عزالدين بوركة
(شاعر وباحث جمالي مغربي)
- الفن في المعاصرة:
بادئ القول إن الفن المعاصر هو فن في المعاصرة contemporanéité، أي أنه ليس فن الحاضر أو الفن الذي يعاصر لنا بالمعنى الضيق. والمعاصرة هنا تأتي بكل ما تحمله من دلالات فلسفية مرتبطة بالحداثة البعدية (ما بعد الحداثة)، ومتعلقة بعالم الاستهلاك السائل والعولمة والسوق المعاصرة ووسائل الاتصال والتواصل والإعلام المعاصرة… كما متعلقة بالمؤسسات المالية الكبرى وغيرها، أي أنها نتاج تشابك بين مختلف المستويات الفلسفية والسياسية والاقتصادية والثقافية والسوسيولوجية والمعرفية… المشكلة لعالم الرأسمال المعاصر.
كل هذا التعقيد يجعلنا نتفهم عدم رضى الجمهور (أو بالأحرى شق كبير منه) -في أحايين كثيرة- لما يقدمه فنانو هذا البراديغم الجديد. فالفن المعاصر جاء باعتباره قطيعة مبرمة مع كل عملية فنية تروم إلى المطلق والمتعالي transcendantal، فهذا الفن يختلف بشكل كامل عن الفنون الجميلة (الحديثة والكلاسيكية). حيث أن العمل الفني في المعاصرة هو تجاوز لكل تلك الأمور المتعلقة بالدقة والجمال والتجربة الشخصية… إذ أن الفنان قبل المعاصرة ظل يحاول الإجابة عن أسئلة ملتصقة بكيفية التعبير عما يفكر فيه الفنان وكيف يظهره في مظهر جميل ومتقن وحسن.
لقد تغيّر سؤال الفن مع دخولنا الزمن الحاضر، إذ أن الاشكالية صارت متعلقة بكيف يمكن أن نقوم بالفن اليوم؟ وليس كيف نعبر عما نفكر فيه؟ إذ أن الفن هو الذي بات يكتسي حضوراً وليس الشيء (الفني) في ذاته، من حيث أنه مجرد غرض لخدمة الفكرة. بل لم نعد نتحدث عن أي صفة فنية وجمالية في الشيء، فالفن هو الذي يُكشف عن نفسه.
لا يعني البراديغم المعاصر العمل في الحاضر (كرونولوجيا)، بل العمل في حاضر الفن؛ وذلك من خلال أساليب وتوجهات فنية منتمية للمعاصرة: البرفورمانس (فن الأداء)، الأنستلايشن (التنصبة الفنية)، لاند آرت (فن الأرض)، ففيديو آرت، فن جاهز-الصنع…الخ. فقد غدا إنشاء عمل فني معاصر يدخل في سياق أدائي performatif واستعراضي، حيث ننجز ونعرض ما نعبر عنه، أي عرض الشيء في خامه وكما هو بلا تدخلات، وقد تكون تدخلات طفيفة من باب التركيب أو رتوشات عابرة. ما يستوجب معه إعادة التعريف المستمر للفن، الذي أضحى أكثر تخلخلاً استفزازاً وعدم استقرار.
- جمالية الاستفزاز:
يتم استفزاز المتلقي بشكل مستمر وبلا انقطاع، استفزاز متولد عن أعمال لا تتوقف على كسر الحدود، ومتولد عن توجهات فنية tendances artistiques لا تنفك تظهر وتختفي، غير متعلقة أبدا بما كان الفن عليه يوماً. ما يخلق نوعاً من التباعد بين المتلقي العادي وما هو معروض باعتباره عملاً فنياً. الففن المعاصر يشترط متلقِّياً متعلِّماً ومدركاً لا يقع. ما يخلق نوعا من الهجوم على الأعمال بنوع من الغضب، بل قد يتمادى الأمر إلى نوع من العنف، ما يعرض هذه الأعمال إلى الرفض -من قبل مجموعة من الجهور العام. وهذه هي ثاني المراحل (أي الرفض) التي تشكل “النشاط الثلاثي” الذي يدور في فلكه الفن المعاصر، كما تذهب إلى ذلك الباحثة السوسيولوجية نتالي إينيك، وذلك إلى جانب “التجاوز” الذي يقوم به العمل المعاصر للسائد، ومن ثم “الدمج”، كمرحلة ثالثة، أي دمج الأثر في الخانات والتيارات الفنية…
هذا الاشتغال النشيط للفن المعاصر والذي يولِّد ردوداً كثيرة ضده، يجبر المتلقي على تغيير وجهة نظره تجاه الأعمال الفنية، بل تجاه الفن عينه. أي إعادة توجيه رؤيته نحو الحاضر (المعاصرة) حيث الفن مختلفا تمام عن ما كان في الماضي (الحداثة والكلاسيكية). إذ لم يعد الملقي ملزما بالبحث في الأثر عن المعايير الحداثية والكلاسيكية، من قبيل الرسالة والأسلوب والرمز والتجربة والإحساس والمتعالي… فالعمل الفني المعاصر غير منوط به تمثيل présenté شيء ما. فمفهوم التمثيل قد انزاح تماما مع المعاصرة، إذ أن الأعمال المنتمية لهذا البراديغم قد تخلت عن فضاء التمثيل الذي كانت تقدمه اللوحة الصباغية المتعلقة بتمثيل الماضي، وبعكسها فالعمل المعاصر متعلق بالمستقبل الذي يصعب تمثيله.
نادرا ما يبحث “الفن في المعاصر” عن رسالة معينة لتبليغها والتعبير عنها في العمل الفني، وإن هناك أعمال تتناول قضايا راهنية وسياسية واجتماعية، إلا أن العمل المعاصر في عموميته لا يهتم بإبراز الرسالة بشكل رمزي أو إشاري… فهو لا يرتهن إلى أي علامة. وهذا ما يجعل جماهير -كثيرة- تفرّ منه حينما لا تجد فيه ما جاءت تبحث عنه.
- فن الحدث:
لا يهتم الفن المعاصر إلا بالحدث، حيث أن المعرض هو عمل واحد وحدث واحد لا تنفصل أجزاءه عن بعضها البعض، إنه حدث عابر وعلى المتلقي أن يحتك به، وليس ملزما بأن يستخرج منه استنتاجات وتأويلات معينة، فالحدث هو المهم في حد ذاته. أي أننا نواجه تجربة expérience في الحاضر فقط، تجربة زائلة ومنفلتة في الزمن ومنه. ما يجعلنا أمام ضرورة مساءلة -باستمرار- لأذواقنا وأحاسيسنا، مساءلة ناتجة عن الصدمة التي يخلقها العمل المعاصر.
قديما كان المتلقي يحضر إلى المعرض ليشاهد في هدوء ويرى بصمت الأعمال المعروضة بلا شوشرة. فحتى إبداء الرأي كان يقع خارج المعرض. وبشكل معاكس، فالمعاصرة مرتبطة بالصخب، والتجربة التي يسعر إليها “الحدث” المعاصر ويريد خلقها لا تكتمل إلا باهتمام بالمتلقي، بل جعله يتفاعل مع العمل وفي العمل. فالمتلقي مدعو في أعمال عدة إلى التحرك أو التفاعل بالصوت أو السمع أو الضغط على الأزرار أو الدخول في صلب الأثر وعملية خلقه. إن “المشاهد هو الذي يصنع العمل الفني”، يخبرنا مراسيل دوشان. وبأكثر جرأة فالعمل الفني المعاصر بات أكثر مرحا ولعبا ludique وتفاعليا interactif… فقد تخلينا مع المعاصرة (ما بعد الحداثة) عن الصرامة مقابل اللعب، كما يذهب إليه جاك دريدا.
- فن غير المكتمل:
ولا يسعى العمل المعاصر إلى تقديم أي حلٍ إلى المتلقي، فـ”لم يعد دور المثقف هو أن يقول للآخرين ماذا يتعين عليهم فعله”، يقول ميشيل فوكو. فالفنان/المثقف دوره زعزعت العادات والمتعارف عليه. لقد قلبت المعاصرة العلاقة بين الفنان والمتلقي. ولم يعد يصنع الفنان أعمالا بل “مقترحات”، وعلى المتلقي أن يتفاعل معها. ولا تكتمل إلا بتفاعل المتلقي معها. فالعمل يحضر باعتباره غير منجز بالكامل (ناقصا) inachevé.
لا تهتم المعاصرة بالكمال، فهي لا تسعى إلى أي تعال وسمو، إنها تعادي الكمال وتنتصر للأزمات. فأن تصنع عملاً فنياً يعني أنك في أزمات غير منقطعة ومتواصلة، تأخذك الواحدة إلى الأخرى.
التعليقات مغلقة.