعا وجرأة على اجتراح المواضيع أو إدماج خامات لم تكن -في السابق- محسوبة على الفن البصري والتشكيلي. إذ عرض مارسيل دوشان سنة 1917 مبولته “النافورة” الشهيرة، وعرض بييرو مانزوني عمله الشهير والمثير للجدل “براز فنان صافي 100%” في علبة محكمة الإغلاق… أو ما أنتجه فنانو البوب أرت Pop’art الذين جعلوا من مفاهيم الاستهلاك والتكرار تلج عالم الفن، أو تلك الأعمال التي صنعها فنانو فن الأرض (لاند آرت) التي خرجت عن مفهوم العرض داخل دور العرض وجعلت من الصور الفوتوغرافية بديلا عن العمل عينه… أعمال كثيرة تكاد لا تحصى، كانت لها جرأة اقتراح أساليب ومواضيع وخامات لم يتقبلها البعض إلا بصعوبة.
- الفن بين الصناعي والاصطناعي:
واليوم وفي ظل ما يشهد الفن المعاصر من صراع على مستوى الأفكار والمفاهيم والابتكارات، نشهد ظهور من الفينة إلى الأخرى أخبارا متعلقة بحدث مدهش واستثنائي على مستوى العرض أو الأداء أو حتى العمل عينه. فمنذ أيام قليلة اندهش العالم بما قام به بانكسي Banksy (اسم مستعار لفنان بريطاني- 1974)، إذ وفي اللحظة التي بيع فيها عمله الفني “فتاة رفقة بالون” في مزاد علاني في لندن، بما مقداره مليون ومائتا ألف دولار أمريكي، دمّر العمل ذاته بشكل أوتوماتيكي (تلقائي).
خلق هذا الحدث ضجة واسعة في وسط المجتمع الفني، فالفنان وعبر منصة التواصل الاجتماعي (أنستاغرام) أقرّ بإدماجه في العمل قاطعة الورق منذ سنوات قبل عرضه للبيع العلني. وهكذا دمّرت اللوحة ذاتها أمام اندهاش وأعين الحاضرين. وقد طرح الأمر تساؤلات عدة بخصوص هذا الأمر، من قبيل: هل يتعلق الأمر بعرض فني؟ وكيف لعمل مماثل لم يتم تعيينه ومعرفة ما يحتويه؟ لكن المدهش أن العمل ما أن تم تخريبه حتى تضاعف ثمنه بما يقارب الضعف ! فهل الحدث إذن، نتاج تواطؤ بين الفنان وأصحاب الدار؟
أما الحدث الآخر فمتعلق ببيع عمل فني تم تصميمه من قبل برمجية الحاسوب، لوحة “بورتريه إدموند بلامي” صنيعة خوارزميات حاسوبية، تم بيعها في المزاد العلني بما يناهز 432500 دولار أمريكي، شهر أكتوبر في مدينة نيويورك الأمريكية. فهل يمكن للآلة هي أيضا أن تنتج عملاً فنياً؟ وهل نحن أمام ثورة فنية جديدة أم يتعلق الأمر بمولد تيار من تيارات الفن المعاصر؟
يعدّ هذا العمل أول “عمل فني” من صنع الذكاء اصطناعي تم بيعه في سوق الفن وفي مزاد علني. فقد تم ابتكار خوارزمية انتاجه من قبل فنانين فرنسيين الذين وضعوا الخوارزمية عينها في خلف اللوحة. ولإنتاج هذا العمل الفني: “لرجل خيالي” من الطبقة البورجوازية في القرن 19، اعتمد منتجوه على خوارزمية درست ما يقارب 15 ألف بورتريه تعود لحقبة ما بين العصر الوسيط ومطلع القرن 20. وقد تكلف برنامج حاسوبي ثاني بتحسين دقة الصورة حتى تقارب الدقة البشرية. وتعلق هذا العمل بإثبات أنّ “الخوارزميات يمكنها مضاهاة الإبداع البشري” ! ما يعني أن عملية الإبداع يمكن أن يحاكها الذكاء الحاسوبي. لكن هل يمكن اعتبار الذكاء الاصطناعي فعليا هو مبدع هذه اللوحة؟ وأين يتمثل دور الأوصياء على هذا البرنامج؟ وإن أخذنا بكون أن هذا العمل قد أنتجه ذكاء غير بشري فهل نحن أمام عزل للإنسان من عملية الإبداع؟ إلا أن الأكيد هو أن هذا الحدث سيجعل من الفلاسفة اليوم يطرحون إشكاليات متعلقة بالإبداع وعلاقته بالإنسان المعاصر، بشكل قوي.
والأكيد أيضاً، أن الإنسانية تعرف تغيرات وتطورات ملحوظة، ومن بين هذه التغيرات يأتي ما يعرفه الفن كجزء أساسي منها.
- ما الذي يحدث ؟:
عودةً إلى عمل الفنان بانكسي -المثير للجدل- المُدمّر ذاتياً، فهل الأمر متعلق بتواطؤ بين أرباب المزاد والفنان؟ أم أن تقنيي المزاد لم يكلفوا أنفسهم عناء التأكد مما يحتويه العمل؟ والأهم هنا أن بانكسي قد أدهش العالم بهذا الحدث. لكن هل الأمر يتعلق بعملية تجارية؟ في هذه الحالة قد لا يتعلق الأمر بأداء (فني) بقدر ما هو عملية تسويقية في خدمة الفنان وأصحاب المزاد العلني في الآن نفسه. كان الحري بأصحاب دار العرض أن يراقبوا العمل وأن ينظر إليه بتمعن ! فخبراءهم لم ينظروا [على الأقل كما نعتقد] إلى ما يحتويه إطار العمل الضخم. ومهما تكن تواطؤات بانكسي من عدمها، فالحدث يدل على الذكاء التجاري الكبير الذي يمتلكه هذا الفنان، لدرجة تلاعبه بمجتمع الأعمال.
ارتبط اسم بانكسي بصفة الفنان الحالم اللطيف والذي يهتم بإعادة انتاج اليومي والهامشي… لكن هذه العملية التي أقدم عليها هذا الفنان تبيّن أن فناني اليوم هم رواد أعمال محنكين وحكماء. ويتقنون أعمال سوق الفن بشكل مثالي، لكن تظهر أيضا التواطؤ بين العارضين وأصحاب المزادات العلنية والفنانين والوسطاء لخلق قيمة مادية في أسرع وقت ممكن للعمل الفني، لكن شريطة أن يكون العمل في مستوى التحدي، والحالة هنا عمل بانكسي الشهير.
إذن، عالم الفن المعاصر هو عالم السوق والأعمال les affaires (Business)، عالم تغلب عليه الرؤية الاستهلاكية التي تنطبع بالإغراء والبحث عن اللذة السريعة والدهشة. ويبين الحدث أهمية الفكرة في الفن المعاصرة أمام العمل ذاته القابل للاندثار والزوال. إنه عمل دمّر نفسه لكن قيمته قد تضاعفت وتزايدت !.
المشترك بين عمل بانكسي ولوحة “بورتريه إدموند بلامي” هي الآلة، فالأول الميكانيكية دمرت العمل وضاعفت قيمته وأما الثانية الرقمية (الاصطناعية) التي صنعته وألغت الحضور الإنسانية اليدوي في عملية الإنتاج. فالعمل الفني بات شبه معزول عن صانعه، ولنا مثال فيما يقوم به بعض الفنانين الأكثر بيعا وصيتا في العالم، حيث يشتغل لديهم عمال كثر يقومون بإنتاج العمل بديلا عنهم. فقد صار الفنان بعيداً عن العمل، كما تقول السوسيولوجية نتالي إينيك N. Heinich، وقد سبق وأعلن أندري وارهول -في ذات السياق- قائلاً “على أحدهم أن يكون قادراً على صُنع كل أعمالي بديلاً عني”. فعديد من فناني الفن المعاصر غيّبوا أنفسهم عن عملية صنع العمل تاركينها لآخرين بدلاء عنهم، أمثال الفنان المعاصر فرونسوا موريللي؛ الذي أنتج أعمالاً كثيرة بمساعدة معاونيه. وكما هو حال الفنان الياباني الشهير تاكاشي موراكامي. وهنا بالتحديد بتنا أمام التدخل الصناعي للعمل الفني المعاصر، وبالخصوص بالنسبة للجيل الثاني المنتمين لهذا البراديغم. فصار إذن، الفنان رئيس مؤسسة ومقاولاً.
مع هذه النماذج بتنا أمام تداخل بين الفنان والصناعي والاصطناعي، إذ في عمل بورتريه إدموند بلامي فالأمر متعلق بتدخل الذكاء الاصطناعي والحاسوبي في عملية الإبداع، ما خلق جدالاً واسعاً في العالم، جدال مرتبط بسؤال امكانية اعتبار هذا العمل عملاً فنياً من عدمه!؟ وإن سبق وعرف العالم المعاصر نماذج “فنية” أنتجها الذكاء الاصطناعي، أهمها ذلك النص الشعري الذي كتبه محرك البحث غوغل Google، انطلاقاً من 11 ألف كتاب رقمي. ولوحة “رومبراندت” التي أنتجها حاسوب من صناعة ميكروسوفت بعد تحليل دقيق لأسلوب الفنان الشهير. بالإضافة لسيناريو الفيلم القصير Sunspring (9 دقائق) والذي كتبه برنامج حاسوبي متقدم، لكن كل تلك الأعمال لم تثر الضجة عينها التي أثاره “البورتريه”…
- ماذا بعد؟:
لم تعد البرامج الحاسوبية والذكاء الاصطناعي تجيب عن المطلوب منها فحسب، بل إنها باتت “تُبدع”، لكنها -وكما يرى الرافضون لهذا العمل- مازالت تنقصها خاصيات اللمس والإحساس والعفوية والوعي واللاوعي… والتي يتحلى بها الفنان باعتباره إنساناً؛ ما يجعل العديد من الخبراء والباحثين لا يرون فيما يحدث أمراً يعادل الإبداع الإنساني. فالبرنامج الحاسوبي في نظرهم لا يتمتع بـ”الحدس البشري” -ولا حتى الحس- تلك السمة التي يتمتع بها الفنان، والتي تلعب دوراً هاماً في عملية الخلق والإبداع.
الفن اليوم إذن، يعيش حالات من التطور والتغيير المرتبطان بما هو صناعي واصطناعي، بل إن أعمالاً كثيرة تم إنتاجها من قبل حيوانات (فيلة أو قردة أو قطط…) تم اعتبارها أعمالاً فنية، إلا أنها ظلت في رأي البعض عديمة الحدس أو العفوية، بالتالي إنها -فقط- صنيعة الخطاب الإعلامي الذي صاحبها. لكننا اليوم نشهد بداية عهد فني لم يعد فيه العمل الفني في حاجة إلى اليد البشرية لصنعه، وتتبناه دور عرض ومزادات علنية.. ما يطرح أسئلة كثيرة متعلقة بمستقبل الانتاج الفني. فإلى أين يسير الفن والعمل الفني؟
التعليقات مغلقة.